لم يشهد مطار القاهرة الدولي استقبالا شعبيا ( عدا استقبالات الفريق الوطني لكرة القدم بعد فوزه ببطولة افريقيا)، كما شهده يوم وصول رئيس وزراء تركيا حيث تمجهر عشرات آلاف، منتظرين 'الزعيم' الجديد للحالة الشعبية العربية، استقبال كسر كثيرا من التقاليد السياسية، بل وأظهر بعض مما لم يعد يقال منذ عشرات السنين، بخصوص الخلافة الاسلامية إذ بادر المستقبلين بفتح أمل الخلافة العثمانية للدولة الاسلامية التي يريدها البعض أن تكون حتى وإن قالوا او أظهروا غير ذلك، مظاهرة استقبال وكأنها رد مصري بطريقة ' اخوانية' على الاستقبال الإسطوري للرئيس الإيراني أحمدي نجاد من قبل 'شيعة لبنان'، في حينها وصفه البعض بذاك الاستقبال التاريخي للزعيم الخالد للأمة العربية جمال عبدالناصر، وتكرر مشهد مقارب مع أردوغان.. ولم يكن الاستقبال الخاص سوى بعض من أشكال إستعراض القوة الذي يسيطر على المشهد المصري في زمن عشية الانتخابات أو ما تشهده 'ارض المحروسة' من صراع بعضه علني وبعضه غير علني على إدارة الدولة المصرية في المرحلة المقبلة، ولذا لم يكن الاستقبال ترحيبا شعبيا فحسب، بل رسالة استفادة من زيارة لرئيس وزراء بات 'بطلا شعبيا' في الذاكرة المواطنية العربية، سواء كان ذلك حقا أو به غير ذلك.. وكانت اليافطة الأخوانية المرحبة تمييزا للحضور كي لا تختلط المشاهد، : (أردوغان اردوغان .. الف تحية من الإخوان..)، رسالة لها دلالتها.. فتوقيت الزيارة الأردوغانية لمصر في غاية الأهمية، حيث تمر مصر بحالة استقطاب سياسي فريد، ربما لم تشهده يوما في تاريخها المعاصر، الصراع حاد بين قوى مختلفة، وإن تمحورت في نهايتها على محاور رئيسية ثلاية، بينها المدني – الديمقراطي، والوسطي فيما يمكن تصنيفه بين المدني الليبرالي والتوجه الديني المعتدل، وآخر يضم غالبية التيار الإسلامي مع حزب الوفد فيما يسمى ب'التحالف الديمقراطي'، لكنه تعرض لهزة كبيرة بخروج قيادات وفدية بارزة ترفض هذا التحالف مع الإخوان والتيار الاسلامي، وتحديدا بعد أن رفض هؤلاء التوقيع على 'وثيقة الأزهر' لبناء مصر ديمقراطية مدنية، واعتبروها وثيقة غير ملزمة، وجاءت أحداث جمعة 'تصحيح المسار' ورفض تحالف الوفد والإخوان المشاركة بها، لتلقي بارودا يفجر وحدة الوفد الداخلية، تآكل داخل تحالف في زمن عصيب، أربك حسابات قواه ومكوناته كافة، ولذا اعتقد البعض أن زيارة أردوغان بكل ثقله وشعبيته ستشكل عنصر قوة للتيار الإسلامي، تساهم في تغطية ما يتعرض له من إشكالات مع غالبية القوى الديمقراطية في مصر، بل وبداية اختلاف علني مع توجه المجلس العسكري للقوات المسلحة، رغم التوافق الكبير بينهم منذ انتصار الثورة الشعبية بخلع الرئيس مبارك.. خلاف رأت فيه بعض التيارات الفكرية نهجا يكرر سلوك وممارسة الإخوان في التحالفات تاريخيا.. ولكن ما حدث في اليوم التالي للزيارة وبالتحديد في خطاب الجامعة العربية لرئيس وزراء تركيا، اشعل نيران لم تكن في حساب آلاف المستقبلين له في مطار القاهرة وكأنه 'الخليفة المنتظر'، قال أردوغان العبارة التي لن تمر مرورا عابرا في المشهد السياسي المصري وسيكون لها آثارها المدوية في المستقبل القريب، '' أدعو المصريين الى بناء دولة علمانية..فالعلمانية هي الطريق لحل مشكلات الدولة المصرية الراهنة..' كلمات قالها مخاطبا شعب مصر ومن يحتفى به في التيارات الإسلامية وكأنه 'مرشدهم العام'، بفضل ما تحقق لتركيا من إنجازات وتقدم ورقي منذ تولى الحكم بشكل ديمقراطي.. عبارة ستهز أركان تيار 'الاسلام السياسي'، خاصة أولئك الذين يخوضون معاركهم على قاعدة خلق 'فزاعة العلمانية' أمام الشعوب العربية، بل أن هناك من يصرح أنه سيتم 'طرد العلمانيين' من البلاد حال الانتصار ( علي الصلابي من اخوان ليبيا)، عبارة لن تمر مرورا عابرا وسيكون لها دلالات مؤثرة جدا في معارك مصرية السياسية – الفكرية القادمة، ولذا لم يتوان أحد ابرز قيادات التيار 'المعتدل – المستنير' في الاخوان وحزبهم المسمى حزب الحرية والعدالة على شن هجوم غير مسبوق على أردوغان، فأكد أنه 'تعجب جدا من كلام رجب طيب أوردغان'، بل وشكك في ترجمته من التركية للعربية لأنه 'لا يحق له التدخل في شئون مصر الداخلية' ، وقال العريان إنه 'لا يعرف كيف لرجل دولة مثل أوردغان أقسم علي احترام ارادة الشعوب أن يتدخل في كيفية اختيارالطريقة التي تبنى بها مصر' ، وأضاف '' الاخوان قالوا أنهم سوف ينظرون الي كل النماذج الدولية الناجحة والفاشلة والمتوسطة للتعلم منها والاستفادة منها ، ولكن تظل تجربة المصريين مختلفة ومتميزة ولايمكن أن نطبق كل ما حدث في تركيا في مصر ، وأوردغان يتكلم من واقع مجتمع علماني من الأساس بنص الدستور علي عكس مصر'' . وما كان لمثل الكلمات الحادة جدا أن تكون لولا ما تعيشه مصر حاليا من استقطاب يريد البعض ان يستخدم الدين وسيلة وقطارا لقطف 'ثمار الثورة' والاتجاه بها نحو مسار يبتعد عن الدولة المدنية الديمقراطية، ما يتناقض مع ما يتم الحديث عنه في مناسبات مختلفة، وجاء موقف العريان ليكشف حقيقة رفض الإخوان وحزبهم لوثيقة الأزهر، التي نصت نصا صريحا لا غبار عليه بأن مصر دولة مدنية ديمقراطية، دون أن تصادر أن الاسلام المصدر الرئيسي للتشريع، لكن مع احترام حقوق الشرائع المذهبية الأخرى، وحددت فصلا واضحا بين السلطات، ولذا رفضهم لوثيقة الأزهر هو بذات الدافع لرفضهم 'عبارة أردوغان'، فبعد أن كان خليفة منتظر قبل ساعات، بات لا يحق له التدخل في شؤون الدول الأخرى، وهم قبل غيرهم من يطالبونه بالتدخل الفوري السريع في سوريا بكل السبل والأشكال.. الغريب أن قوى 'التيار الاسلامي' تصر على أن تأخذ من التجربة التركية ما يحلوا لها من مظهر شكلي، تريد أن تصيغها لما تريد وليس لما هي تجربة فريدة في التعاطي مع 'التجربة الديمقراطية'، ليس كتجربة السودان مع الترابي – البشير ثم البشير منفردا، ولا تجربة الجزائر وما آلت اليه، ولا 'نموذج حماس' في التعاطي مع التجربة الإنتحابية الديمقراطية، فحزب العدالة والتمنية التركي لم يقدم نفسه حزبا من تيار 'الإسلام هو الحل' بل أعلن أنه لا يريد تكريس حكما ديكتاتوريا عسكريا وايضا لا يسمح بسلطة دينية على الدولة، حزب اعتمد في البحث عن كل ما يخدم 'تركيا أولا'، وكل السبل والطرق والمواقف تنطلق من تلك البنية الأساس للمفهوم الأردوغاني الذي نجح بشكل مذهل في توظيف 'كراهية الشعوب العربية لإسرائيل' لخدمة رؤيته السياسية ومصلحة بلده، ولم ترهبه أي شعارات أو نداءات لا تخدم تلك الرؤية، ولعل الذاكرة لا تزال تحتفظ بكيفية التعامل مع 'المسألة الليبية' حيث مصالح تركيا فيها قدرت ب15 مليار دولار، لم ينجرف وراء 'العاطفة السياسية' بل ذهب لمصلحة 'تركيا أولا'، ولذا وبعد أن بات القرار الأطلسي بالتدخل العسكري حقيقة واقعة، ادركت القيادة التركية أنه الزمن المناسب للإنقلاب الشامل لتكون رأس حربة لخدمة التحالف الأطلسي – العربي، وعادت لاستخدام 'العاطفة السياسة' بذكاء مذهل أنست الجميع ما سبق.. وها هي اليوم تعود لتصعيد سياسي غير مسبوق مع 'حليفتها السابقة اسرائيل'، موقف طرد السفير وتخفيض التمثيل، والتلويح بزيارة غزة، وارسال السفن البحرية للمتوسط، حالة من الاستخدام الذكي لكراهية الأمة لدولة الاحتلال، غابت عن غالبية حكام العرب، يريد توظيفها نحو خدمة مصلحة تركيا العليا في الحضور الإقليمي وأيضا في المصالح الاقتصادية، فالمتوسط بات بحيرة للنفط والغاز لن تسمح تركيا لدولة اسرائيل بقطفها وهي متفرجة ( ولهذا تحليل لاحق) ..وأيضا تمهيدا لما سيكون لاحقا في سوريا.. هي تركيا التي أرادها حزب نجح برفع مكانة بلاده الى صفوف عظماء العالم دون شعارات وهمية، وبعلمانية واقعية وليس بخداع سياسي .. ولا عزاء لمن لا يرى كما يجب أن يرى .. ملاحظة: بدأ الصراع على الثروة والسلطة في ليبيا بعد القذافي .. ليس بعيدا رؤية 'صراع مسلح' بين أقطاب لم يكن بينهم جامع سوى 'كراهية الطاغية'.. -------------- ** المصدر: جريدة الدستور الأردنية