سجل محمد الغالي، أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق بمراكش، تصاعد منحى دسترة المؤسسات في دستور 2011 بالمقارنة مع الدساتير السابقة. مبرزا على أن هذا الارتفاع يعود إلى منهجية التفصيل، وحتى الوصف أحيانا، التي اعتمدها مشروع الدستور الحالي، وكذلك جو التوافق السائد الذي فرض الاستجابة لأكبر عدد ممكن من المطالب. وشدد الباحث الجامعي على أن الدسترة تعني مزيدا من التكريس للثقة ومزيدا من الوضوح والشفافية، كما تشكل آلية مؤسساتية لتوزيع المسؤوليات وتوضيحها وعدم احتكارها. مؤكدا على أن الفعل الذي يصدر عن مؤسسة مدسترة تكون له قيمة أكبر من الفعل الصادر عن مؤسسة غير مدسترة في حالة التنازع. من جانب آخر قال الغالي في هذا الحوار المخصص ل»التجديد»: المثير للتساؤل هو أن بعض المؤسسات المدسترة ومنها مؤسسة من حجم المجلس الأعلى للأمن لم يتم التنصيص على تنظيمها بمقتضى قانون تنظيمي كما هو حال تنظيم المحكمة الدستورية، أو البرلمان، أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. كل ذلك ومحاور أخرى تجدونها في متن هذا الحوار وإليكم نصه: ❒ بداية من ناحية المفاهيم، ماذا تعني دسترة مؤسسة معينة؟ وما الفرق بين مؤسسة مدسترة ومؤسسة غير مدسترة، أي القيمة المضافة للمؤسسة المدسترة؟ ❒❒ للإجابة عن سؤالكم أشير إلى أن القانون كمجموعة من القواعد يعرف تراتبية من حيث قيمتها، فالقواعد المنصوص عليها في الوثائق الدستورية هي السامية وهي التي تحظى بالأسبقية في التطبيق وهو ما يعرف في الفقه الدستوري بسمو الدستور، تليها من حيث الدرجة القوانين التنظيمية بصفتها قوانين مفسرة ومكملة للمقتضيات المنصوص عليها دستوريا، وما يؤكد لها هذه القيمة في الدرجة بعد الدستور، أن هذه القوانين بعد المصادقة عليها لا تصبح سارية المفعول من حيث التطبيق إلا بعد عرضها على المجلس الدستوري لفحص مدى تطابق مضمونها مع الدستور؛ فالقانون التنظيمي بمثابة قانون دستوري من الدرجة الثانية، ويلي القوانين التنظيمية من حيث الدرجة القوانين العادية والتي يتعلق موضوعها بما هو منصوص عليه في الفصل 46 من دستور 1996 ويقابله حاليا الفصل 71 من مشروع دستور 2011، وعليه في حالة وقوع نزاع أثناء وجود قواعد متضاربة تنظم نفس الموضوع، فان الذي يرجح أولا هي القواعد المنصوص عليها صراحة في الدستور. وعليه دسترة مؤسسة يعني إعطاؤها قيمة أكبر، مما يضمن فعالية قراراتها كما وقع بالنسبة لدسترة المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط وغيرها من المؤسسات الأخرى؛ فالفعل الذي يصدر عن مؤسسة مدسترة تكون له قيمة أكبر من الفعل الصادر عن مؤسسة غير مدسترة في حالة التنازع. ❒ إذا قارنا بين دستور 1996 ومشروع دستور 2011 كم هو عدد المؤسسات المدسترة في كلتا الوثيقتين؟ وكيف نفسر هذا التوجه المتصاعد نحو دسترة المؤسسات في الوثيقة الدستورية؟ ❒❒ الملاحظ في مشروع دستور 2011 أن وثيرة القوانين التنظيمية تصاعدت بشكل جد ملفت للانتباه. ففي دستور 1996 لم يتجاوز عدد القوانين التنظيمية المنصوص عليها حوالي عشرة في مقابل 108 فصل الذي كان يتشكل منه. بينما في مشروع الدستور الحالي وصلت إلى حوالي عشرين قانون تنظيمي، أي أن العدد تضاعف، في مقابل 180 فصل، وفي اعتقادي أن هذا الارتفاع يعود إلى منهجية التفصيل، وحتى الوصف أحيانا، التي اعتمدها مشروع الدستور الحالي، وكذلك جو التوافق السائد الذي فرض الاستجابة لأكبر عدد ممكن من المطالب التي تقدمت بها مختلف الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والجمعيات المدنية والشخصيات التي شاركت في التشاور لأعداد مسودة الدستور، فهذا التفصيل الذي ترجمته كثرة التنصيص على القوانين التنظيمية تجسد هاجسه في مقصد تكريس الثقة بين مختلف الفاعلين، ورغبة أكيدة في إحاطة الالتزامات والواجبات المتبادلة بالقوانين التنظيمية كضمانة مؤسساتية. ولكن في المقابل يلاحظ بأن بعض المؤسسات الدستورية الجديدة المنصوص عليها، وخاصة المجلس الأعلى للأمن لم يتم التنصيص على تنظيمه بمقتضى قانون تنظيمي رغم حساسيته وأهميته، ولكن فقط بمقتضى نظام داخلي يحدد قواعد تنظيمه وسيره.. وعليه سلوك المضي بالسمو بمجموعة من المؤسسات إلى مرتبة دستورية تمليه الرغبة في تكريس التراضي والتوافق المكتوب كآلية في إدارة وتدبير المرحلة الحالية التي في اعتقادي مؤشراتها دالة بأنها لازالت انتقالية، فالديمقراطية الحقة يجسدها الصراع المؤسساتي الحقيقي من داخل المؤسسات الدستورية كفضاء عمومي للنقاش والتنافس الشريف بين البرامج والأفكار.. ❒ في نظركم لماذا اتجهت التعديلات الدستورية نحو دسترة عدد من مؤسسات الحكامة؟ هل هو إعلان للقطيعة مع نوع من السياسات العمومية السابقة؟ ❒❒ بالفعل الدستور الحالي يطرح مشروعا جديدا ينبني على منطلقات جديدة في تدبير العلاقة بين الدولة والمواطن، علاقة تنبني على أسس الحكم الرشيد الذي تتحدد مبادئه من خلال الشفافية والنزاهة والمشاركة الفعلية للسكان في مسلسل اتخاذ القرارات العمومية، وحكم القانون. فالقراءة الدقيقة والمتمحصة لمختلف مقاطع مشروع الدستور الحالي توضح المجهود الكبير الذي بدل من خلال التنصيص لأول مرة في متن الدستور على أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وعليه تم إفراد باب خاص بالحكامة وهيئاتها، فمثلا من أجل تيسير سبل ضمان انتخابات حرة ونزيهة تم لأول مرة الارتقاء بالتقطيع الانتخابي من عمل تنظيمي تتحكم فيه الحكومة خاصة وزارة الداخلية، إلى عمل تشريعي يتداول ويقرر فيه ممثلو الأمة (البرلمان)، وكذلك القيود التي وردت على الحصانة البرلمانية والتي أعطت إشارات واضحة بأن البرلمان المقبل لم يعد ليشكل ملاذا آمنا للفاسدين الذين يبحثون عن العضوية في البرلمان لتحصين أنفسهم من حكم القانون، وبهذا لم تعد الانتخابات بالنسبة لهم رقما مجديا !!!؛ كما أن مشروع الدستور الحالي كان حازما لمحاربة استغلال النفوذ، وربط للمسؤولية بالمحاسبة وفي اعتقادي أنه بهذه الإجراءات اكتسب هوية تميزه عن دستور 1996 في مناهج وضع والنهوض بالسياسات التي تخدم المواطنين والمواطنات.. ❒ ماهي القيمة الإستراتيجية لدسترة مجلس أعلى للأمن لأول مرة في المغرب؟ ❒❒ المسألة لا تتعلق بدسترة شيء كان موجودا من قبل، بل تتعلق بتنصيص جديد على مؤسسة تم إحداثها لأول مرة، في الحياة المؤسساتية المغربية، ونظرا لأهميتها وحساسيتها تم التنصيص عليها مباشرة في الوثيقة الدستورية، لكن المثير للتساؤل هو أن مؤسسة من حجم هذه المؤسسة لم يتم التنصيص على تنظيمها بمقتضى قانون تنظيمي كما هو حال تنظيم المحكمة الدستورية، أو البرلمان، أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.. بل تم التنصيص من خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 54 من المشروع الجديد على أن هذه المؤسسة ينظمها نظام داخلي هو الذي يحدد قواعد سيرها وتنظيمها، مما يطرح سؤال القيمة الدستورية أمام القانون التنظيمي؟؟ وفي اعتقادي هذه مسألة جوهرية يجب تداركها، وإلا فقد المجلس قيمته في مقابل المؤسسات الأخرى التي ينظمها قانون تنظيمي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قيمته الإستراتيجية في الأمور المرتبطة بالأمن القومي للبلد والتي تعتبر في سلم الأولويات الأجدر وذات الأسبقية.. ❒ بالمقابل لم تتم الاستجابة لمطالب عدد من مذكرات الأحزاب والجمعيات في دسترة عدد من المؤسسات كمؤسسة مراقبة أموال الأوقاف ومؤسسة أعلى للزكاة ومؤسسة محمد السادس للغة العربية. هل من سبيل لقراءة هذا الموقف؟ ❒❒ أشير أولا من باب التكافؤ المؤسساتي مشروع الدستور الحالي لا يستثني أية مؤسسة من الرقابة لأنه يربط المسؤولية بالمحاسبة، وعليه تشكل مؤسسة الأوقاف مؤسسة وطنية يتم فيها تحمل مسؤولية إدارة أموال الدولة، وهي بهذا تكون خاضعة بحكم القانون للمقتضيات العامة للمحاسبة المنصوص عليها، وفي اعتقادي لماذا تمييز هذه المؤسسة عن مثيلاتها الأخرى في الوقت الذي يطالب فيه بجمع وتوحيد آليات الرقابة على المال العام؟؟. وفي سياق سؤالكم لماذا لم يتم دسترة بعض المؤسسات رغم المطالبة بذلك؟ هذا قد يرجع في جانب إلى ضعف حجج أو منطق الإقناع لدى الجهة المترافعة أمام اللجنة. أو أن المسألة لازال ينظر إليها من باب المجال المحفوظ لبعض المؤسسات، وبالتالي الوقت لم يحن بعد لمأسستها دستوريا، وكذا جعل سقف المطالب مفتوحا وعدم استنزافه بالمرة!!! ❒ هل تشكل إستراتيجية دسترة عدد متزايد من المؤسسات مدخلا للامركزة السلطة بالمغرب؟ ❒❒ عملية الدسترة تعني مزيدا من التكريس للثقة ومزيدا من الوضوح والشفافية، كما تشكل آلية مؤسساتية لتوزيع المسؤوليات وتوضيحها وعدم احتكارها، وتقوية الإيمان والاعتقاد فيها بأن دورها رئيسي وليس تشريفي أو بروتوكولي، وبالفعل الدسترة يمكن أن تخدم من بعض الجوانب مسألة التخفيف من مركزية السلطة، لأن منح مؤسسة قيمة دستورية هدفه جعلها أكثر نجاعة وفعالية وهذا ما لا يتحقق إلا بتمتيعها باستقلالها المالي والإداري والبشري وكلها مقومات لتجسيد لا مركزية السلطة.. ❒ ماهو المطلوب من الناحية السياسية والقانونية لإعطاء مفهوم دسترة المؤسسات بعدها الفعلي على أرض الواقع وفي تفعيل وظائف تلك المؤسسات؟ ❒❒ علاقة الدولة بالمواطن لا يمكن أن تحل بمقتضى نصوص قانونية، فالنص القانوني شرط لازم لكنه غير كاف، والتساؤل الذي يطرحه المواطنون يكمن فيما بعد الدستور وهنا تطرح جدلية النص بالواقع، أي كيف ننتقل من النص إلى الواقع، إلى التطبيق، إلى التجسيد العملي والفعلي لمضامين النص، أي إلى أي حد استطاع النص التأثير ايجابيا في مراكز الناس، وأرجع إلى مسألة القوانين التنظيمية التي حطمت من حيث كثرة ترددها في الدستور كل التوقعات حتى أنني كدت أصفها في بعض المقاطع من مشروع الدستور بمثابة الشرط الواقف عليه الحق، لأن السؤال يطرح في حالة وجود موانع تحول دون صدور نص القانون التنظيمي المنظم للحق رغم أن الفصل 86 من مشروع الدستور الجديد ينص على أن القوانين التنظيمية المنصوص عليها في هذا الدستور تعرض وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا القانون. فالعبرة ليس فقط في صياغة السياسات ولكن في قدرة هذه السياسات على الإجابة على حاجيات ومتطلبات وانتظارات الناس في أمورهم المعيشية والمرتبطة أساسا بالصحة والشغل والسكن اللائق والبيئة السليمة.. وكلها مقومات ترتبط أشد الارتباط بطبيعة ثقافة وقيم الالتزام السائدة في المجتمع وأقصد على الخصوص الالتزام المؤسساتي الذي تخلقه الأحزاب، والنقابات، والجمعيات ومختلف مؤسسات الإنتاج الاجتماعي، فكما يقال العبرة فقط ليس في الإقرار وإنما في التجسيد الفعلي الذي يضمن التمكين وتكافؤ الفرص بين مختلف المرتفقين المستفيدين من خدمات الدولة.