دسترة الحق في الصحة والبيئة من الانتظارات والمطالب الأكثر حيوية شمولية المنظور المعتمد في دسترة الشأنين الصحي والبيئي قد لا يختلف إثنان حول أن تدبير الحق في الصحة والبيئة السليمة كما أقرهما، ولأول مرة مشروع الدستور الجديد لن يكون فاعلا إلا في إطار إعمال مبادئ الحكامة الجيدة، لكن الاختلاف قد يكون حول مدى استجابة هذا الإقرار للانتظارات ومدى فاعلية ما ستتم صياغته مستقبلا من نصوص قانونية زجرية أو تحفيزية. إذ كلما كان الشأن كلا مصيريا ضمن المعيش اليومي للمواطن، كما هو الأمر بالنسبة لتدبير الجانبين الصحي والبيئي في تلازمهما الفريد، (حيث تتوقف صحة الفرد على سلامة محيطه ويتفاعل هذا الأخير إيجابا أو سلبا مع طبيعة تدخلات هذا الفرد)، كلما اتسعت الانتظارات وتشعبت، وصارت الاجتهادات المبذولة في هذا المجال جزءا من سلسلة قابلة للإضافة والتجديد، في بحث متواصل لتحقيق الكفاءة والفاعلية اللازمتين. وما من شك، في هذا الإطار، أن فاعلية الأداء تستلهم روحها من فاعلية الأداة المعتمدة، فيما تستقي النتائج إيجابيتها وتأثيرها العملي من انسجام الأداة والأداء مع معطيات الواقع وحجم الاستجابة للانتظارات، وكذا وعي الفاعل المدني بأهمية هذا المنجز وضرورة الانخراط في إعماله، لكن تحديد حجم الاستجابة وفاعليتها يتطلب معاينة ذلك على أرض الواقع، حينما تتحقق أجرأة هذه المضامين. ومن ثمة سيكون من المشروع مصادرة هذا التحليل بحقيقة أن أي حكم قيمة يبقى من قبيل التكهن والاجتهاد الذي يقع في دائرة التوقع النظري، وأن حسنته الوحيدة أن يستند في مقاربته إلى مقارنة من الناحية المبدئية مع تجارب بعض الدول في إعمالها لدساتير عنيت على نحو مماثل أو أكثر بهذين الشأنين. دسترة الحق في الصحة والبيئة من الانتظارات والمطالب الأكثر حيوية
لكن الأكيد أن دسترة الحق في الصحة والحق في بيئة سليمة كان جزءا من الانتظارات والمطالب الأكثر حيوية المعبر عنها، وإن بتفاوت، من قبل جميع الأحزاب والهيئات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، ومثلت ضرورة ملحة في قلب التحولات الخطيرة التي يعرفها المناخ والبيئة على الصعيد العالمي بما لها من تأثيرات سلبية على جميع مناحي حياة الإنسان، الصحية منها بالدرجة الأولى، خاصة في ظل بروز اختلالات على مستويي الوقاية والمتابعة العلاجية لعدد من الأمراض المستجدة منها والسارية محليا وعالميا. وتنبغي الإشارة أولا إلى أن دستور 1996 والدساتير التي سبقته أغفلت البعدين الصحي والبيئي بالإطلاق، وأن من أهم حسنات مشروع الدستور الجديد أنه عالجهما من خلال الفصول (19 ،31 ، 34 ،35 ،71، والباب 11 بفصوله التنظيمية المحدثة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي)، وأكد إلزامية مسؤولية الدولة تجاههما وأهميتهما في حياة الفرد والمجتمع وحسن سير الحركية الاقتصادية والتنموية.
شمولية المنظور المعتمد في دسترة الشأنين الصحي والبيئي وسلكت هذه المعالجة سبيلين؛ أحدهما مباشر كالفصل 31 "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في: العلاج والعناية الصحية، والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة (...) السكن اللائق (...) الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة والتنمية المستدامة"، والآخر غير مباشر ولكنه هادف مثل (الفصل 35 ). وتنبغي الإحاطة في هذا الفصل بخط على جملة "الحفاظ على الثروات الطبيعية الوطنية، وعلى حقوق الأجيال القادمة" في تركيزها على بعد المحافظة على الثروات الطبيعية الوطنية في شموليته وبعد مراعاة حق الأجيال اللاحقة. وكما هو واضح، فقد جاءت معالجة مشروع الدستور للشأنين البيئي والصحي ضمن منظور شمولي، يدمجهما في إطار الباب الثاني (الحريات والحقوق الأساسية) وأيضا في الباب الرابع (السلطة التشريعية) ضمن الفصل 71 الذي ينص على الميادين التي يختص القانون بتشريعها (مبادئ وقواعد المنظومة الصحية) و(علاقات الشغل والضمان الاجتماعي وحوادث الشغل والأمراض المهنية) و(القواعد المتعلقة بتدبير البيئة وحماية الموارد الطبيعية والتنمية المستدامة) و(نظام المياه والغابات). ويرد المعطيان الصحي والبيئي أيضا ضمن سياق التوجه العام لتحقيق التنمية البشرية المندمجة والمستدامة (الفصلين 35 و136)، والتنمية المستدامة (الفصل 31) و(الفصول 151 و152 و153 من الباب الحادي عشر+ المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي+). ويتم تعضيد هذه المعالجة، كما لاحظ الأستاذ خالد فتحي، عضو المجلس الوطني لحزب الاستقلال، نائب عمدة سلا، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، بفصول أخرى قد تبدو بعيدة عنها، ولكن القراءة المتأنية تكشف خدمتها للبعد الحمائي للحق في الصحة والبيئة، منها الفصل 27 الذي ينص على أحقية "المواطنين والمواطنات في الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام". وأوضح أن من شأن إقرار هذا الحق أن يكشف النقاب عن المخالفات والجرائم المرتكبة في هذا المجال، ويتيح إمكانية إجراء المتابعات القضائية اللازمة, مؤكدا أن إحداث المحكمة الدستورية سيكون "رادعا أساسيا وكابحا ضمنيا لأي تشريع أو قرار يضر بهذا الحق أو ذاك". وسجل البروفيسور فتحي الأستاذ بكلية الطب بالرباط (تخصص جراحة النساء والولادة)، أن الإقرار بالحق في بيئة سليمة (من سكن لائق) وشروط حيوية للعيش (الماء) و"العلاج والعناية الصحية" و"الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من طرف الدولة" (الفصل 31 ) يؤكد ليس فقط "إلزامية الدولة بتوفير الخدمة الصحية في حالة المرض بل ويشمل الجانب الوقائي" وجانب التغطية الصحية. وأضاف أنه يشمل أيضا مسؤوليتها عن توفير العدد الكافي من المؤسسات والأطر الصحية المختصة، وعن توزيعها أيضا بشكل عادل على جميع الجهات، وتحقيق العدالة والمساواة في استفادة المواطنين من هذه الخدمات. وخلص إلى أن ذلك يتضمن "اعترافا صريحا بمركزية الإنسان في التنمية المستدامة"، ورسالة موجهة ليس فقط للداخل وإنما للخارج أيضا، خاصة دائرة الفاعلين الاقتصاديين، مفادها أن المغرب ليس بالبلد الذي قد يفرط في سلامة بيئته أو يسمح بجعلها مطرحا للنفايات السامة. وفي المقابل، يلح أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بفاس السيد أحمد مفيد، في حديث مماثل للوكالة، على أن دسترة الحق في الصحة والبيئة، وإن مثلت "تقدما كبيرا" لا شك فيه، فإنها "لا تشكل غاية في حد ذاتها، إذ المطلوب والغاية أن يتم تكريس هذه الحقوق على أرض الواقع"، مسجلا أن تكريسها يفرض على السلطات العمومية توفير المتطلبات المادية واللوجستية الضرورية، وفق ما تنص عليه مجموعة من الدساتير في الدول الديمقراطية. ويرى الأستاذ مفيد أن إيلاء صلاحيات العناية بالشأن البيئي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي تم التنصيص عليه في دستور 1996 ولكنه لم ير النور إلا سنة 2010، له دلالته الخاصة ويفرض بالنتيجة تعديل القانون التنظيمي المتعلق به وتخصيص مجموعة من المقتضيات، مستدركا بالقول أنه يتعين أن "لا يغيب عنا بأن هذا المجلس هو مجرد مؤسسة استشارية ولا يتمتع بصلاحيات تقريرية". وفي اطار علاقة هذا الاقرار بالحكامة الجيدة، أكد أستاذ القانون الدستوري أن الحق في البيئة كما الحق في الصحة وسائر حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أصبحت ملزمة للدولة المغربية ولو في غياب النص عليها في القوانين الوطنية، موضحا أن هذا الأمر هو نتيجة منطقية لأسبقية القانون الدولي لحقوق الإنسان على القوانين الوطنية، كما أنه نتيجة لتفعيل تشبت المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. وأضاف أن لهذه الحقوق ارتباط ببعض مؤسسات الحكامة المنصوص عليها في الباب 12 من الدستور وبالخصوص بمؤسستي المجلس الوطني لحقوق الإنسان والوسيط . وفي خضم هذا الإقرار التاريخي، والأول من نوعه على الصعيد الوطني، بالحق في الصحة والبيئة دستوريا، ينبغي، استحضارا لحقيقة الأمور، عدم التغافل عن الإنجازات القانونية والمؤسساتية التي رافقت عملية النضج للوصول إلى هاته المرحلة، والتي ساهم فيها خبراء وأكاديميون وتقنيون وفاعلون مدنيون، واستمدت نسغها من متطلبات الواقع ومقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادق المغرب على غالبيتها، إذ أن خلو الدساتير السابقة من هذا الإقرار، لا يعني بالضرورة الغياب الكامل للبنى القانونية والمؤسساتية التنظيمية لمجالهما وامتداداتهما داخل باقي القطاعات الأخرى.