بعد يوم مرهق، عدت أخيرا الى مرفئي، أخذت الاولاد من المدرسة، واشتريت بضع فطائر "ملوية" ساخنة، وأنا أمني عشيتي بكأس شاي يستحق رفقة الملوي، في ظل استراحة محارب قبل أن تعلن صفارة الحكم عن انطلاق الأشواط الإضافية.. شغلت الراديو، خصوصا أنه يتحف جيل النكسة بأغاني قديمة تشبهه في مثل هذا التوقيت.. كان صوت ناظم الغزالي يصدح برائعته التي كنا نحفظها صغارا.. "طالعا من بيت أبوها..رايحة لبيت الجيران.."رفعت صوت الراديو أكثر لأتحقق مما أسمع، لم يكن ناظم الغزالي سعيدا كما كان عندما كنا نسمعه قبل سنوات بعيدة..حتى الكورال الذي كان يرافقه كان صوته مخنوقا كأنه يراوغ ليخفي دموعا سخية.. "قلت لها يا حلوة ارويني عطشان مي اسقيني قالت لي روح يا مسكيني مينا ما تروي العطشان .. لا يمكن أن أكذب مسامعي، لقد كان الصوت حزينا شجيا، يشيع الحزن في فضاء الغرفة المبعثرة.. طلب مني طفلي أن افتح التلفزيون، حتى لا تفوتنا إحدى مغامرات السنافر..ضل صوته يتلاشى في عتمة الأنغام المنبعثة من الراديو.. لم يعد خبر الاشلاء والجثت في العراق خبرا مهما لغير ذوي الضحايا، ببساطة لأنه خبر يتكرر كل يوم..هناك شرارة الجحيم القادم على هذه الأمة التاوية على أحقادها القديمة التي تتجدد مثل نهر جارف موحل، لأن الجرأة خانتها في أكثر من مفصل تاريخي ولم تتخلص من ورمها الخبيث، في العراق قتل العديد وسيقتل المزيد بسبب خلاف سياسي قديم من زمن السقيفة وعثمان وعلي ومعاوية..ستكبر كرة اللهب وتحرق كل الأمة المجيدة، وفي النهاية سيعرف من تبقى منها من كان أحق بالخلافة... عدت من أوهامي، وفقدت الرغبة في اكل الفطائر الساخنة، مكتفية بتركها في متناول الأطفال، وعزفت عن مشروع الشاي..كان من الافضل ألا يصدح صوت ناظم الغزالي هذا المساء، ولو أن صوت أم كلثوم أيضا كان سيذكرني بشعب يموت غراما في العسكر...