ليست هذه هي المرة الأولى التي يتفجر فيها الخلاف داخل التحالف الحكومي في المغرب، فقد سبق أن توترت العلاقة بين العدالة والتنمية وحزب التجمع الوطني للأحرار، بعد الجولات الجهوية التي قام بها رئيس التجمع، عزيز أخنوش، وانتقد فيها سياسات حكومية يعتبر شريكا فيها، وبلغ به الأمر حد القيام بحملة انتخابية سابقة لأوانها تحت شعار “مسار الثقة”، أعلن فيها عن أن حزبه سيتصدر انتخابات 2021، ويترأس الحكومة، مما أثار حفيظة رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، فأطلق تصريحات قوية ضده، وجه فيهات رسائل للدولة محذرا إياها من خطر زواج المال والسلطة عليها، وهي التصريحات التي أوقفت مسار حزب التجمع، ودعته إلى تدبير الخلافات داخل الأغلبية، والضغط على رئيس الحكومة لشجب تصريحات بنكيران. تدبير رئيس الحكومة لهذا التوتر، نجح نسبيا في إعادة الأمور لنصابها، من خلال حمل مكونات الأغلبية على التوقيع على ميثاق يلزمها بشروط العمل وقواعده، لكنه في الآن ذاته، التف على مطلب الأحرار، وقدم ما يشبه الاستجابة له من خلال تصريحات لأحد وزرائه (لحسن الداودي)، اعتبر فيها أن “هجوم بنكيران على الحلفاء يعني حزم الحقائب ومغادرة الحكومة”. لكن، يبدو أن التوتر الجديد الذي يشهده التحالف الحكومي، يأخذ طابعا خاصا، فلم يعد الأمر مقتصرا على تصريحات الوزير التجمعي الطالبي العلمي (قطاع الشبيبة والرياضة) اتهم فيها العدالة والتنمية بكونها تحمل “مشروعا تخريبيا للبلاد”، ولا على التداعيات التي فجرها، سواء تعلق الأمر برد نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية سليمان العمراني الذي اتهم الوزير التجمعي بمخالفة ميثاق الأغلبية، أو تعلق الأمر برد عضو المكتب السياسي للأحرار، مصطفى بايتاس، الذي أعاد نفس الاتهام الموجه للعدالة والتنمية بكونه يحمل مشروعا هيمنيا على الدولة والمجتمع، أو تعلق ببلاغ الأمانة العامة للعدالة والتنمية الذي اعتبر أن الوضع الطبيعي لمن يتهم الحزب الذي يرأس الحكومة بتبني مشروع تخريبي هو أن يخرج من الحكومة، وإنما دخل على الخط أيضا الحليف الاستراتيجي، التقدم والاشتراكية، ببلاغ لفت الانتباه إلى جوهر الأزمة التي يعيشها المغرب، واصفا خلافات الحزبين ب”العبثية”. ثمة على الأقل أربع فروق تجعل التوتر الجديد مختلفا عن سابقه، فهو أولا، جاء بعد فترة صمت طويلة لحزب للأحرار، وغياب أطول لرئيسه عزيز أخنوش الذي تعرضت مصالحه التجارية لضربات موجعة بسبب المقاطعة الشعبية، وتفجر عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الجزئية بدائرة المضيقالفنيدق التي فاز الأحرار بالمقعد فيها، ذلك الفوز الذي أعطى لقيادة الأحرار الإشارة لإمكانية عودة دينامية “مسار الثقة”، وربما فهمت من ذلك انتهاء مفعول المقاطعة الشعبية. ثم ثانيا، جاء بسبب تصريحات قوية صدرت من وزير تجمعي، وليس من مجرد قيادي له وضعية اعتبارية في العدالة والتنمية وبدون موقع حكومي. والثالث، أن مضمون تصريحات الوزير التجمعي، تعدى مجرد إعطاء إشارات يمكن تأويلها بهذا النحو أو ذاك، وإنما تعلق الأمر بهجوم يشبه إلى حد كبير هجوم المعارضة الاستئصالية التي كانت تتهم العدالة والتنمية بالتطرف وخدمة أجندة “إرهابية”. الفرق الرابع، أن الرد هذه المرة جاء رسميا من الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، وليس فقط من قبل زعامة اعتبارية، مما يعني أن رئيس الحكومة، والأمين العام لحزب العدالة والتنمية نفسه، يتحمل مسؤولية الموقف الذي خرجت به قيادة الحزب، بما يعني أنه أصبح جزءا من الموضوع، ولا يملك المسافة التي تمكنه من تدبير الخلاف خارج الاعتبار السياسي. قد لا يعطي المراقب أهمية كبيرة لهذه الفروق، لكنها في مربع السياسة تعني الكثير، إذ ما إن تفجر الخلاف، حتى تم في وسائل الإعلام الاستعمال الكثيف لفكرة إعفاء كتاب الدولة من الحكومة، وهي فكرة نسبت لرئيس الحكومة، سربت عشية تدبير خلافه مع حليفه الاستراتيجي بعد إعفاء كاتبة الدولة في الماء، شرفات أفيلال، طرحت كصيغة لتجنب الإرباك الناتج عن صراع الصلاحيات بين الوزراء وبين كتاب الدولة، كما تحرك بشكل أكثر كثافة الحديث عن تعديل حكومي وشيك. البعض، وخصوصا المصادر الحكومية، تعتبر أن ذلك هو جزء من التخمينات، أو ربما تمنيات بعض الخصوم السياسيين، لكن الذي يطرح علامات استفهام مثيرة، هو الداعي الذي جعل وزيرا مطوقا بواجب التضامن الحكومي كما ينص على ذلك ميثاق الأغلبية، أن يخرج بلغة جد متطرفة في نقد حليفه، ويتهمه بحمل مشروع تخريبي للدولة، ثم في الوقت ذاته يوجه مدفعيته لتركيا وأردوغان!! التحليل التبسيطي يميل إلى اعتبار ذلك مجرد رد فعل تجاه تصريحات لأحد قيادات العدالة والتنمية في الحملة الانتخابية التي عرفتها دائرة المضيقالفنيدق (عزيز أفتاتي)؛ هاجم فيها زواج المال بالسلطة، وفتح ملف تقرير المحروقات وضرورة ترتيب ما ينبغي ترتيبه، مما قرئ على أساس أنه استهداف مباشر لقيادة الأحرار. لكن، ليست هذه هي المرة الأولى التي تستقبل فيها قيادة الأحرار تصريحات أفتاتي، بل لقد أصبح عبد العزيز أفتاتي حالة سياسية معروفة في ولاية بنكيران، أيضا في ولاية العثماني نفسه، ولم تكن قيادة الأحرار تعيرها اهتماما كبيرا. الذي نميل إليه أن يكون التوتر بين مكونات الأغلبية شيئا مقصودا، وينطلق من رهان سياسي، يقصد بالدرجة الأولى تحرير الأحرار من الشروط السياسية الصعبة التي وضعته فيها المقاطعة، ومحاولة إطلاق ديناميته من جديد، وذلك بنفس الطريقة التي تم فيها خلق التقاطب بين العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة قبيل انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر. لكن هذا التقدير لا يعني تجاهل احتمالات أخرى، لها ارتباط برهانات سياسية داخلية وخارجية، فرهان إضعاف العدالة والتنمية لا يزال قائما ولم يتغير، ومحاولة تعديل موازين القوى لغير صالحه، من خلال إجراء تعديلات حكومية متتالية، أصبح اليوم جزءا من اللعبة السياسية المتكررة، كما أن الرهان الإقليمي (السعودي الإماراتي) لن يتوقف عن المطالبة بإزاحة حكومة الإسلاميين، رغم أن طبيعة النظام السياسي في المغرب تجعل القرار السياسي، خاصة في القضايا الاستراتيجية، حكرا على الملك، وأن ذلك يشكل ضمانة كافية لتقليص حجم التوجس من رئاسة العدالة والتنمية للحكومة في المغرب. فالسعودية والإمارات، بالعقلية السياسية التي يدار الحكم فيهما هذه المرحلة، يمكن أن تسيس الهبات الخليجية الموجهة لمغرب، وتستمر في ممارسة الضغوط التي لم تنتج شيئا كبيرا في السابق. لكن، مهما تكن الخيارات، فإن الحاكم في القرار الاستراتيجي الخاص بإدارة المشهد السياسي، هو ضمانات الاستقرار السياسي، لا سيما بعد تعاظم المخاوف من تنامي الحراك الاجتماعي. فالدولة اليوم، ولا محيطها الدولي، وبالأخص أوروبا، وشريكي المغرب: فرنسا وإسبانيا، لا يمكنهما أن يبقيا في موقع الحياد، إذا ما اتجهت الضغوط نحو الإضرار بقواعد الاستقرار السياسي. فلا يوجد اليوم في المغرب حزب قادر على أن يعتمد عليه الحكم – كقاعدة اجتماعية – لمواجهة التحديات الاجتماعية القادمة، ولا حتى التحديات السياسية المرتبطة بالقضية الوطنية، ولا الجواب عن متطلبات أمن الجيران في الضفة الشمالية للمتوسط. تركيب هذه الخيارات أن أقصى ما يريده صناع القرار السياسي؛ هو أن يتجه المشهد السياسي، ومنه الحكومي، في اتجاه مزيد من إضعاف العدالة والتنمية، وأن تتهيأ شروط أفضل لخروج جديد للأحرار، بحكم عدم وجود أي حزب آخر يمكن الرهان عليه في منافسة العدالة والتنمية انتخابيا، وترقب موقف العدالة والتنمية، واستثمار أي ضعف يبديه في الموقف للمرور إلى خطوات أكثر إيلاما في تغيير موازين القوى لغير صالحه عبر تعديلات حكومية أخرى، تقلل من حجمه وحضوره، وتضعف صورته لدى الراي العام. وفي المقابل، يملك العدالة والتنمية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، الفرصة لتجميد خلافاته والاشتغال على رص صفوفه في مواجهة التحديات التي يواجهها، والتعبير عن موقف أقوى في مواجهة حليفه، حتى يحصن نفسه من أي ضربة قادمة تزيد من إضعافه.