* صدرت عن أنقرة وتل أبيب خلال السنوات القليلة الماضية إشارات على احتمال تحسن العلاقات بينهما من دون تبلور نتائج ملموسة لأسباب عديدة؛ لكن ما صدر مؤخرا -عن أنقرة تحديدا- يشير إلى أن الأمر بات مسألة وقت، ويبدو أن "إسرائيل" أكثر تجاوبا هذه المرة. فقد جمدت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا و"إسرائيل" عام 2010 إثر اعتداء الأخيرة على سفينة "مرمرة" المتجهة لقطاع غزة المحاصر، ورغم أن الجانبين أعادا تطبيع العلاقات بينهما في 2016، فإنها لم تعد إلى سابق عهدها. ومع التعامل العنيف مع مسيرات العودة في غزة ونقل السفارة الأميركية إلى القدس عام 2018، سحبت تركيا سفيرها من تل أبيب وأعلنت السفير "الإسرائيلي" شخصا غير مرغوب به على أراضيها. ومنذ ذلك الحين، تتسرب لوسائل الإعلام أخبار عن لقاءات بين البلدين أو عن احتمال تطور العلاقات بينهما، من دون تحقيق ذلك على أرض الواقع. الإشارات في التاسع من يوليو/تموز الجاري، عينت أنقرة ملحقا ثقافيا لها في سفارتها في تل أبيب، للمرة الأولى منذ 11 عاما، أي منذ حادثة سفينة مرمرة، وهو ما عنى أن الثقافة والسياحة قد تكونان الباب الذي ستدخل منه العلاقات الثنائية مرحلة جديدة. وفي 12 يوليو/تموز الجاري، أي بعد 3 أيام فقط من تعيين الملحق الثقافي، اتصل الرئيس التركي بنظيره "الإسرائيلي" المنتخب حديثا إسحاق هرتسوغ مهنئا إياه، وتناولا في الاتصال القضايا الثنائية والإقليمية، وأكدا فيه على أن لبلديهما "إمكانات تعاون كبيرة في شتى المجالات"، حسبما جاء في تغريدة لأردوغان، وأكد في تغريدة ثانية على أن "استمرار التواصل والحوار مع إسرائيل -رغم كل اختلافات الرأي- له أهمية كبيرة". من جهته، قال هرتسوغ إنه أكد -مع أردوغان- على أن العلاقات بين الجانبين "ذات أهمية قصوى لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط"، وإنهما اتفقا على "استمرار الحوار من أجل تحسين العلاقات" بين البلدين. وبالنظر إلى الصياغات المستخدمة من الجانبين، واستمرار الاتصال ل40 دقيقة -كما ورد في وسائل الإعلام- وكونه الاتصال الأول من نوعه منذ سنوات، يمكن القول إنه مؤشر واضح على قرب تطوير العلاقات بين الجانبين -أو على الأقل- مؤشر على رغبة تركية واضحة في هذا الاتجاه. قال الناطق باسم العدالة والتنمية -الحزب الحاكم في تركيا- عمر تشيليك إن الاتصال بين الرئيسين نتج عنه "إطار بخصوص الحاجة لاتخاذ خطوات" بين الجانبين فيما يتعلق بالحوار حول القضايا الخلافية، وكذلك ملفات التعاون مثل التجارة والسياحة، مؤكدا أنه ستكون هناك "خطوات ملموسة أكثر" مع تل أبيب. وفي قرينة إضافية على ذلك، شارك الرئيس "الإسرائيلي" الجديد في معرض عن القهوة التركية نظمه الملحق الثقافي الجديد في القدس الغربية، وقال "إذا اجتمعنا على مائدة واحدة رفقة القهوة، يمكننا أن ننقل منطقتنا إلى مستقبل أفضل عبر التعاون الثقافي وفي مختلف المجالات". الدوافع في ديسمبر/كانون الأول 2020، انتشرت أخبار عن تعيين تركيا سفيرا لها في تل أبيب ضمن حملة تعيينات دبلوماسية، وذكرت بعض التقارير اسم السفير الذي وقع عليه الاختيار. لم يتم الأمر في حينه، لكن فُهمَ أنه مقبول من الناحية المبدئية بالنسبة لأنقرة، وينتظر ربما بعض التفاصيل الفنية العالقة بين الجانبين. وبالبحث عن الأسباب والدوافع لهذا المتغير التركي، يبدو أن الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن قاسم مشترك لعدد من التطورات الإقليمية التي شملت تركيا وأطرافا أخرى. ومن ذلك ترطيب العلاقات التركية الأوروبية، وسعي أنقرة لفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع عدد من الدول الحليفة لواشنطن، ومن بينها مصر والسعودية وبدرجة أقل الإمارات. ولا تشذ دولة الاحتلال عن ذلك، إذ ثمة قناعة في أنقرة -على ما يبدو- بأن تطوير العلاقات مع الأخيرة يمكن أن يخفف حدة التوتر مع البيت الأبيض، وهو ما يمثل أولوية بالنسبة لتركيا في الوقت الراهن. كما أن ملف شرق المتوسط بات أولوية واضحة للسياسة الخارجية التركية مؤخرا، وهنا تتبدى أهميتان لتل أبيب من وجهة نظر أنقرة: الأولى، إمكانية ترسيم الحدود البحرية معها بما سيقوّي من موقف تركيا في مواجهة اليونان، خاصة أنها ما زالت تفتقر إلى شركاء في القضية، إذا ما استثنينا اتفاقها مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في 2019، وخصوصاً أن مسار تطوير العلاقات مع مصر (وبالتالي احتمال ترسيم الحدود البحرية معها) بطيء فيما يبدو. أما الأهمية الثانية، فهي خلخلة المحور المواجه لها في شرق المتوسط بقيادة اليونان، خصوصا أن الاحتلال ركن أساسي في هذا المحور من جهة، وله تأثير على بعض أعضائه الآخرين من جهة أخرى. كما أن هناك تركيزا واضحا على الجوانب المتعلقة بالثقافة والسياحة والتجارة من جهة، لأنها لا تمثل قضايا خلافية بين الجانبين وإنما مكاسب لكليهما، ومن زاوية أخرى لأهميتها في ظل تراجع المؤشرات الاقتصادية التركية مؤخرا ولا سيما في ظل جائحة كورونا. ومما يسهل الأمر ويساعد على النزول عن شجرة العلاقات المتوترة، أن الحكومة "الإسرائيلية" الجديدة أنهت -على الأقل مؤقتا- ظاهرة نتنياهو وحكمه، وهو ما رأته تركيا فرصة -فيما يبدو- بتحميله مسؤولية تردي العلاقات سابقا، وبالتالي إمكانية فتح صفحة جديدة مع الحكومة الجديدة، خاصة أن الخطاب الرسمي التركي كان يؤكد على أن مشكلتها مع الحكومة "الإسرائيلية" وسياساتها. الأثمان بالنظر لكل ما سبق، يبدو أن ثمة قرارا قد اتخذ في أنقرة بضرورة تطوير العلاقات مع دولة الاحتلال "الإسرائيلي"، ولعل أهم إشارة على ذلك اتصال أردوغان المشار إليه وتجاوزه الأبعاد الدبلوماسية الرسمية للحديث في "القضايا الإقليمية وذات الاهتمام المشترك" وغير ذلك، فضلاً عن تجاوب الطرف الآخر على لسان هرتسوغ حتى اللحظة. وليس واضحا بعد بأي سرعة يمكن أن تتطور العلاقات بين الجانبين، بل قبل ذلك ليس مؤكدا أن تل أبيب مهتمة بتسريع هذا المسار ومدى استعدادها له، خاصة أن تشيليك قال -في معرض رده على سؤال بخصوص تبادل السفراء- إن "الطرف الإسرائيلي ليس مستعدا بعد". لكن وفي كل الأحوال، إذا ما ذهبنا لتقييم أن القرار قد اتخذ، وأن الباقي مجرد تفاصيل تتعلق بالوقت والشكل والأدوات، فإن تطورا ما بدرجة أو بأخرى سيطرأ في المستقبل القريب على العلاقات بين الجانبين، مما يدفع للسؤال حول الأثمان التي سوف تدفع في سبيل ذلك. في المقام الأول، من المرجح ألا يكون هناك ثمن في الداخل التركي لخطوة من هذا القبيل، رغم أنه ليس هناك ضغط سياسي أو مطلب شعبي باتجاه تطوير العلاقات، إذ تشير بعض استطلاعات الرأي لعدم تحمس الشارع التركي لهذه الخطوة على صعيد أنصار الحزب الحاكم والمعارضة على حد سواء؛ إذ إن المُشاهَد أن الشارع التركي يتبع القرار السياسي في مسارات مثيلة أكثر مما يصنعه، خصوصا حين يُقدَّم القرار في سياق الأمن القومي ودعم الاقتصاد وما إلى ذلك. وأما على الصعيد الخارجي، فهناك ثمن ستدفعه أنقرة من صورتها ومصداقيتها في المنطقة خاصة أمام الفلسطينيين، وذلك ل3 أسباب رئيسة: الأول، أنها لطالما صورت نفسها المدافع القوي (وأحياناً الوحيد) عن الحقوق الفلسطينية في وجه سياسات الاحتلال، وهو ما لا يتناغم مع الرغبة في تطوير العلاقات معه، والثاني، انتقادها الحاد لاتفاقات تطبيع العلاقات بين الكيان وعدد من الدول العربية، أما السبب الثالث فهو توقيت الأمر بعد معركة سيف القدس، وما ارتكبه الاحتلال خلالها من جرائم استحثت موقفا وخطابا تركيا عالي السقف على المستويين الرسمي والشعبي. ولعله من المنطقي التساؤل حول الثمن الذي يمكن أن يطلبه الاحتلال بين يدي تطوير العلاقات، خاصة أن أنقرة تبدو أكثر رغبة وحرصا منه على ذلك وهو أكثر تحفظا وترويا. ويلحق به تساؤل آخر بخصوص العلاقات التركية مع الفلسطينيين، وخصوصا فصائل المقاومة وإلى أي مدى يمكن أن تتأثر بالتقارب المتوقع بين أنقرة وتل أبيب، لا سيما أن من شروط تل أبيب المعلنة للتقارب أمورا تتعلق بحركة حماس مثلاً. ختاما، من المتوقع أن تشمل الخطوات الأولى القريبة تطويرا للعلاقات السياحية والتجارية والثقافية، بما يمكن أن يبني عليه الطرفان خطوات لاحقة. لكن من غير المؤكد أن العلاقات بينهما ستسير في مسار إيجابي، فضلاً عن أن تعود إلى حالة التحالف السابقة وهو أمر مستبعد جداً، لا سيما في ظل ثبات السياسات "الإسرائيلية" تجاه الفلسطينيين وخصوصا في القدسوغزة، وهو ما يُتوقَّع أن يكون لتركيا رد فعل معلن عليها. ولكن إذا كانت هناك عودة لمسار سياسي بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" تحت أي مسمى، فإن ذلك قد يساعد على تسريع عملية تطوير هذه العلاقات، وهو ما أشار له أردوغان في تغريداته، ورفعت من احتمالاته زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لتركيا في نفس فترة الاتصال المذكور، وهي كلها مؤشرات على مرحلة جديدة باتت وشيكة فيما يبدو. * سعيد الحاج