كانت مساحة الضيق أفقي، كأنما ذيول المغفرة لا تسع، تاهت في ليلة الحمد حين أفصحه، شفاعة لبرودة الحال، وهروبا من حرج اللحظة.. لم أكن لصا بعد، يسرق رائحة الشواء الذي يمتصه أنفه المتخم بانسداد الشهوة، في زحمة الظهيرة، أو في حيان الظلمة.. في كل الصباحات، كنا نلتقي عند عتبة المقهى.. يبتسم في وجهي ماكرا.. تتداعاه شماتة القفزة النوعية التي طالته أيام الغفلة، فرفعته إلى مكارم الموالي، وحاصرتني أنا، في السراديب القهرة. تفسخت بيننا نعمة الفرقة.. أناديه سيدي.. يبتسم.. فتمتصني ابتسامته.. أناديه السيد مذ قسمت بيننا الهوية.. بالأمس، كنا الرعية التي كانت تتقاسم بود هواجس المراهقة المشتركة.. كنا نكتب للنساء نفس الرسالة، ونغني نفس الأغاني.. نحلم بالحب الذي اعتلى فوق عتبات الطبيعة.. ونشرب من نفس القطرة، نبيذا في الكأس المشتركة.. واليوم، حين انتفخت بطنه، بدا يحسدني على نشوتي الجامحة لابتلاع دخاخين المشوى، لذلك بدا ينفثها إلى ما فوق، وأنا كنت أتحسسها رغم أنفه.. وحين أكاشفه، وأحمله على هواجس الرغبة في توافق جديد، يكبر فيه الحنين إلى ما قبل انسداد الشهوة.. كنا نلتقي في المقهى ذاتها التي تربعت على عرش المدينة.. قبالة قضيب نافورتها الوحيدة التي تنفث السراب.. كانت وحدها رمز هذا الضياع الذي يكتنفنا، وتولي بيعتها في كل حين، لمواسم الأعراس الماجدة تحت شرفة الموالي.. كان يتربع على عرشها في كل موسم انتخابي قبيلة، وكانت كل قبيلة تمهلنا أن نسير في رحابها، وكنا نمانع ، فاحتلت أسماؤها المقاهي، فكنا نمانع، فدشنت في كل الأروقة التفاهة، وكنا نعشق الأروقة.. وأصبحت المدينة تعشق أيضا سادة القبيلة.. كنا نلتقي في المقهى ذاتها.. كان يكبر الصدع بيننا يوما بعد يوم.. ينفخ صدره كالدجاج الهندي.. وأنا، كنت أسخر منه لانغماسه في زمن الولاء.. كنت أحتقر فيه حتى تلك الشفقة التي يحيطني بها؛ عندما يمضي، يؤدي قسيمة قطرة البن التي حطها النادل بين يدي.. ورغما مني، ولفتح مساحة الضيق، كنت أتجرعها ثمنا للمودة التي يقضيها؛ استمالة للذين رفعوه فوق مستوى قدي؛ ليأخذ كرسيا ثمينا في مجلس المدينة، كان يفعلها على حسابي.. وكنت حينها قد بالغت في حاجتي إلى وده، تيمنا بأيام المراهقة.. عندما كنا ننتمي إلى نفس الهوية.. والآن، أصبحنا في المفترق.. صنعت لنفسي قفصا آخر للهوية.. وصرنا رفاق فرقة..