قبل سنوات وسنوات كتب صلاح خلف - أبو إياد – في كتابه "فلسطيني بلا هوية": أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر"، كانت عبّارة كتبها صاحبها وهو يرى بأم العين رفاقه "المناضلين" وهم يبيعون القضية خطوة بخطوة، ويتنازلون درجة درجة، ويخلقون لذلك المبررات والأعذار. هذا هو حالنا اليوم، فقد اصبحت الخيانة ليست وجهة نظر فقط، بل وطنية ومصلحة عليا للشعب الفلسطيني، وتحت مسميات عدة تبدأ من السلطة "الوطنية" ولا تنتهي عند ألقاب "المناضل" وصاحب "التاريخ النضالي"، وحركة التحرير "الوطني" وغيرها. لكن هناك ما هو اسوأ من الخيانة! أن يتبجح صاحبها ويزاود، أن يصبح بطلاً لا يشق له غبار في نظر أزلامه وأبواقه، أن يتاجر ويبيع ويفرّط باسم القضية. لكن هناك ما هو أسوأ من ذلك كله! وهو أن يصبح من يصف الخائن بوصفه مجرماً متطرفاً حاقداً لا يجيد إلا التخوين والتجريح، هذا هو منطق من يخون ويرفع بوجه من يعارض كل أنواع الموبقات لمنعه من الكلام، ليتحول من يصف فعل الاجرام – وهو الخيانة هنا – مجرماً منبوذاً. لكن هناك ما هو أسوأ! أن يصبح للخونة مؤسسات وإعلام وكتّاب بل حتى أكاديميون، يبررون لهم فعلتهم الشنعاء، ويهاجمون من يحاول وقف فعلتهم. وما زال هناك ما هو أسوأ! أن يقبل من يعتبرون أنفسهم من المثقفين بهذه المعادلات الشاذة، فيمتنعون عن الكلام حتى لا يتهموا بالتخوين والتجريح. مصيبة تلك الأيام التي نعيشها وانقلاب تام للمفاهيم، ونفي لحقائق التاريخ الذي علّمنا أنه ما من حكومة أو سلطة في ظل المحتل إلا وكانت حكومة أو سلطة عميلة ... عندنا باتت وطنية! لا يوجد عبر التاريخ، زماناً ومكاناً وبالمطلق، شخص أو مجموعة تعاملت مع المحتل وقبلت بسلطته، وعملت لخدمته، وكانت وطنية، ونقول بالمطلق ونستثني سكّان المقاطعة السوداء في رام الله، الذين أوجدوا لأنفسهم تصنيفاً جديداً. إذا حاورنا أحدهم وقلنا بماذا تصف من يفرّط بشبر من فلسطين، لا يتردد بوصفه بالخائن، لكن ما أن نقول وما رأيك بمن باع وفرّط ب 78% من فلسطين وأقّر بأنها ليست لنا، يبدأ بكيل الشتائم واللعنات علينا لأننا حاقدون كارهون ولأنه يرفض التخوين والتجريح. إن سألنا يا قوم كبيركم يفاخر ويجاهر ومن على منصة الأممالمتحدة أنه تنازل عن 78% من فلسطين، لا يخجل ولا يستحي، أجابوا كفاكم تخويناً لمناضلينا أصحاب الماضي العتيد. نقول لهم، أليست قوانينكم وثورتكم من تصف أمثال كبيركم بالخونة، فيقولون ليس صحيحاً، نزيد ألا تحكم محاكمك في الضفة على أناس بالاعدام والسجن بتهمة التخابر مع المحتل، فلماذا تقبلون بأن يقوم "قادتكم" بذلك ليل نهار وفي المنتجعات وبقرع الكؤوس؟ تأتي الاجابة انها مصلحة الشعب وهؤلاء يخوضون "معركة تفاوضية"! الغريب أن من يرفضون تخوين الخائن اليوم، كانوا هم من يخونون الجميع "عمّال على بطّال"، بل استخدموا التخوين للتخلص من خصومهم ومعارضيهم. قبل سنتين كتب عبد الستار قاسم حول نفس الموضوع وتحت عنوان " ممنوع التخوين"، وفيه قال: " منذ زمن، بل ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو وشعار لا يجوز التخوين يرتفع، والهجمة ضد كل من يتهم آخرين بالخيانة تتسع وتتمدد. وقد حول العديد مسألة الاتهام بالتخوين إلى قضية أخلاقية على اعتبار أن من يصف الآخرين بالتخوين عبارة عن شخص مهووس ومغامر، ولا يعرف احترام الرأي الآخر ولا يحترم مبادئ الدمقراطية والحرية. وقد تبنى هذا الموقف عدد من المثقفين العرب الموالين للأنظمة العربية والمؤيدين للسياسات الأمريكية في المنطقة والمدافعين عن نهج المفاوضات مع الكيان الصهيوني، وعن اتفاقيات الصلح والسلام والتطبيع. وقد بات واضحا أن هؤلاء الذين تستفزهم مسألة التخوين هم أنفسهم الذين باتوا يقبلون بإسرائيل ويتهاونون بالحقوق الفلسطينية ويتعاونون بطريقة أو بأخرى مع إسرائيل. العديد من هؤلاء الذين تستفزهم عبارات التخوين كانوا يستسهلون تخوين الآخرين، ولم يكن يردعهم شيء عن وصف الآخرين بالجاسوسية والتعاون مع العدو الصهيوني. هؤلاء أنفسهم لم يكونوا يتقبلون نقدا لا لفتح ولا لمنظمة التحرير ولا لأي شخصية قيادية فلسطينية، ولا لأي نهج أو قرارات فلسطينية. كانوا يفتحون بوابات التخوين بسهولة ضد أي شخص يأتي على ذكر عرفات بنقد أو لسياساته بعدم ارتياح، أو أن ينبس ببنت شفة ضد نهجهم في السياسات الداخلية أو الخارجية. هؤلاء أنفسهم عملوا على تشويه صور آلاف الناس والأشخاص المحترمين لا لسبب إلا لأنهم كانوا يشعرون بالغيرة على فلسطين وشعبها المشتت في كل مكان، أو كانوا ينتقدون سياسات منظمة التحرير وقرارات المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. لم يكن يتردد هؤلاء باتهام من يبتسم ليهودي عن بعد كيلومتر بالخيانة، ولم ينج إطلاقا من تخوينهم من كان يقابل صهاينة سواء كانوا سياسيين أو أساتذة جامعات أو محامين، أو من كان يقيم علاقة مع يهودي لا علاقة له بالسياسة أو الأمن. كان مجرد التفكير بالحكم الذاتي عبارة عن خيانة عظمى، وقد هددت القيادات الفلسطينية مرارا وتكرارا كل من يقبل بالحكم الذاتي، واعتبرته خائنا يستحق القتل، وخونت كل من يفكر بالاعتراف بقرارات الأممالمتحدة الخاصة بفلسطين، وكل من يقبل بقرار مجلس الأمن 242، الخ. كان من السهل نعت معارضين أو منتقدين بالجواسيس، وكان يتم تعميم النعت على مساحة فلسطين من أجل إخراج الشخص المعني من ملة الوطنيين. وقد استعمل هذا السلاح من أجل إسكات الآخرين وإبقاء الساحة خالية لهم يصولون ويجولون كيفما شاؤوا. وأخذا بعادات وتقاليد لا تكترث بالبحث والتدقيق، كان المجتمع يتجاوب مع الشائعات، ولم يكن يرحم من تثور ضده شبهة، أو تحوم حوله شائعة. جدلية التخوين ارتدت بقوة ضد الذين كانوا يستعملونها بدون تردد وبدون ضمير، فأخذوا يهاجمونها بقوة على اعتبار أنها نوع من الفساد والإفساد، وأسلوب يؤدي إلى التفسخ الاجتماعي. وهنا أسأل: هل الذي يوقع اتفاقا مع إسرائيل خائن أم لا؟ هل الذي يعتنرف بإسرائيل خائن أم لا؟ هل التنسيق الأمني مع إسرائيل خيانة أم لا؟ هل التطبيع مع إسرائيل خيانة أم لا؟ هل ملاحقة ما يسمى بالإرهاب والإرهابيين خيانة أم لا؟ هل السعي إلى تفكيك خلايا المقاومة خيانة أم لا؟ أنا أطلب إجابة من أبطال التخوين اذين كانوا قد نصبوا أنفسهم حكاما على وطنية الناس. ما الذي يجعل الآخرين خونة، بينما تبقون أنتم وطنيين تحت كل الظروف والأحوال؟ إذا لم تكن هذه الأعمال خيانة، فماذا نسميها؟ نريد إجابة منكم حول تسميتها، وحول ما يمكن أن نعتبره الآن خيانة. ما هي الخيانة الآن، ومن هو الخائن؟ القضاء الثوري الفلسطيني أجاب القضاء الثوري لمنظمة التنحرير الفلسطينية على بعض الأسئلة أعلاه. هناك نصوص كثيرة في مجموعة التشريعات الجزائية المنبثقة عن القضاء الثوري الفلسطيني والتي ما زالت في الخدمة حتى الآن، أي ما زال معمولا بها حتى الآن من قبل منظمة التحرير الفلسطينية. وقد سبق للسلطة الفلسطينية أن حاكمت بعض عناصر فتح بعد سيطرة حماس على قطاع غزة بناء على هذه التشريعات. أورد هنا بعض النصوص الواردة تحت عنوان "الجرائم التي تقع على أمن الثورة الخارجي": مادة 130: يعاقب بالإعدام كل من حمل السلاح على الثورة الفلسطينية أو التحق بأي وجه كان بقوات العدو المسلحة." وهنا أسأل عن حكم الشخص الذي يحمل السلاح وفقا لاتفاقيتي أوسلو وطابا بترخيص من العدو ووفق قاعدة ملاحقة الإرهاب المنصوص عليها بالاتفاقيتين؟ مادة 131: يعاقب بالإعدام كل من: أ- سعى لدى دولة أو جهة معادية للثورة أو تخابر معها أو مع أحد ممن يعملون لمصلحتها للقيام بأعمال عدوانية ضد الثورة. ب- سعى لدى دولة أجنبية معادية أو تخابر معها أو مع أحد ممن يعملون لمصلحتها لمعاونتها في عملياتها الحربية أو للإضرار بالعمليات الحربية للثورة الفلسطينية. مادة 132: يعاقب بالإعدام كل من دس الدسائس لدى العدو أو اتصل به ليعاونه بأي وجه كان على فوز قواته على الثورة الفلسطينية. مادة 133: يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كل من دس الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها إلى العدوان ضد الثورة أو ليوفر الوسائل إلى ذلك وإذا أفضى عمله إلى نتيجة عوقب بالإعدام. مادة 134: يعاقب بالإعدام كل من أقدم بأية وسيلة كانت على الإضرار بالمنشآت والمصانع والبواخر والمركبات والأدوات والذخائر والأسلحة والمؤن وسبل المواصلات وبصورة عامة أي شيء ذي طابع عسكري أو معد لاستعمال قوات الثورة أو القوات الحليفة. مادة 136: يعاقب بالإعلام كل من أتلف أو عيب أو عطل عمدا أسلحة أو سفنا أو طائرات أو مهمات أو منشآت أو وسائل أو مواصلات أو مرافق عامة أو ذخائر أو مؤنا أو أدوية أو غير ذلك مما أعد للدفاع عن الثورة أو مما يستعمل في ذلك. ويعاقب بالإعدام كل من أساء عمدا صنعها أو إصلاحها وكل من أتى عمدا عملا من شأنه أن يجعلها غير صالحة ولو مؤقتا للانتفاع بها فيما أعدت له أو أن ينشأ عنها حادث. مادة 137: يعاقب بالإعدام كل آمر أو قائد سلم إلى العدو الموقع الموكول إليه دون أن يستنفذ جميع وسائل الدفاع لديه وبدون أن يعمل بكل ما يأمر به الواجب والشرف. مادة 138: يعاقب بالإعدام كل قائد وحدة مسلحة يسلم في ساحة القتال إذا أدى ذلك إلى وقف القتال أو إذا لم يعمل قبل مخابرة العدو بكل ما يأمر به الواجب والشرف. مادة 139: يعاقب بالإعدام كل آمر استعمل أية وسيلة إرغام أي قائد أو شخص آخر على أن يهجر أو يسلم بصورة شائنة أي حصن أو مكان أو نقطة أو مخفر مما هو مترتب على ذلك القائد أو الشخص الآخر الدفاع عنه. مادة 140: يعاقب بالإعدام كل فرد: أ- ألقى سلاحه أو ذخيرته أو عدته بصورة شائنة أمام العدو. ب- تخابر مع العدو أو أعطاه أخبارا بصورة تنطوي على الخيانة أو أرسل إلى العدو راية المهادنة عن خيانة أو جبن. ت- أمد العدو بالأسلحة أو الذخيرة أو المؤن أو آوى أو أجار عدوا ليس بأسير وهو يعلم أمره. ث- قام عن علم منه أثناء وجوده بالخدمة بأي عمل من شأنه أن يعرض للخطر نجاح أية عمليات تقوم بها قوات الثورة أو أية قوات من القوات الحليفة. هل من الممكن أن نعتبر كل فلسطيني يقوم بأي عمل مشين من الأعمال المنصوص عليها أعلاه خائنا خيانة عظمى؟ من الذي كتب هذه النصوص وما زال يتمسك بها؟ بالتأكيد لست أنا، وليس القرضاوي أو عبد الباري عطوان أو اسماعيل هنية أو حسن نصر الله، وإنما ذلك الذي تشتعل في رأسه النار كلما سمع كلمة خيانة. " وفي النهاية نقول: مهما ابتدعوا من أساليب وطرق لمنع وصفهم بما فيهم، ومهما حاولوا رمي الآخرين بما هو فيهم، فهي الخيانة مكتملة الأركان، وسيأتي اليوم الذي يحاسبون عليه على خيانتهم، طال الزمن أو قصر.