أحمد نورالدين في الوقت الذي كان فيه الرئيس هواري بومدين بالرباط يوقّع اتفاقية ترسيم الحدود مع المغرب سنة 1972، كانت الثكنات العسكرية بضواحي الجزائر العاصمة تؤطر أفواجاً من الميلشيات للقيام بثورة مسلحة ضدّ الملك الراحل الحسن الثاني في مارس 1973. بمعنى آخر كانت يد بومدين توقع على الورق والأخرى تخفي خنجراً مسموماً وتتأهب للطعن في الظهر. وبهذا الاتفاق حقق بومدين هدفين: الأول هو تنازل المغرب عن أراضي الصحراء الشرقية التي اغتصبها الاحتلال الفرنسي وضمّها إلى ما كان يسمى “الجزائر الفرنسية”، والثاني: هو تحويل أنظار المغرب عن “ثورة بلا مجد” كان يتم الإعداد لها في الجزائر ضد النظام الملكي. ونفس السناريو تكرر سنة 1991، فبعد الفوز الساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية البلديات سنة 1990، بدأ النظام العسكري الجزائري يعدّ العُدة للانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانية التي كانت ستجري في ديسمبر 1991، فكل استطلاعات الرأي المحلية كانت تشير إلى فوز جبهة الإنقاذ. ومنعاً لأي دعم محتمل من طرف المغرب لجبهة الإنقاذ أو استعمالها كورقة للمقايضة في ملف الصحراء، سارع الجنرالات إلى تهدئة اللعب مع المغرب حتى يتفرغوا للجبهة الداخلية. وبالفعل ابتلع المغرب الطعم وقبل اتفاق وقف إطلاق النار في شتنبر 1991، أي أربعة أشهر قبل انفجار الوضع في الجزائر! انطلت الحيلة على المغاربة وغاب عنهم مكر ودسائس نظام يتبنى معاداة المغرب كعقيدة للدولة، فلو استحضروا تاريخ العلاقات بين البلدين لأدركوا أنّ النوايا الحسنة لا تصنع سلاماً. وقّع المغرب على اتفاق لم يكن بحاجة إليه، لأنّ الموقف العسكري حسمته القوات المسلحة الملكية مع انتهائها من تشييد الجدار الأمني السادس والأخير سنة 1987، والموقف السياسي حُسم بانهيار الجبهة الانفصالية سنة 1988 وعودة القيادات المؤسِّسة وآلاف المواطنين من مخيمات تندوف إلى أرض الوطن، والموقف الإقليمي كاد أن يُحسم مع انهيار نظام الحزب الوحيد في الجزائر وتباشير التعددية الديمقراطية، والموقف الدولي تحوّل مع انهيار جدار برلين وتراجع دعم المعسكر الشرقي للمشروع الانفصالي، فلماذا يوقع المغرب وهو في موقع المنتصر على اتفاق بمثابة طوق النجاة للعسكر الجزائري والقيادة الفاسدة للجبهة الانفصالية؟. لقد كان من الأجدر في تلك الظروف المحلية والدولية الضغطُ على جنرالات الجزائر لإنهاء مشروع الانفصال في الصحراء، وفي حال الرفض كان بإمكان المغرب دعم الشرعية المنبثقة عن الانتخابات التشريعية الجزائرية التي ستفوز بها لاحقاً جبهة الإنقاذ في دجنبر 1991، خاصة بعدما تم نشر نتائجها في الجريدة الرسمية الجزائرية وأصبح نواب جبهة الإنقاذ ممثلين شرعيين للشعب، كانت ورقة استراتيجية وكفيلة بحسم الموقف لصالح المغرب، ولكنه ضيع الفرصة. في المقابل، استطاعت الدبلوماسية الجزائرية أن تضمن حياد المغرب في انقلاب جنرالاتها على الديمقراطية وما تلاه من حرب أهلية راح ضحيتها ربع مليون جزائري، وحصل النظام العسكري على صك البراءة في حربه على المغرب في الصحراء لأن الاتفاق اعتبر الجزائر مجرد ملاحظ على قدم المساواة مع موريتانيا، كما حقق الجنرالات حُلمهم في إضفاء “الشرعية” على الجبهة الانفصالية ومنحها مقعداً حول مائدة المفاوضات التي ستنطلق فيما بعد. ولأنّ الاستفتاء “التأكيدي” كان من المفترض أن يُنظم بعد ستة أشهر من وقف إطلاق النار، فإنّ المفاوض المغربي لم يُدقق كثيراً في تفاصيل ذلك الاتفاق وملحقاته المليئة بالثغرات الاستراتيجية ومنها المنطقة العازلة التي أصبحت الدبلوماسية الجزائرية تروج لها كمناطق “محررة”. ولذلك ما زال المغرب إلى اليوم يدفع الثمن غاليا رغم مرور 29 سنةً على الاتفاق المشؤوم. وفي خِضم ما يُروج له من وساطة عربية بين المغرب والجزائر على خلفية إصرار الجزائر وجنوب إفريقيا على حضور جمهورية تندوف إلى القمة العربية الإفريقية في الرياض، ينبغي لأي مُصالحة أن تكون محصنة بذاكرة وطنية قوية وضمانات عقلانية وشروط موثقة تضمن حقوق المغرب المشروعة وتتفادى تكرار أخطاء الماضي. ولا شك أنّ أول خطوة للتأكد من جدية ومصداقية أيّ مبادرة في هذا الاتجاه هي عودة اللاجئين من مخيمات تندوف، وإغلاق معسكرات الميلشيات الانفصالية وتسليم أسلحتها، وتفكيك الكيان الوهمي وتخيير قياداته بين العودة إلى أرض الوطن أو الاندماج في الجزائر التي يحملون جوازات سفرها وأوراق هويتها. وأي وساطة عربية أو دولية لا يسبقها تنفيذ هذه الشروط ستكون هدية جديدة للنظام العسكري تمكنه من المناورة في ملف الصحراء ومن التقاط أنفاسه في مواجهة الحراك الشعبي الذي دخل عامه الثاني. فهل سنخلف الموعد مع قضيتنا الوطنية مرّة أخرى بقبول مصالحة فلكلورية؟ أم أننا سنستفيد من تجاربنا المريرة مع نظام عسكري فاقد للشرعية وننحاز للخيار الصحيح وندعم حراك الشعب الجزائري؟!