يعد التراكم الزمني في الدورة الحياتية من أهم قواعد بناء الثقافات والعلوم الإنسانية المتنوعة عبر الأجيال على مختلِف تنوع هذا الوجود البشري والحياتي بشكل عام. لذا نحن نؤمن إيمانا قاطعا بهذا التراكم المعرفي الذي يزامن دورة الحياة وما ينتج عنه من انطلاق وتوعية لكثرة التجارب المنصبة والمختبرة عبر حقب زمنية متعاقبة تؤثر على سيرة ومسيرة الحياة. إلا إن هذا التراكم المعرفي قد تواجهه نكسات ونكبات تحجبه و تجعله غير واضح للعيان من خلال وجود بعض المراسي الذهنية المسبقة التي عادة ما تنجذب لها النفس البشرية المتعلقة دائما بتلك المراسي، فتحد من التقدم المعرفي عبر التراكم الذي يصاحب تلك البيئة المختلة و المنجذبة دائما للسابق الزمني[1] . وقد يصاحب أيضا هذا التراكم المعرفي تراكم سلبي يسير معه محاذيا بتواز يجهض لمعان الصورة الجذابة والايجابية مما قد يفقده خصوصية التأثير فيعيق حقيقة تقدمه نحو فضاء أرحب وأكثر ثقة لخوض تجربة جديدة تضيف للإنسان وتقوي إرادته نحو أفق جديد أكثر إشراق ومعرفة من هنا نجد أن هناك نوعين من التراكمات للوعي يقودان في الغالب إلى الاستفادة من التجارب السابقة والانطلاق منها لواقع مغاير تماما لما هو عليه حال الإنسان أو المجتمع، و آخر سلبي يسهم في إرجاع هذا الإنسان إلى الخلف عدة قرون من الزمن؛ فمن أمثلة التراكم الواعي الوعي بالشيء وهو ما سمي بالتراكم المعرفي وهو ما يخرج إلى السطح من اكتشافات إنسانية علمية أو إنسانية تكنولوجية أو إنسانية معرفية وغيرها من إفرازات الحركة الإبداعية[2] التي تعتمد على تاريخ العلوم وتطويرها ونقلها إلى حالة أكثر فائدة ونفع للمجتمعات. أما المثال إلى التراكم السلبي الذي قد يصاحب ويوازي التراكم المعرفي والحركي هو ما يسمى بتراكم الانحدار والذي ينتج عن التخلف القيمي والجهل والرعونة وطغيان الأمية الفكرية الناشئة في المجتمعات والتي غالبا ما يقع فيها طبقة المثقفين والمتعلمين وأصحاب الرأي والحصافة حيث لا تفيد الثقافة بجنب تلك القيم الغير سوية سؤال كبير دائما ما يدور في ذهن الكثير، ألا وهو: ما الفائدة المرجوة من الثقافة والتعليم؟ ويعبر هذا السؤال في الغالب الإجابة عن النتيجة المتوخاة من العملية الثقافية بهيكلتها الاجتماعية والفردية وتجسيدها سلوكا على الواقع المعاش في أوطاننا ومجتمعاتنا المختبرة حركيا عبر حقب من التطوير الذي سبق هذه اللحظة[3] . إلا إن الإجابة في أوطاننا تأتي عادة بلا شيء, إن لم تأت من الفئة الثانية مجسدة تراكم الانحدار بكل رداءة وسوء؛ لان كل شيء في المجتمع قابع تحت نذير الانهزام والصراعات التي تنهشها أمراض الأنا الفئوية والحزبية والثقافية دون منح خيارات واضحة غير ما تفضي إليه من حالة الضجيج المفتعلة والفوضى الفضفاضة على حساب تلك الاستفادة للتراكم الزمني الذي كان من المفترض أن يخرج بنتيجة مفادها كيف نوجه تقنيات هذا التراكم المعرفي انطلاقة جديدة نحو تقدم هذا الكيان وتطوره. إن للقوى الحسية المادية الطاقة الهائلة في التغيير الحقيقي الذي قد يدعم الحركة المعرفية بالاستفادة من التراكم الايجابي المعرفي، إذا ما أسندت هذه القوى بقوى خفية مذخورة خلف جدران قلوبنا، ألا وهي سمو الروح، وقوة الإرادة والإبداع، وسعة الخيال والفكر وقبول الآخر ورفض الأنا المتعصبة فردا وجماعة؛ لأن بمقدور هذه القوى الحسية أن تقوم بدور المعول في هدم قواعد التراكم المعرفي والاجتماعي والعلمي على السواء دون تفريق بينها إذا لم تستثمر. إن الحرية -الفكرية منها أو السياسية أو الثقافية- لها الدور الأنصع للاستفادة من هذه المعرفة وتراكماتها المختلفة؛ فالمجتمع الحر عادة ما يكون مجتمعا منفتحا تواقا للازدهار، مما ينتج عنه سمو الثقة والقدرة الذاتية في أطر تعبيرية تنمي القدرة على استخراج كنوز ذلك التراكم من مكامنها المغلقة لحيز يخلق روح التفاؤل والعمل نحو مجتمع متقدم حضاريا ومعرفيا، فقد ألف الكثير من الكتب، وكتب الكثير من التجارب الخاصة والعامة، وطرحت النظريات الفكرية والمعرفية، وأقيمت الندوات والمحاضرات المتخصصة على اختلاف حقولها المعرفية جميعًا، إلا أن الواقع المكبوت والمجتمع الأسير للفئوية والجهوية والنزاعات الحزبية منها والطائفية وحتى السياسية تحد من القدرة على التقدم والاستفادة منها ولو بالنزر اليسير؛ لأن الاختلاف عادة ما يكون سيد الموقف في قمع الحريات فتكون ثقافة الارتجال هي المثل البديلة لتلك الاستفادة[4] . لا شك أن للتربية السلوكية والمعرفية والأخلاقية الدور الأبرز في خلق مجتمع واع يستمع للقول فيتبع أحسنه، ويناضل من أجل تحقيق العدالة والرفاهية له ولمحيطه. إلا أن هذه المثل لا تتحقق أبدا دون تبني دور فاعل لحوار متكافئ، يرسم اتجاه الاختلاف، وحدوده والهيمنة على أدواته، والتحكم بها ضمن سياق منفتح، خال من الاحتقان يهدف للاستفادة من تجارب السابقين، بأساليب فكرية مبتكرة تحد من بؤر التوتر والتصعيد في جو تسوده الديمقراطية لاستعادة عافية الروح، وصفاء الضمير الغائبين عن الأسرة في الحركة التربوية[5] . ليس التراكم المعرفي وحده هو المعني للاستفادة الحقيقية منه، بل أيضا التراكم الانحداري السلبي هو أيضا مدعاة للدراسة والاستفادة منه، فالصراعات الفئوية، والأنا الفردية والجماعية، وكبت الحريات، والطائفية، والرُّعُونة، والارتجال، وتمكين القوى المادية، والطغيان هي، أيضا، محل اعتبار واستفادة , فعبر تحليل النتائج والواقع من خلال الأمس القريب والبعيد لا شك يمكن لنا أن نبتذر بذورًا تساهم في اخضرار مستقبل أكثر واقعية، نبشر -من خلاله- بثقافة فكرية معيارها الحرية والتسامح والانطلاق نحو غد أكثر واقعية لا يتيح للمخادعين فيه أية فرصة مهما استتروا تحت عباءة النقاء والحب والصفاء. لقد طمحت الأجيال السابقة لرسم مستقبل تعمه الإنسانية، برغم تعدد مشاربهم وانتماءاتهم، طمعا في تأسيس واقع ثقافي يرعى وَحدة الهدف؛ لخلق واحة الفكر التي يتفيأ ظلالها الجميع على تنوع مشاربهم، إلا إنها أخفقت عندما اشتبكت بالسياسة والحزبية تحت الأيدلوجيات المختلفة وتبنيها، فكانوا هم طرائد الجلادين في غابة السياسة المأدلجة؛ حيث لم يفلح جلهم في تمرير الأعاصير والرياح التي كانت تحوطهم من فترة لأخرى، فغسلت بدمائهم بلاط الأيدلوجيات، تحت أرجل المنتفعين، ومبيضي الرخمات السامية (الملمعون للسلطة)، فقد اشتبهت عليهم فصولها حين تبادروها بالأنا الحزبية المقيتة دون ارتكاز على تراكمات التاريخ، وصراعات الشعوب، واخذ العبر منها. لقد غُرر بالإنسانية والفكر ردحا من الزمن عبر خطوط لا تمد بصلة لفطرتها السليمة، وأعتقد أن منشأ الاختلاف هو حقا الاختلاف في خارطة الذهن لهذا الإنسان، ونمط الاستدعاء الذهني الذي يحمله، وهذا فيه من الصحة الكثير، ولكن بعد اكتشاف برمجيات الذهنية والتحليل النفسي السيكولوجي اتضح -ومن خلال تجارب إنسانية- إمكانية نشوء علاقة تصالحية منشؤها الفكر الهادف لرسم المستقبل الموحد، وذلك بإرساء مناخ من السلوك الحسن عبر التحية الحسنة، مثلا، رغم الاختلافات العقدية والنفسية والذهنية، وباستحضار النتائج السابقة للتاريخ البشري، والاعتبار منه بضرب المثل خلال الأحداث، وقياس نتائجها، وهذا ما نجح فيه القرآن الكريم بتحويل مجتمع متناحر تحكمه القبلية والسيف، إلى مجتمع تسود فيها العدالة والرحمة. فعندما يكون الهدف هو أسمى من كل الأهداف، لا بد أن تكون التضحيات لتحقيقه رخيصة مهما كبرت؛ كي تكون النتيجة هي الأفضل بين النتائج التي يؤملها المجتمع. إن القضية الأساسية المركزية لإنجاح الاستفادة من التراكم الاجتماعي والمعرفي تكمن في عنصرين هما الجدية والعمل نحو مرتكزات الاستفادة القصوى من ذلك التراكم المعرفي، بصناعة للرأي بالاستفادة من جميع الآراء والانفتاح عليها دون هيمنة فئة على أخرى، أو فرضٍ لفكر طائفة على طائفة[6] ، وذلك بإيجاد تعريفات وسطية يتقبلها الجميع، ومحافظة على كرامة الرأي مهما اختلف بدفع عملية الاحترام المتبادل تحت شعار: (حب لأخيك ما تحب لنفسك) لتسود -مع الجدية هذه- روح إخاء تساعد على النهوض بالمشروع الأسمى، بعيدا عن التذرع بالنقيصة، والاستخفاف، والتهميش والإقصاء, إذ إن روح المشاركة الاجتماعية والمعرفية يجب أن تطفو على الخلاف، بعكس ما كان عليه الحوار أو التعاطي في السابق، مستفيدين من وضع جديد مفاده النظرة الجادة لأخطاء الأمس، وتفادي حصولها، بتحجيم وقعها على الحاضر والمستقبل[7] . من هنا نستفيد من الوعي التراكمي الحقيقي؛ إذ لا مشكلة في وجود المثقف والمنظر والعالم والمبدع والمفكر والأديب ومحدودية العلاقة بينهم باختلافهم، ولكن الإشكالية تقع في مدى جدية كل واحد منهم -رغم الاختلاف- في التعاطي للاستفادة من تراكمات خلفها الوعي المبدع الايجابي والمنحدر على السواء في الحقب الزمنية السابقة، وتحقيق طموحات مجتمعاتهم بتبديد نقط التوتر في حواراتهم، وتعاطيهم اليومي نحو تأمين حياة خالية من تعقيدات نشأها آخرون دون إرادتنا نحن الذين نعيش هذه اللحظة. ريد عبد الله النمر [1] إدارة السلوك (سلسلة) بيتر هوك، وآندي فاس، الناشر مكتبة جرير، السعودية، الطبعة الأولى، 2006م، ص:30. [2] الصياغة الجديدة، السيد محمد الشيرازي، نور الهدى للنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1413 ه / 1992 م. ص: 158. [3] المجتمع الإسلامي، السيد محمد تقي المدرسي، نور الهدى للنشر والطباعة بيروت، الطبعة الخامسة 1412ه،1992م، ص: 277. [4] الصياغة الجديدة، السيد محمد الشيرازي، مرجع سابق. ص: 184. [5] ثقافة الإسلام وثقافة المسلمين، علي علي آل موسى،، كتاب البصائر (1)، مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في حوزة القائم العلمية، الطبعة الأولى، 1426ه، 2005م ص: 149. [6] ثقافة الإسلام وثقافة المسلمين، علي علي آل موسى، مرجع سابق، ص: 149. [7] شرعية الاختلاف. الشيخ عبد الله اليوسف، دار الصفوة، بيروت، الطبعة الأولى 1417ه، 1996م، ص: 32.