لسنوات طويلة وشعوب عربية كثيرة تتوق إلى العدالة والديمقراطية لكنها لا تعرف الطريق الصحيح للخروج من وضع الاستبداد والعبودية لتنعم بالحرية. ومع الهبة الشعبية المفاجئة بتونس وبعدها مصر والتي أطاحت برؤوس أنظمة البلدين، لم يكن أحد يتوقع أن تحقق تلك الثورات منجزاتها في غضون أسابيع أو أشهر. وتحت وقع سحر هذا النجاح السريع دخلت شعوب أخرى متعطشة إلى الحرية وبسرعة على الخط وجاء دور ليبيا و اليمن وسوريا و.. الكل منذ البداية يعرف أن طريق الحرية والديمقراطية لا يكون مفروشا بالورود. فالأمر يحتاج إلى قليل من الشجاعة وثمن معين من الدماء لإزالة أنظمة استبدادية متسلطة متآكلة انتهت صلاحياتها.. فالشعوب العربية من المحيط إلى الخليج تريد: «إسقاط الاستبداد والفساد».. لكن بعد السقوط السريع والمفاجئ لبن علي ومبارك لم يكن أحد يتوقع ان تقاوم أجهزة هذه الأنظمة التي سقطت ﴿تونس، مصر﴾ أو المهددة بالسقوط ﴿ليبيا، اليمن، سوريا..﴾ ، طوال هذه المدة وبمثل هذه الضراوة، وان تثبت كل يوم تقريبا وبشراسة أنها لا تزال أقوى وأفعل من ذلك الجيل الشاب الذي أطلق صرخة غضب مدوية، هزت أركان العالم كله.. بعد تجاوز العديد من الأنظمة العربية صدمة السقوط السريع لنظام بن علي ومبارك فهمت اللعبة واستفادت من الأخطاء وغيرت من التكتيكات والخطط بسرعة، في الوقت الذي لم يغير فيه الشارع العربي الثائرمن خططه، وظل يواجه خطط جديدة بخطط قديمة متجاوزة و لم يتوقع الاصطدام بقوى داخلية وخارجية تتواطأ في ما بينها على رفض التسليم بأن وقت التغيير العربي قد حان، وأن الثورة ستنجح مثلما نجحت في تونس ومصر التي أطاحت على الأقل إلى حد الآن برؤوس أنظمتها. ففي الحالتين ثم القضاء على الديكتاتور وبقيت الديكتاتورية. وهذا ما جعل من الثورة في هذه الدول ذاتها-مصر وتونس- يصيبها التعثر بسبب المقاومة التي تبديها فلول أنصار النظام القديم مما جعل التغيير لازال يراوح مكانه، فلازالت الثورة في تلك البلدان عاجزة عن الإطاحة ببقايا النظام في ساحات التظاهرات وفي العديد من المؤسسات .. فإلى حد الساعة هناك فشل في وضع رجال أمناء على كراسي الحكم. فما حدث في تلك الدول رغم ما يقال عنه من نجاح لا يزال يتعثر ويرافقه الكثير من الريبة والتخوين والشك والترقب، فالكثير من الضباب يكتنف مستقبلها، وربما ستنتهي إلى الخراب إذا تمكن أنصار الفساد من أذناب النظام السابق من إشاعة الفوضى أو العودة إلى الحياة السياسية بجلود وأصباغ أخرى مختلفة للتحكم في زمام الأمور.. إن ما حدث في تونس ومصر ومعها بقية الثورات التي استلهمت تجربتهما لا يدعو إلى التفاؤل على أن نهاية سعيدة باتت وشيكة وقريبة في العالم العربي، لان فلول النظام السابق لازالت تبدي مقاومة شرسة للثورة والتغيير في تونس ومصر، وموازين القوى الداخلية، العسكرية والأمنية، كانت ولا تزال تميل لمصلحة الأنظمة المستهدفة في ليبيا واليمن وسوريا ..، التي لا تزال مؤهلة لخوض حروب أهلية يمكن أن تمتد عشرات الأشهر بل الأعوام .. ويمكن أن تجعل حياة الشعوب الثائرة جحيما لا يطاق، وان تجعل ثمن التغيير لا يؤدى إلا بالكثير من التخريب والدمار والدم. فإذا كان الجيش قد حسم الأمر في تونس ومصر بحيادية يسودها اللبس والغموض لصالح الشعب مما عجل بالإطاحة برؤوس النظامين، فإن الأنظمة الأخرى صارت اليوم أكثر من أي وقت مضى أشد تمسكا بالسلطة وأكثر اقتناعا بقدرتهم على البقاء، وعلى تفادي الخطأ الكبير الذي ارتكبه الرئيسان التونسي والمصري في عدم استخدام الجيش والأمن والاستخبارات وكل شياطين الإنس والجن الأحمر إلى الحد الأقصى، بغض النظر عن الحصاد الدموي، الذي يبدو حتى الآن مروعا ومعطلا لفرصة التغيير السلمي المنشود. الثورات العربية تتعثر، لان موازين القوى الداخلية، العسكرية والأمنية في أغلب الدول الثائرة، كانت ولا تزال تميل لمصلحة الأنظمة المستهدفة، وهذا شيء واضح.. فإذا كان الجيش كما هو معروف عالميا وفي الدول الديمقراطية يحمي الحدود والعدو الخارجي، والأمن يحمي الأمن الداخلي، فإن أنظمة تلك الدول لا تتوانى من توظيف بكل قبح ونذالة الجيش الذي من المفروض أن يبقى محايدا في قمع الثورة.. إن ما يجري اليوم في سوريا واليمن وليبيا وتدخل الجيش لصالح الأنظمة يبين أنه لازال أمام الناس مشوار طويل لتحقيق الحرية والديمقراطية المنشودة ولابد من ضحايا كثر وجدد ثمنا للديمقراطية لرسم معالم سياسة أخرى جديدة تكون لصالح الشعوب عوض نخب فاسدة يعد أفرادها على رؤوس الأصابع. فالبيروقراطيات العربية التي فجأتها ثورات شعوبها ترفض الى حد الآن أن تكون في خدمة شعوبها وكيف ستقبل وهي التي اعتادت منذ زمن بعيد استعباد الناس.. إن موسم الديمقراطية قد حل على البلدان العربية ونجاح حصاد الموسم يرتبط بالديمقراطية بما تتضمنه من الروح الليبرالية والمرحلية والمجتمع المدني. سلاحها ليس السيف والبندقية والدبابات والقصف الجوي ، بل اللاعنف وسلمية سلمية.. فالعالم يعيش مرحلة تاريخية أخرى جديدة تقوم على فكرة وموضة حقوق الإنسان. لم يعد الرأي العام العالمي ولا الدول الكبرى تسمح بالاعتداء السافر على حقوق الإنسان على كوكب هذه الأرض الذي صار كقرية صغيرة. ولم يعد مقبولا فتح النار على أناس عزل يتظاهرون في الشارع و لا يحملون سلاحا.. وهذه النقطة بالذات هي مكسب جديد في صالح الشعوب وقوى التغيير الجديدة الذين يرفعون شعار سلمية سلمية.. وفي نفس الوقت خسارة كبرى للأنظمة الاستبدادية المتآكلة والتي لا تؤمن إلا بالعنف والقوة وتسخر البلطجية لإحداث البلبلة لتجد دريعة تبرر بها تدخلها لاستعمال العنف والزج بالمتظاهرين في السجون وتصفية قاداتهم.. فالثورات الشعبية العربية تتعثر، وأسباب التعثر كثيرة وعلى أنصار التغيير إدراك هذا والعمل على البحث عن هذه الأسباب وتجاوزها. فالعنف لم يعد يجدي، فحتى أوباما حذر حلفاءه من استعمال العنف ضد من لا يستعمل العنف، فعلى الجماهير حسب السياسة الأمريكيةالجديدة أن تعول على اللاعنف في مقارعة السلطة بالتظاهر والاحتجاجات واللاتعاون والعصيان المدني. وعلى أصحاب السلطة أن يردوا على المعارضة بالطرق اللاعنفية: بالحوار والتفاوض والإصلاح ورفع المظالم وتطوير الشورى والديمقراطية والمجتمع المدني.. وهذا هو عنوان العهد الجديد الذي دشنه أوباما في سياسته الأمريكيةالجديدة فيما يمكن تسميته ب"الأوبامية الجديدة". وكان بن على ومبارك أولى ضحاياها. وسيتبعهم آخرون ممن مازالوا يعيشون في الماضي ولم يستوعبوا بعد هذه النقلة وبقوا يعولون على العنف وإطلاق الرصاص وقمع التظاهرات وفي الاستمرار في الحكم بنفس الأساليب البوليسية والعسكرية التي أوصلتهم للحكم. دون أن يعني هذا أن أمريكا والدول الكبرى لا يغطون النظر على أفعال حلفائهم حين ينتهكون حقوق الإنسان في حالات تتماشى فيها تلك الانتهاكات مع مصالحهم.. إن اللحظة التاريخية التي تعيشها الثورات العربية اليوم تحتاج لفكر جديد قادر على قراءة الواقع المتغير وفهم الأحداث و دلالاتها من منطلق المسؤولية التاريخية لتعديل الاختلال، وإنتاج البديل الفكري الملائم لتجاوز المرحلة الراهنة التي تسببت في تعثر الثورة، لأن التعثر يعني المزيد من الضحايا وأنهار أخرى من الدماء والعودة الى الوراء.. ويبدو لنا مع الوضع العربي الراهن ان الطريق الى الديمقراطية وحقوق الإنسان العربي طويل وطويل، وفي هذا الطريق الطويل ستحتاج الثورة الى خطط وعتاد ورجال ووقود كثير تستهلكه في هذا الطريق إذا أرادت فعلا رفع التحدي لتجاوز التعثرات..