تجمعات هنا وهناك، وأناس تتهافت عند فتح أي بالة (كيس الملابس)، إنه فضاء مميز في المجتمع المغربي، لمساته مغربية، ولغته لن تسمعها إلا في المغرب، ليس فرنسي، ولا إيطالي، ولا الماني .. إنه أشبه ما يكون بسوق ممتاز للفقراء والكادحين وراء لقمة العيش، لم تدخله العولمة بعد !! إنها "الجُوطِيةَ" ، قد تجدها في كل دول العالم أكيد، حتى في امريكا، لكن لن تجد "جُوطِيةَ" المغرب إلا في المغرب .. في كل مدينة مغربية ستجد هناك مركزا للبيع والشراء، لكن بدون مصاعد كهربائية متطورة، ولا ابواب تفتح أتوماتيكيا، ولا آلات حسابية إلكترونية، لكنها مصدر رزق الملايين من المغاربة... "الحرية" تفتح تحقيقا حول هذه وتلتقي مع البائعين ورواد "الجُوطِيةَ" على حد سواء. حركة غير عادية إن "الجُوطِيةَ" تشبه أعياد المواسم والأولياء الصالحين في كثير من المظاهر، بمجرد أن تقترب من مكانها ستبدأ في ملاحظة حركة السير غير العادية؛ طابور طويل من السيارات المتجهة الى المكان، رجال يدفعون عربات يد، وآخرون يحملون بضائعهم فوق الدراجات العادية وكانك في إحدى أحياء الصين الشعبية، وآخرون لايحملون شيء غير أنهم يسيرون في نفس اتجاه الحاملين.. خيام نصبت هنا وهناك في وقت مبكر استعدادا ليوم سيكون حافل بدون شك، يذكرني المشهد بحركة الحجيج في موسم الحج، غير انها ليست نفس النية والمقصد، والنداء والتلبية مختلف تماما.. "بسرعة بسرعة لقد تأخرنا".. "بالزربة أصحبتي راحنا تعطلنا على " هكذا وشوشت إحدى الفتيات لصديقتها وهما في الطريق بخطى سريعة، وأعتقد كذلك يكون حديث كثير من النساء والفتيات صبيحة يوم السبت، أثناء توجههم ل"جُوطِيةَ" ابن عباد بالقنيطرة (وهي سوق ملابس مستعملة تعقد كل سبت وأحد ومشهورة بالمغرب يفد إليها الزوار من عدة مدن مجاورة). نزهة فتاة قنيطرية من أسرة كريمة تتابع دراستها بجد واجتهاد، وصلت "للجُوطِيةَ" في الوقت المناسب، تحكي نزهة عن خصوصية يوم السبت فتقول:"استيقظت باكرا اليوم تلبية لرغبة أختي الاكبر مني سنا التي تريد ان تشتري بعض الألبسة، ذلك أن يوم السبت هو اول أيام انعقاد "الجُوطِيةَ" بمدينة القنيطرة، وبالتالي فمعظم النساء اللواتي يرغبن في شراء "هَمْزَة" لاتعوض فإنهن يبكرن يوم السبت ليحضرن عملية فتح "الْبَالْ" أكياس الثياب" . "كليان" خاص في كل مكان هناك زبون عام وزبون خاص، حتى في "الجُوطِيةَ" هناك زبون خاص عند كثير من الباعة، وهو عادة ما يعرف باللهجة المغربية "الكْلِيَّانْ" وهي كلمة مشتقة من الكلمة الفرنسية "Client" ،هذا النوع من الزبائن يكون أكثر حظا من غيره، نادية فتاة موظفة لكنها لاتشتغل يوم السبت، تلبس الحجاب التقليدي والعصري، كانت معتادة أن تخيط ملابسها عند خياط باثمنة باهضة، ولايهمها ذلك مادام أن الفصالة جيدة.. لكنها مؤخرا أصبحت من عشاق اثواب "الجُوطِيةَ"، ولكن ليس أي اثواب؟؟ تقول نادية التي اصبحت "كْلِيَّانْ" معروف لدا العديد من الباعة ب"الجُوطِيةَ":"كنت فيما سبق أحتقر هذا المكان، واشتري ملابسي من متاجر خاصة لذلك او اشتري الثوب و "أُفَصِّلْ" عند الخياط على مقاسي، حتى صحبتني خالتي معها ذات يوم إلى "الجُوطِيةَ"، ولانها كانت زبونا متمرسا ولها خبرة، فقد غيرت فكرتي عن المكان برمته، بل إني رجعت منذ تلك اللحظة وأنا محملة باقمصة وملابس ما كنت لأجدها إلا في ذلك المكان او اروبا وبأثمنة لاتتصور". "تهافت التهافت" إنه ليس كتاب ابن رشد الفلسفي، ولكن اقصد هنا تهافت النساء والرجال والشبان على أكياس "البال" وهي تفتح لدرجة يخيل لك انك قد تخرج من المجموعة وأنت مبتور الدراع او الساق او الرقبة.. ولكن لاأحد يشغل باله بهذا التفكير، وإنما كل ما هنالك أمنية الفوز بثوب او ثوبين "لُقْطَة" من كيس ثوب عذري لم تلمسه يد عزل منذ فارق موطنه الاصلي الذي ربما يكون في ما وراء البحار غالبا. "هِتِيفَة" من نوع آخر: فرصة ومناسبة تهافت يثيره أكثر ويحمي وطيسه هتاف مساعدي البائع الذين ينسجون كلاما جذابا ومغريا هذا بعضه: -"بَالِي قْبْلْ مَا تْسَالِي" : أي اسرع في الاختيار قبل ان تنفذ السلعة. -"اعْزْلْ وتْخَيَّرْ أَمُولاَ وْلِيدَاتْ":أي انتقي واختار الثوب الذي يناسب أولادك. -"التْفْرْكِيسَة فَابُورْ": أي الاناقة والهندام الجميل بابخس الاثمنة. -" لاَ غْلَى عْلَى مْسْكِينْ": أي سلعة في متناول الجميع حتى المسكين الفقير. -"صْحَابْ الْعَزْلَة والْمْلِيحْ": أي الزبائن الذين يعشقون السلعة الجيدة والمناسبة. "الجُوطِيةَ" .. فضاء التعدد الحقيقي إنه المكان الذي يتسع للجميع، ولا أحد يضجر من الآخر حتى وإن كان يبيع نفس سلعته، هذه قناعة راسخة عند غالبية الباعة ب"الجُوطِيةَ"، خالد شاب مغربي ترك الدراسة في سن مبكرة، يحترف البيع في "الجُوطِيةَ" منذ أزيد من 8 سنوات كان في البداية مساعدا لابيه، ثم استقل بنفسه بتشجيع من والده، يضيف خالد وهو يبتسم:"إن هذا المكان يشكل طفولتي وحياتي، هنا وجدت السماحة والصداقة الحقيقية، نحن هنا لسنا أعداء بل شركاء في الحرفة والرزق على الله". وبخفة ظل صاحبنا خالد عند صديق له يبيع الأحذية رغم أنه أكبر منه سنا إن لم نقل أنه في مرتبة والده ، هذا الأخير الذي ابدى بعض التردد في الكلام خاصة عندما يتعلق الامر بالصورة والصحافة، لكنه سرعان ما انطلق في الكلام بعد أن سالناه عن طبيعة العلاقة التي تربطه بالمكان والأشخاص قائلا:"إننا أسرة واحدة، مايضرني سيضر الآخر، وما يفرحني أكيد سيفر الآخر، بطبيعة الإنسان الخوف على رزقه، لكن التجربة علمتنا أن القلب الكبير هو راس المال الحقيقي، لذلك قد تلاحظ شحناء بين جارين في البيع، ولكنها سرعان ما تذوب وتتحول الى محبة حقيقية". "الجُوطِيةَ" .. ملاذ العاطلين يتساوى فيها اصحاب الدبلومات من عادميها، هذا حاصل على شهادة جامعية عليا، وآخر بالكاد يعرف يكتب اسمه والضغط على الآلة الحاسبة، غالبيتهم شباب، افكارهم تختلف، وأحلامهم ايضا كانت تختلف، منهم من كان يامل أن يكون طيارا او مهندسا أو طبيبا .. ومنهم من لم يكن له حلم، حتى وجد نفسه في نفس المكان.. إنهم الآن شركاء الواقع و "خُبْز الأولاد"، منهم من يبيع الأحذية المستعملة، ومنهم من يبيع عصير الليمون، ومنهم من يبيع الأقمصة والسراويل الصيفية، ومنهم من يبيع ملابس خاصة للنساء.. منهم من لايستقر في مكان يتجول هنا وهناك وهو ينادي "بَيْضْ مْصْلُوقْ" أو "كَارُّو دِيطَايْ" –السجائر بالتقسيط- .. تختلف الوسائل لكن المصدر واحد .. والأمل في تغير الأحوال هو الدافع. كم تمنيت أن يكون مغربنا السياسي في مثل هذا التعدد الحقيقي، لا هم أناس قرؤوا في اروبا، ولا هم حاصلين على شواهد في تخصصات دقيقة، ولا تعلموا تقنيات التواصل في مدارس أمريكا وابريطانيا، لم يدرسوا السياسة في الجامعات، وإن كانوا ساسة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولكنهم مواطنون الصدق معدنهم ، لم تغيرهم الالوان ولا المصالح ولا المراكز، إلا ان عيبهم الوحيد أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة كما قيل لهم !!