بعد حوالي ستة أشهر على المحاولة الانقلابية الفاشلة، لا يبدو أن تركيا تعافت تماما من شظايا الانقلاب، رغم أنها تسير قدما نحو المستقبل دون أن تنسى الانقلاب، ودون أن تجعله شماعة لقص أجنحة الحريات ووضع الحواجز في طريق الديمقراطية والتنمية. في هذا الحوار مع مصطفى الغاشي، الخبير الدولي في الشؤون التركية، نسلط الضوء على الدولة التركية بداية من عمقها التاريخي، وعلى طبيعة العلاقات المغربية العثمانية، وتحول الإمبراطورية العثمانية إلى دولة علمانية، ومسيرة الانقلابات العسكرية، وصولا إلى الانقلاب الفاشل في يوليوز الماضي، وما بعده من استشراف لمستقبل تركيا بإيجابياته وسلبياته. 1- مرت عدة أشهر على المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وبدا أن الشعب التركي استعاد عافيته السياسية والاقتصادية، ونسي أو تناسى ما حدث. ما مميزات هذه الخاصية المتفردة لدى الأتراك؟ الخبراء والمهتمون بالشأن التركي لم يفاجؤوا بهذه الإرادة الفولاذية، فالأتراك شعب معروف تاريخيا بقوته وإرادته وإصراره على النجاح والانتصار، فهم شعب السهوب الآسيوية الصعبة جغرافيا ومناخيا، وهم من الشعوب القديمة التي عاصرت حضارات وإمبراطوريات قوية، منها الصينية، وكانت لهم دول وإمارات سياسية. كما أن الأتراك شعب فروسية وقتال، وقد قيل فيهم: "لولا الحرب لما كان الأتراك". كما أنهم شعب الترحال الدولي، فقد خرجوا من السهوب الآسيوية ووصلوا إلى أوربا وإفريقيا الشمالية وأسسوا كيانات سياسية عرفت بالمماليك والسلاجقة والعثمانيين. ومنذ اعتناقهم الإسلام، تحولوا إلى فاعل أساسي في دار الإسلام، والمصادر الإسلامية تتحدث عن حضورهم حتى قبل ظهور الإسلام، وإن تقوّوا أكثر بعد انتشار الدعوة المحمدية. وتتحدث المصادر (ياقوت الحموي) عن أحاديث مروية عن الرسول (ص) تنهى الفاتحين عن التعرض للترك (تاركوهم ما تركوكم)، وعما روي عن عمر بن الخطاب عندما خاطب الكتيبة المتجهة إلى آسيا بعدم تجاوز نهر "سيحون " لوجود الترك به… إلخ. وبغض النظر عن مدى دقة هذه المعطيات، فإن المصادر الإسلامية تتحدث عن حضور وأدوار كبيرة لعبها الأتراك في تاريخ الإسلام، فقد جلبهم اليزيد الأموي كمحاربين (رماة) في الجيش الأموي. وفي العصر العباسي كادت الحياة العامة أن تكون تركية لكثرتهم في الدولة العباسية، إذ سيطروا على المؤسسة السياسية والجيش والإدارة. أما اجتماعيا، فقد خلق حضور العنصر التركي مظاهر الغنى والترف، إذ تم جلب الغلمان والإماء التركيات من بخارى وسمرقند، ولا داعي للتذكير بأن مدينة سامراء بنيت بأياد تركية، لدرجة تم فيها عزل الخليفة عن الرعية. في هذا العصر كانت نكبة البرامكة وظهرت الشعوبية كظاهرة أدبية مبنية على الانتماء العرقي. وفي هذا العصر أيضا برز نجم الجاحظ، الذي خلد الأتراك برسالته المعروفة إلى الوزير ابن خاقان (رسالة في الترك). كما برز عالم الفلسفة الفارابي، وهو من أصول تركية. أما في العصر المملوكي، فإن تراجع العنصر العربي، سياسيا وعسكريا، فتح المجال للمماليك ليؤسسوا إمارات وكيانات سياسية قوية في الشام ومصر (السلاجقة)، وواجهوا الحملات الصليبية الأوربية، ودافعوا عن دار الإسلام، وانتصروا في معارك كثيرة ومصيرية مثل صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس والمظفر سيف الدين قطز وآخرين. أما مع آل عثمان فاستطاع الأتراك أن يؤسسوا أكبر دولة إسلامية في التاريخ. فبعد الاستقرار بالأناضول وتأسيس إمارتهم شرعوا في التوسع، فضموا أجزاء من آسيا ومن أوربا الشرقية والشرق العربي وشمال إفريقيا، وفرضوا سيطرتهم على البحر الأبيض المتوسط، الذي تحول إلى بحيرة إسلامية. كما واجهوا الغزو المغولي المدمر الذي اجتاح العراق. وقد كانت إمبراطورتيهم تضم، بالإضافة إلى البحار والمضايق، القارات الثلاث: الأوربية والآسيوية والإفريقية. كل ذلك تم في ظرف زمني لا يتجاوز الأربعة قرون. وقد استطاع الأتراك العثمانيون فرض معادلاتهم على الدول الأوربية، وتقديم الدعم للدولة الفرنسية مطلع القرن السابع عشر وتخليصها من الحصار الأوربي المسيحي، وتحرير الملك فرانسوا الأول من الأسر. وبالإضافة إلى ذلك فرضوا العلم الأوربي على السفن الأوربية التي تبحر في المتوسط لتتجنب القراصنة. بفضل هذا التمدد توسعت رقعة دار الإسلام وتمت حمايتها من الهجمات والغزوات الأوربية الطامعة في الاحتلال والتوسع. 2- هناك روايات تاريخية تجعل العلاقات المغربية العثمانية على طرفي نقيض أحيانا، وتارة تجعلها تحالفا متينا إلى درجة التوحد، مثلما حدث في معركة وادي المخازن وما بعدها. كيف يمكننا أن نفهم الطبيعة الحقيقية لهذه العلاقة التاريخية؟ طيلة هذه الفترة من التاريخ الحديث، تحولت الدولة العثمانية إلى قوة دولية عظمى، ونموذج سياسي يحسب له ألف حساب، وحضارة متميزة في مجالات مختلفة، وصارت شعوب كثيرة تقلد هذا النموذج في كل شيء: في اللباس والجيش والتغذية وسائر مظاهر الحياة العامة. في المغرب، مثلا، تشبه الملوك السعديون والعلويون بالنموذج العثماني، وعملوا على إدخاله إلى المغرب، بل إن نساء الملوك والأمراء المغاربة كن تركيات. ولازال الكثير من مظاهر الحياة العامة في بعض المدن المغربية تتضمن هذا التأثير العثماني كتطوان وفاس وغيرها. فحي الدباشي في مراكش، مثلا، لا يزال يحمل اسم القائد العثماني الذي قدم المساعدة للمغرب. كما أن أسرة بوشناق، التي هي في الأصل سليلة أسرة "البوشنياك"، التي تشكلت من عناصر بوسنية في الجيش العثماني، استقرت بمنطقة الحدود بين المغرب والإيالة العثمانية بالجزائر، وتحديدا بالمنطقة الشرقية. ما ينبغي التركيز عليه هو أنه على الرغم من فترات الصراع والتوتر، التي ميزت مراحل مهمة من تاريخ العلاقات المغربية العثمانية، سواء خلال الفترة السعدية (أحمد الشيخ) أو فترات من المرحلة العلوية (المولى رشيد والمولى إسماعيل)، فإن مراحل التقارب والتعاون تحمل دلالات خاصة، فخلال معركة "وادي المخازن" كان للجيش التركي العثماني دور مهم في قلب موازين القوى لصالح المغرب، ويعتبر المولى عبد المالك السعدي سلطانا مغربيا بثقافة وعقلية تركية عثمانية، إذ قضى فترة زمنية مهمة من شبابه بالبلاط العثماني. أما السلطان سيدي محمد بن عبد الله، فكان يعتبر الدولة العثمانية الحليف الإستراتيجي للمغرب، ولم يتردد في تقديم المساعدة المادية واللوجستيكية للعثمانيين خلال فترات الصراع مع الدول الأوربية في القرن الثامن عشر انطلاقا من مبدأ وواجب التضامن الإسلامي. وخلال هذه الفترة نشطت الدبلوماسية المغربية والعثمانية من خلال دبلوماسيين مغاربة مثل محمد بن عثمان المكناسي وأبي القاسم الزياني، وقد اعتبر التقارب المغربي العثماني تهديدا لبعض الدول الأوربية، خاصة إسبانيا. وخلال القرن التاسع عشر تمكنت فرنسا من احتلال الجزائر عام 1830، وانهزم المغرب في معركة إيسلي عام 1844، وتزايدت النزعات القومية في المنطقة العربية بدعم من الإنجليز. لقد لجأت الدولة العثمانية إلى تبني فكرة الجامعة الإسلامية لمواجهة التمدد الإمبريالي الأوربي، واعتبرت المغرب مجالا لتحقيق هذه الفكرة، إلا أنها اصطدمت بالواقع المتغير وموازين القوى المائلة إلى الدول الأوربية، خاصة فرنسا وبريطانيا، ولم تفلح التحالفات العثمانية مع ألمانيا في تحقيق أهدافها. 3- بعد ذلك، هل كان من الطبيعي أن تتحول الإمبراطورية العثمانية إلى مجرد دولة علمانية محدودة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك؟ رغم ضعف الدولة العثمانية وتحولها إلى جمهورية علمانية، ظل الحضور التركي قويا في الذاكرة الجماعية العربية والإسلامية، ليس فقط لكونها دولة الخلافة وإنما للروابط التاريخية والدينية والموروث المشترك الثقافي والاجتماعي، بل حتى على مستوى وحدة المصير، رغم كل الاختلافات والنزاعات التي قام القوميون العرب والأتراك بتضخيمها وتهويلها. وقد استطاع الغرب أن يبعد الأتراك المسلمين عن العرب من خلال الاستثمار الجيد للخلافات والنزاعات بين الطرفين، وتكريس فكرة أن الأتراك بالنسبة للعرب استعمار واستبداد، وأن العرب بالنسبة للأتراك نموذج للبداوة والتخلف. 4- يبدو أن الغرب نجح كثيرا في هذا المسعى. فعلا، ففي غفلة من العرب تحولت تركيا إلى حليف استراتيجي لإسرائيل وأمريكا، وقاعدة عسكرية لحلف شمال الأطلسي "الناتو". لم يكن ذلك قرارا للشعب التركي، بل قرارا للنخبة السياسية العلمانية والمؤسسة العسكرية المستبدة التي بناها مصطفى كمال أتاتورك، والتي فرضت على الشعب التركي خيارات الحياة اليومية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما فرضت عليه هوية علمانية جديدة وانسلاخا عن الماضي العثماني. الشعب التركي عانى الاستبداد والقمع والديكتاتورية العسكرية طيلة القرن العشرين، ولم تكن النتيجة سوى كثير من الأزمات السياسية والاقتصادية والانقلابات العسكرية، ومصادرة الحق في الديمقراطية، ووأد كل محاولة سياسية تنطلق من الشعب وتتطلع إلى حكم ديمقراطي مدني دستوري، وإعدام رئيس الوزراء ماندريس مجرد مثال، إذ أصبحت المؤسسة العسكرية تعوض الدستور، ولها الفيتو المطلق ضد كل المشاريع السياسية التي تناقض مبدأ علمانية الدولة. والحقيقة أن هذه المؤسسة لم تكن تحمي البلاد بقدر ما كانت تحمي المصالح الخارجية للحلفاء ضدا على مصلحة الشعب والوطن. إذ استطاع العسكر التصدي لكل المحاولات السياسية المنبثقة عن صناديق الاقتراع، والطامحة إلى الانتقال الديمقراطي، خاصة المحاولات التي بنت أيديولوجيتها ومرجعيتها على الإسلام، فتم إسقاط مشروع نجم الدين أربكان، ووضعت عراقيل كثيرة أمامه، سياسية ودستورية وقانونية، رغم قناعة المؤسسة السياسية والعسكرية في تركيا بضرورة إدماج أحزاب الإسلام السياسي في العملية السياسية، ليس لإرضاء هذه الأحزاب فقط وإنما لاحتواء تغلغلها وتجذرها في المجتمع التركي بعد أن استطاعت الإجابة عن كثير من الأسئلة والإشكاليات المرتبطة بالهوية والدين والتاريخ، وأثبتت، من خلال تسييرها لبعض الدوائر والبلديات، مثل إسطنبول، نزاهة ونجاحا باهرين في التدبير والاقتصاد والمالية. 5- تعرف تركيا الآن بأنها دولة قوية أربكت الحسابات الاقتصادية، هل يمكن اعتبار النجاح الاقتصادي لتركيا عنوان ميلاد جديد لدولة كبيرة في العالم؟ استطاعت تركيا، مع نجاحات حزب "العدالة والتنمية" بقيادة رجب طيب أردوغان، أن تفرض نفسها كقوة إقليمية بعد أن تعافى اقتصادها وصار يحتل الرتبة 17 دوليا. كما ارتفعت نسبة النمو إلى 5,7 في المائة 2016، وتحولت المدن التركية إلى وجهة سياحية مفضلة عربيا وأوربيا، وأصبحت الدولة أكثر انخراطا في القضايا الإقليمية العربية والإسلامية، خاصة قضية فلسطين، وواجهت العجرفة الإسرائيلية في أكثر من مناسبة، وساندت سلطات غزة سياسيا وماليا وإعلاميا، مثل سفينة الحرية لكسر الحصار عن غزة، وانسحاب أردوغان من مؤتمر دافوس احتجاجا على عدم منحه فرصة الرد على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس سنة 2009. لقد اقتنع الأوربيون والأمريكيون أن تركيا تحولت في ظرف وجيز إلى قوة ديمقراطية في الشرق الأوسط، تحترم الدستور والحريات وحقوق الإنسان، بل تناهض الدكتاتوريات الإقليمية في مصر وسوريا، كما تحولت إلى رقم أساسي في مواجهة الإرهاب، خاصة بعد العمليات الانتحارية المتتالية التي استهدفتها، سواء كرد فعل على مشاركتها في الحرب ضد تنظيم "داعش" أو كرد فعل من النظام السوري على مواقف وتحركات تركيا ضده. الخبراء الدوليين كانوا يعرفون مسبقا بأن الدولة التركية، بقيادة حزب العدالة والتنمية، مستهدفة أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة، فداخليا، ورغم فترة التعايش الاضطراري مع مؤسسة الجيش، كان حزب العدالة والتنمية في تركيا يعيش تحت هاجس الانقلابات، وفي كل مرة كان يضطر إلى القيام باعتقالات ومحاكمات وسط الجيش بتهمة التآمر على الدولة والسعي إلى الانقلاب. والحقيقة أن حزب "العدالة والتنمية" استطاع أن يقود "انقلابا" هادئا ضد العسكر من خلال سياسات دستورية وديمقراطية سعت إلى إبعاده عن السياسة مع تبني خيار الانتقال الديمقراطي، وبذلك استطاعت القيادة التركية تهميش مؤسسة الجيش التي تضاءلت فرص استعادتها لهيمنتها السياسية في البلاد. 6- وهل كان الانقلاب العسكري الفاشل قبل بضعة أشهر تتويجا لنقمة الجيش، أو لجزء من المؤسسة العسكرية المهيمنة، بسبب تهميشها من قبل رجب طيب أردوغان؟ بحكم الطابع العلماني اللائكي لمؤسسة الجيش، وولائها الخارجي، وبحكم التحولات والتحديات الكبرى بمنطقة الشرق الأوسط، كان خيار الانقلاب على نظام أردوغان جد محتمل. فقد تنبأ أكثر من خبير استراتيجي بنزعة الانقلاب لدى العسكر بعدما يئسوا من تغيير النظام عن طريق الدستور وصناديق الاقتراع. هذا الطموح لم يكن داخليا فقط، بل إن كثيرا من القوى الإقليمية والدولية كانت تسير في نفس الاتجاه، فبعض الدول الخليجية، مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة، أصبحت متخصصة في تمويل الانقلابات، خاصة أن نجاحات حزب "العدالة والتنمية" تسبب لها حرجا كبيرا. وبعض الدول العربية الشرق أوسطية تحمل عداء خاصا وتحريضيا ضد تركيا وأردوغان، مثل مصر. كما أن إسرائيل منزعجة من التوجه الأيديولوجي لتركيا وتوسعاتها الإقليمية والدولية. أما الولاياتالمتحدةالأمريكية، فرغم إظهارها الود لتركيا فهي متضايقة من سياستها الإقليمية، خاصة في الحرب ضد الإرهاب. بالإضافة إلى مجموعة من الدول الأوربية التي تتعايش كُرها مع أردوغان، مثل فرنسا. لذلك فإن انقلاب يوم 15 يوليوز 2016 يعبر عن مؤامرة يتداخل فيها الداخلي بالخارجي، المحلي بالإقليمي، والإقليمي بالدولي، والعسكري بالمدني. 7- لكن يبدو أن المحاولة الانقلابية كانت على قدر كبير من القوة والتنظيم، بل كانت على وشك النجاح وتدمير نظام ديمقراطي قوي ومسيرة تنموية متميزة. لقد انبنت خطة الانقلاب على استراتيجية يقودها الجنرالات في الداخل كجزء أساسي وفعال في الدولة العميقة، وتحديدا الجنرالات والضباط الأتراك في القاعدة الجوية الأمريكية "أنجيليك"، وهو ما أثبت أن الانقلاب تم بتوقيع أمريكا وشركائها، علما أن تركيا عضو أساسي في حلف "الناتو" وتعتبرها الولاياتالمتحدة ركيزة أساسية لتحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى". لكن الإدارة الأمريكية وحلفاءها يعتقدون أنه من الصعب تحقيق هذا المشروع مادام طيب رجب أردوغان في السلطة. الجديد في الانقلاب الأخير ليس دهاء الحكومة، ولكن ديمقراطية شعب بأكمله، فهو الذي استطاع إخضاع الجيش ودباباته عندما استجاب لدعوة أردوغان بالنزول إلى الشارع ومواجهة الانقلابيين. إنه العنصر الأساسي في تلك المعادلة. لقد كانت رسالة الشعب التركي واضحة للعالم، وهي أن الديمقراطية في تركيا ليست صورية كما في كثير من الدول العربية والإفريقية، بل ديمقراطية شعب، فهو الوحيد الذي له الحق في إبقاء أو إسقاط النظام. كما أن الأحزاب التركية أثبتت حضورا قويا ورؤية رشيدة وثاقبة، ومواقفها إزاء المحاولة الانقلابية اتسمت بنضج يستحق الحفاوة والتقدير. كما أنها نجحت في تنحية خصومتها مع الرئيس أردوغان ونظامه جانبا، وأعربت عن انحيازها إلى الديمقراطية والمصلحة العليا للبلد. 8- ولكن ألا يبدو مبالغا فيه رد فعل الحكومة التركية تجاه الانقلاب عبر عقاب جماعي لآلاف العسكريين والمدنيين والموظفين وأنصار فتح الله غولن؟ لقد تحول الانقلاب العسكري إلى انقلاب ديمقراطي، وأصبحت الديمقراطية أكبر منتصر في تركيا، رغم كل عمليات التشويش، التي سعت الكثير من الدول الأوربية وإعلامها الرسمي وغير الرسمي إلى تسويقها في العالم بخصوص مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، خاصة في طريقة معاملة الانقلابيين والتضييق على أتباع فتح الله غولن. والواقع أن الدول الأوربية، عندما تخاذلت في إدانة الانقلاب، بعثت برسائل واضحة إلى الحكومة التركية، ليس فقط بخصوص حقوق الإنسان وإنما بخصوص الاختيارات الإستراتيجية لأردوغان، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فنجاح التجربة التركية يجعل أوربا أمام تحد يحمل أكثر من دلالة تاريخية وثقافية وأيديولوجية واقتصادية ومالية، فتركيا هي الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي ليست عليها مديونية، وبالتالي فإن خيار المواجهة كان أوربيا من خلال الدعم غير المباشر للانقلابيين، والبكاء عليهم بعد فشل الانقلاب، الذي كلف البلاد أزيد من 90 مليار دولار. إنه خيار الولاياتالمتحدةالأمريكية، أيضا، بعدما تكشف دور الجنرالات الأمريكيين في التخطيط للانقلاب ودعم الانقلابيين والدخول في مواجهة خطيرة مع رجب طيب أردوغان. إنه، أيضا، خيار إسرائيل حين اعتبرت المؤسسة العسكرية التركية حليفا يجب الدفاع عنه، ورأت أن الدولة التركية، بقيادة "العدالة والتنمية"، ستدفع الثمن غاليا لانقلابها على الولاء لإسرائيل. هناك نقطة مهمة ينبغي التذكير بها، وهي أنه في سياق مطاردة الانقلابيين في المحيط الإقليمي، أصدرت الحكومة التركية مذكرة توقيف في حق الفلسطيني دحلان، أحد الأسماء البارزة في التخطيط للانقلاب بدعم لوجستيكي ومالي من بعض الدول الخليجية. ودحلان معروف بولائه لإسرائيل وصداقته لمصر السيسي وتآمره على الإسلاميين، خاصة "حماس" في غزة، و"الإخوان المسلمون" في مصر، و"العدالة والتنمية" في تركيا، وما تعاطفه مع حركة فتح الله غولن إلا تكتيك يوظف فيه الخلاف الحركي بين "العدالة والتنمية" وتنظيم "الخدمة" التركي. إنه يعي جيدا حجم القوة التنظيمية لأتباع غولن في المؤسسات التركية بدءا بالجيش، والتعليم، والمؤسسات البنكية، وانتهاء بالصحة. بل إن بعض الخبراء يعتبرون أن المعارضة الحقيقية في تركيا لا تمثلها الأحزاب بقدر ما تمثلها قوى غولن المعارضة، وهذا ما يفسر العمليات التي قادتها الحكومة التركية ضد هذا التنظيم. إن فتح الله غولن تحول من داعية ومربٍّ إلى أكبر معارض سياسي لتركيا الحالية، هو المستقر فوق الأراضي الأمريكية. 9- بعد حوالي ستة أشهر على المحاولة الانقلابية الفاشلة، ما هي تصوراتك لمستقبل تركيا؟ ليس هناك شك في أن الحكومة التركية تعي جيدا الأخطار التي تحدق بتجربتها، ومن خلال تجربة فشل الانقلاب ازداد الوعي لدى الشعب التركي بما يحاك ضد تركيا وتجربتها الديمقراطية في منطقة ليس من اليسير أن تجد بها ديمقراطية حقيقية. وكما أن المستقبل القريب والبعيد يعد بمفاجآت إيجابية، فهو يحمل، أيضا، مفاجآت سلبية، فالانقلاب الفاشل هو بداية مشوار طويل قد يحدث متاعب مثيرة للدولة التركية. متاعب مثل ماذا؟ على المستوى الداخلي، تبين أن الشعب التركي تربطه علاقة قوية بحكومته، فبقدر ما ابتعد عن مؤسسة العسكر تقرب أكثر من المؤسسة السياسية للبلاد، وليس معنى هذا أن كل الأتراك مع "العدالة والتنمية"، ولكن ما دامت الحكومة دستورية وتحترم إرادة الشعب فلا يمكن للشعب إلا أن يدافع عنها وينزل إلى الشارع لمقاومة الانقلابيين. إنه درس بليغ في إمكانية التعايش رغم الاختلافات بين الإسلاميين والعلمانيين واليساريين. لذلك وجب على الحكومة التركية استثمار هذه الوحدة الوطنية لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية. وعلى المستوى الإقليمي، فبقدر ما تسلط الأضواء والاهتمامات على ما يجري في سورياوالعراق، والحرب على الإرهاب وتنظيم "داعش"، والأخطار المترتبة عن ذلك وتداعياتها على المنطقة بقدر ما وجب الانتباه إلى الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، برعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها، الساعية إلى إعادة ترتيب المنطقة وفق استراتيجيات جديدة تقوم على التقسيم والتجزئة، حيث قد تندثر دول وتظهر دول أخرى جديدة قائمة على العرق والطائفية الدينية والولاءات السياسية. وبالتالي، فإن بقاء دولة من حجم تركيا خارج السيطرة الأورو-أمريكية يهدد مستقبل المصالح الغربية بالمنطقة، بما في ذلك إسرائيل. وعليه، فإن على الحكومة التركية الأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات لأن الانقلاب الفاشل يدخل ضمن مخطط كبير يستهدف المنطقة ككل. أما على المستوى الدولي، فبقدر ما ظهر أصدقاء لتركيا، ظهر، أيضا، أعداء جدد كانوا على أتم الاستعداد للترحيب بالانقلاب لو نجح. ولذلك فإن الانقلاب كان يستهدف، ضمن ما يستهدف، رأسمال العلاقات الدولية، الذي راكمته تركيا سياسيا واقتصاديا. لذا على الدولة التركية استثمار علاقاتها الدولية بهدف البقاء كقوة إقليمية ودولية كبيرة، ليس فقط في الشرق الأوسط، وإنما في العالم. فتركيا تتمتع بصداقات قوية في أوربا وآسيا والقارة الأمريكية وإفريقيا، ويعتبر نجاح التجربة الديمقراطية في تركيا محطة مضيئة ونقطة جذب قوية لشعوب العالم. ولكن، ألم تكن تركيا مستهدفة، أيضا، لأنها دولة قوية باقتصاد سريع وطموح وجيش قوي وشعب واع، في وقت تغرق المنطقة كلها في حروب أهلية وثورات مزعومة هدفها قطع دابر التنمية والديمقراطية في المنطقة؟ إن إحدى عناصر قوة الدولة التركية المعاصرة امتلاكها جيشا قويا ومنظما، وهو أحد أقوى جيوش الشرق الأوسط. إن قوة الدول تقاس بجاهزية جيشها، والعكس صحيح. وبالتالي، فإن المواجهة بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية لا تخدم المصالح العليا للدولة التركية، خصوصا أن الذين تورطوا في الانقلاب يشكلون أقلية مقارنة بمن كانوا ضد الانقلاب وساهموا في إفشاله. وعلى هذا الأساس فإن إخضاع المؤسسة العسكرية لإعادة البناء وفق الأهداف الإستراتيجية لتركيا يعد أولى الأولويات، لأن الجيش لا يجب أن يبتعد كثيرا عن الثوابت السياسية والأيديولوجية للدولة، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الإكراهات الخطيرة التي تواجه الدولة التركية. – 10وهل استسلم الانقلابيون الآن، أو على الأقل استسلمت خلاياهم النائمة؟ فشل الانقلاب لا يعني أن الذين يقفون خلفه سيرضون بالنتيجة والاستسلام للقدر، بل بالعكس سيسعون لإنتاج مخططات أخرى للإطاحة بحكومة أردوغان. فلا نستبعد اللجوء إلى استصدار عقوبات ضد تركيا أو محاصرتها اقتصاديا، أو اللجوء إلى زعزعة أمنها واستقرارها، أو استغلال مشكلة الأقلية الكردية، أو إعادة إنتاج ما يسمى بمذبحة الأرمن. الأجواء العامة بمنطقة الشرق الأوسط قابلة لكل المفاجآت، فتركيا لها حدود طويلة مع عدة دول في المنطقة، مثل سورياوالعراق وإيران، وهي تعاني مشكلة الهجرة غير الشرعية، ولا زالت تدفع الثمن غاليا جراء التفجيرات الإرهابية الخطيرة التي هزت العاصمة إسطنبول. ستظل تركيا تتصدر أحداث العالم فترة زمنية غير قصيرة، وما تداعيات مشكلتها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الأوربية بسبب الانقلاب إلا إحدى الواجهات الكبرى. 10- هل هذا هو السبب الذي دفع تركيا إلى تجديد علاقاتها مع روسيا، رغم أن هذه العلاقات كانت على وشك القطيعة بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية في النزاع السوري؟ لقد سعت أنقرة إلى تجديد صداقتها مع روسيا "الصديق الجديد"، والتي أثبتت أن لها دورا كبيرا في إفشال عملية الانقلاب وإبلاغ أنقرة بذلك. لذا، فإن الخارجية التركية قد تتخذ قرارات جريئة فيما يخص إستراتيجية علاقاتها الدبلوماسية، سواء مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو دول أوربا الغربية، أو حتى بعض الدول العربية الخليجية والشرق أوسطية، فالمصالح الاقتصادية التركية قد تغير قبلتها باتجاه روسيا والصين لمحاولة تعويض خسائرها المحتملة مع الدول الغربية. ليس هذا مطلب الحكومة التركية فقط، بل هو مطلب الشعب التركي، الذي أعطى درسا عميقا لشعوب العالم في الديمقراطية. إنه فعلا حامي الديمقراطية من الأخطار الداخلية والخارجية.