ذ.عبد المنعم سبعي عندما وقف احمد عصمان في يوم أحد من أيام سنة 2007 بوجدة على منصة الخطابة بمناسبة المؤتمر الجهوي للشرق على غرار باقي الجهات الأخرى تمهيدا للمؤتمر الوطني الرابع بالرباط، تيقن كل الحاضرين أن ابن مدينة وجدة جاء إلى مسقط رأسه ليرسم معالم حزبه في خطبة الوداع، فمن وجدة كانت انطلاقة زعيم الحزب الأزرق وإليها سيكون الوصول بعد مسيرة 29 سنة من الزعامة السياسية بكل تعقيداتها. في هذا المؤتمر الجهوي، بدت ملامح الحزب ومآلاته تتوضح شيئا فشيئا، وبدت مشاكله تقرأ بكثير من الحذر،ولعل المآل الأكثر إيلاما يتحدد في مدى بقاء الجهة الشرقية تتربع على كرسي زعامة الحزب، كلمة مصطفى المنصوري يومها والدموع التي كان يذرفها خلال مقاطع من كلمته، والابتسامات التحقيرية التي كانت تصدر من شفتي صلاح الدين مزوار كانت تشي أن هاتين الشخصيتين سيشتد بهما الصراع في محطات لاحقة من الحزب، وبغياب الرئيس عصمان على الحزب سينقض تجمعيو الوسط والغرب على تجمعيي الشرق في محاولة لاسترداد الحق المهضوم. لكن قبل هذا المؤتمر بحوالي ست سنوات وبالضبط في فاتح نونبر 2001، اعتلى احمد عصمان منصة الخطابة بمناسبة انعقاد المؤتمر الثالث للتجمع الوطني للأحرار وبعد 18 سنة من آخر مؤتمر لهذا الحزب، وبحضور رؤساء الأحزاب السياسية ورموز الحركة الوطنية، ليبدو كذلك المحارب الذي حاول أن ينزع الشرعية الوطنية لصالح حزبه ويدحض الشبهات التي علقت به وبهيئته. تحدث أحمد عصمان في رحاب مبني مكتب الصرف، وكأنه في مرافعة قضائية امتزجت السياسة بالحجة التاريخية واختلط الحاضر بالديوان العاطفي، وبذلك كان في زعمنا خطابه هذا وصفة جديدة لملامسة تاريخ حزب تتلبد مراحله بالثنائية المتناقضة فهو حزب خرج من رحم السلطة بعد ولادة قيصرية، وتكون أكثر مشاكله مع السلطة التي لفظته. ذكر السيد أحمد عصمان الحاضرين بمن فيهم عبد الرحمان اليوسفي بما قام به الحزب لصالح الاتحاد الاشتراكي خاصة سنة 1982 حينما توجهت إرادة القصر لحل حزب الاتحاد الاشتراكي بعد أن رفض نتائج الاستفتاء الدستوري:"عندما سئلت عن رأيي أعلنت بتلقائية لا مواربة فيها، أنه لا يجوز في دولة ديمقراطية يحكمها ملك عبقري، وتعيش في ظل ملكية دستورية قمع الأفكار، ومحاربة الرأي الآخر بحل لأحزاب وتصفيتها..." كما ذكر الحاضرين بالضربات القوية التي تعرض لها حزبه من أوساط سماها سلطوية: “نتيجة لمواقفنا الصارمة، شرعت الأوساط السلطوية في التخطيط للقضاء على التجمع الوطني للأحرار، وظهور ذلك جليا عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات المحلية لسنة 1992 حيث دفع ببعض العناصر في محاولة انشقاق..." ولعل ما يعرفه هذا الرجل من أسرار سياسية غير عادية في مرحلة غير عادية، أكثر بكثير مما باح لوسائل الإعلام أو صرح به في اللقاءات والمنتديات، فهذا السياسي الذي سكنه الصمت بكل تجلياته كان يسترشد بالقول لا يمكننا أن نحرز أي نجاح بالصيحات العالية والتصرفات الطائشة. وقد صرح ذات مرة لأحد الصحفيين:" على السياسي أن يتكلم في الوقت المناسب إذا كان لديه ما يقوله." فمن هذا الرجل القادم من شرق المملكة، والشاهد على مسارات دقيقة من مغرب سياسي متقلب؟ ولد أحمد عصمان سنة 1931 بوجدة، تابع دراسته الابتدائية بمدرسة سيدي زيان ليلتحق بثانوية عمر بن عبد العزيز، ومع التقدم في الدراسة برزت مواهبه الفكرية والعلمية التي ستفتح له المدرسة المولوية أبوابها لمتابعة دراسته، ولم ينتظر السيد أحمد عصمان أن يتقرب من العائلة الملكية ويتصاهر مع القصر ليرتدي حذاء السياسة، لأن النشاط السياسي يرجع عندما كان يتابع دراسته بوجدة حيث انخرط في أنشطة حزب الاستقلال، وتعرف على رموز من الحركة الوطنية، كما بين ذلك في كلمته التي ألقاها سنة 1999 في ذكرى 16 غشت بوجدة، وهذا ما يؤكد مقولة أن المرء لا يكون سياسيا إذا لم يعانق السياسة في سن المراهقة. من المؤكد أن المرحلة التي ستفتح لأحمد عصمان خزائن السياسة بكل دهاليزها ومتاهاتها، هي المرحلة التي سيعمل فيها مديرا للديوان الملكي من سنة 1971 إلى سنة 1972 حيث سيتعرف على رجال السياسة من العيار الثقيل، وسيربط معهم علاقات جد وطيدة كعلال الفاسي وعبد الله براهيم ورضا كديرة أبا حنيني وغيرهم كثر، ولم يكن التعرف على مثل هذه الشخصيات الحسنة الوحيدة على أحمد عصمان في هذه المرحلة، بل سمحت له بتحضير مشروع دستور 1972 بمعية عبد الرحيم بوعبيد، وعبد الله ابراهيم وعلال الفاسي، هذا المشروع الذي رفضته الكتلة الوطنية كما أهلته هذه المرحلة لرئاسة الحكومة وقيادته للمسيرة الخضراء... عندما يتحدث السياسي المغربي عن المسيرة الخضراء يرتبط إسم التجمع الوطني للأحرار بهذه المرحلة فقد أبرزت دراسة سرية أن جل المشاركين في المسيرة غير منخرطين ولا مؤطرين في أحزاب سياسية، ولقد كان لفشل الحكم في استقطاب الحركة الوطنية إلى الحكومة عقب رفض الكتلة الوطنية لدستور 1972 وللمحاولتين الانقلابيتين ولأحداث 3 مارس 1973 أثرها الكبير في أن يفكر النظام في إعادة التوازن للمشهد السياسي بالمغرب عن طريق استثمار النتائج السياسية الداخلية للمسيرة الخضراء في الخريطة السياسية، ولأن السيد أحمد عصمان كان وزيرا أولا ويربطه بالقصر نسب المصاهرة، فقد كان الشخص الأنسب ليلعب الدور الريادي في هذا المشروع، ومن ثم سيعمل على أنشاء حزب التجمع الوطني للأحرار انطلاقا من 140 نائبا حرا ولجوا باب البرلمان كلا منتمين. وبما أن السياسة لا تقف عند احترام الاختيار ولابد أن تدخل الدولة كعقل استراتيجي لتوزيع الأدوار، فقد كان لذلك تداعيات أخرى في تكوين هذا الحزب، في البدء كان لادريس البصري دور كبير في إقناع الرافضين لإضافة حزب جديد للحقل السياسي من بين 140 نائبا وخاصة تلك الأطر القادمة من حزب الاستقلال أو الاتحاد الوطني ... وما أن حل أكتوبر 1978 حتى كان ادريس البصري قد سلم شهادة ميلاد التجمع الوطني للأحرار الذي ارتبط ارتباطا عضويا باسم رئيسه. ومن جحيم السياسة أن أحلام الأم الحاضنة لهذا الحزب هي نوع من تلك الأحلام الجميلة التي لا تترك لك عند اليقظة سوى روعة خاصة أنك صدقتها في لحظة ما واليقظة ستأتي عندما سيحاول الرجل كسب استقلالية عبر جرأة قد تراها السلطة نشازا على تربية دار المخزن. فهذا الرجل سيدافع عن علي بعتة في مرحلة حاسمة وسيعارض مشروع رفع الحصانة البرلمانية عن محمد اليازغي وسيوجه مذكرة إلى جلالة المغفور له الحسن الثاني عند إثارة ملف الاستفتاء في قضية الصحراء، ملتمسا منه ضرورة التحفظ في هذا الشأن، كما وجه له مذكرة أخرى بعد أحداث الدارالبيضاء سنة 1981 مؤكدا أن هذه الأحداث لها أسبابها من تفشي الرشوة واختلال موازين العدالة وسوء استعمال بعض أساليب السلطة... لذلك سيعرف التجمع عدة ضربات بدء بانشقاق 1982 وتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي، مرورا بانشقاق 1984 وتأسيس حزب الاتحاد الدستوري ووصولا إلى محاولات الطيب بن الشيخ والحافظي العلوي، من المؤكد أننا لن نخلط الحقيقي بالزائف، ما دمنا لا نحكم إلا على أساس ما هو واضح وجلي، ونعتقد أن من بين الواضح في مسيرة هذا الرجل هو النقد الذي وجه إليه في محطات مختلفة تمس الجانب المالي والتنظيمي فقد بلغت الديون المتراكة على الحزب عدة ملايير من السنتيمات وقد علق الرغاي باعتباره أحد مؤسسي الحزب: " منذ 20 سنة لم ينجز أي تقرير مالي، بل حتى ممتلكات الحزب لا يعرفها أعضاء المكتب التنفيذي إلا من رحم ربك وحظي بعطف السيد الرئيس." وخلال المؤتمر الثالث المنعقد في نونبر 2001، أثير موضوع الفساد المالي داخل الحزب خاصة في الجلسة العامة حيث قام السيد أنس بنصالح الزمراني (عضو سابق بالمكتب التنفيذي) وقال إن العضوية في المكتب التنفيذي تشترى بالمال وحسب ما نشر في جريدة الصحيفة عدد 39 فإن طوال أيام المؤتمر رابط عشرات الطامعين في عضوية المكتب التنفيذي أمام القاعة التي اتخذها عصمان مكتبا له، وقد اتصل رئيس جماعة بأحد المقربين من رئيس الحزب وعبر له عن استعداده لدفع 200 مليون سنتيم من أجل أن يحصل على عضوية في المكتب التنفيذي . ونعتقد بكثير من الجزم أن أحمد عصمان رغم الضربات التي كان يتلقاها من السلطة كعملية ترويض للرجل عن هويته المشاكسة، لم يكن يؤسس بذلك لمكانة متميزة بمسقط رأسه، بل لعل شعبيته داخل مدينة الألف سنة كانت تتهاوى مع مرور الأيام، وفي زعمنا قد كانت بعض الوجوه الإقطاعية والوصولية التي ارتبط إسمها بالحزب الأزرق بمثابة الدم الملوث الذي تسرب إلى جسم الحزب في مدينة وجدة كما نظن أن وجود ابن أخي السيد أحمد عصمان على رأس باشوية المدينة لمدة طويلة بكل تسلطها وجبروتها وقد أعطى الانطباع لكثير من المواطنين أن حزب عصمان لا يعدو أن يكون حزبا إداريا من النشاة إلى الآن ولعل اقتناع السيد أحمد عصمان بمثل هذه المعطيات، هو ما حذا به إلى تقديم ترشيحه خلال بعض المحطات الانتخابية السابقة خارج المدار الحضري للمدينة لأن التأثير على الشخص البدوي في غاية البساطة والسهولة شريطة تجند أعوان الداخلية والاسترشاد بتقطيع انتخابي مجدي.