لا تزال المآذن ماثلةً للعيان، لكن لم تعُد تسمع خطوات الفتية في أرجاء مساجد لينشيا، التي تعرف باسم «مكة الصغرى»، في مقاطعة قانسو، شمال غرب الصين؛ حيث بات مَن هم دون السادسة عشرة ممنوعين من تلقّي الدروس الدينية. لقد شدد النظام الشيوعي سياسته في إقليم لينشيا، المتمتع بحكم ذاتي، والذي كان يُعدّ موئلاً للحرية الدينية بالنسبة لقومية هوي الصينية المسلمة. مدينة عريقة ذات ثقافة تعود إلى أكثر من 5 آلاف سنة وتقع ولاية لينشيا الذاتية الحكم لقومية هوي المسلمة في وسط مقاطعة قانسو، شمال غربي الصين، في طرف المجرى الأعلى للنهر الأصفر، وهي مدينة ثقافية عريقة ذات تاريخ يعود إلى خمسة آلاف سنة. ومنذ أن نجح الإمبراطور الأول لأسرة تشين الملكية (207ق.م – 221 ق.م) في توحيد أراضي الصين، ظلت لينشيا محطة عبور على طريق الحرير. ويوجد فيها 2757 مسجداً، الأمر الذي يضيف الخصائص الإسلامية لهذه الولاية. واليوم.. يقول المسلمون إنهم يخشون من مسعى متعمد لدى السلطات «للقضاء» على الإسلام، بعد أن حصرت عدد الأئمة، ومنعت الأذان عبر مكبرات الصوت في 355 مسجداً في المقاطعة، تحت عنوان «مكافحة التلوث السمعي». هيئة التربية تمنع قراءة القرآن وكانت هيئة التربية قد أصدرت في 2016 بمنطقة غانسو الصينية مذكرة تقول: إن النشاطات الدينية ممنوعة في المدارس بعد انتشار فيديو لطفل في روضة أطفال في لينشيا، يقوم بتلاوة القرآن. وتخشى السلطات الرسمية الصينية الشيوعية من أي تحركات منظمة خارجة عن سيطرتها، بما يشمل الدينية منها. «إنهم يريدون علمنة المسلمين وقلع الإسلام من جذوره»، يقول رجل دين بارز، رفض الكشف عن هويته، ويداه ترتعشان. ثم يضيف: «لم يعد من حق الأطفال أن يؤمنوا بالدين.. فقط بالشيوعية والحزب». بقوة القانون يمنع الأفراد من السماح للقاصرين بدخول المساجد ودراسة القرآن. يحظر المرسوم المحلي الصادر في بداية السنة، واطلعت عليه وكالة فرانس برس، على أي فرد أو مكان للعبادة «تنظيم أو توجيه أو دعم أو السماح للقاصرين بالدخول إلى أماكن دينية لدراسة النصوص الدينية، أو المشاركة في الأنشطة الدينية». وشددت بكين إجراءاتها القمعية ضد المجتمع المدني منذ تولّي الرئيس شي جين بينغ الحكم في 2012، وعززت القيود على حرية التعبير، وسجنت مئات النشطاء والمحامين. ويضمن الدستور الصيني حرية المعتقد الديني، وهو مبدأ تقول بكين إنها تتمسك به. واستهدفت القيود القانونية المتصلة بالعبادة في السنوات الأخيرة جميع الأديان المعترف بها في الصين، بما في ذلك البوذية والكاثوليكية، مع تغليظ العقوبات في حال ارتكاب ممارسات مخالفة للقانون. لكن يبدو أنها تستهدف المسلمين بشكل خاص. والسبب وراء ذلك هو الوضع المتوتر للغاية في شينغيانغ، الإقليم الشاسع في شمال غرب الصين، الذي تعيش فيه أقلية الأويغور، وهي قومية تركية – مسلمة، وتشهد أعمال عنف وهجمات تنسب إلى ناشطين من الأويغور الداعين إلى الاستقلال. وفي الغرب الصيني يواجه الإيغور سياسات مشدّدة بحق طقوسهم الدينية. إلى ذلك قالت وزارة الخارجية الأميركية، في تقرير سنوي لها العام الماضي: إنه في 2016 ارتكبت الصين «إساءات جسدية وتوقيفات واعتقالات وتعذيباً وأحكاماً بالسجن أو مضايقات بحق منتمين لمجموعات دينية مسجلة أو غير مسجلة». ويؤكد مسلمو لينشيا أن لا علاقة لهم بمسلمي شينغيانغ الذين لا يقاسمونهم لا اللغة ولا العادات. ويقول الحلاق ما جيانكاي (40 عاماً): «إنهم مسلمون أيضاً، لكنهم عنيفون ومتعطشون للدماء». ويؤيد شاب جاء من شينغيانغ إلى لينشيا لدراسة القرآن والاستمتاع بحرية غير مألوفة في منطقته، ذلك بقوله إن «الأمور مختلفة جداً هنا». لكن بنظر النظام، فإن «الغيرة الدينية تعزز التعصب الذي يقود (...) إلى الهجمات الإرهابية»، يقول أحد الأئمة، شارحاً بأن تشديد القيود في لينشيا ينبع مباشرة من الوضع في شينغيانغ. كان أكثر من ألف طفل وشاب يحضرون دروساً دينية خلال العطل المدرسية في المساجد القريبة من منازلهم. أما اليوم فلم يعد بإمكانهم دخولها. ويتمكن فقط حوالي عشرين طالباً ممن لا تقل أعمارهم عن 16 عاماً والمصرح لهم رسمياً من السلطات بدخول غرف تدريس على جدرانها رفوف رُتبت عليها مصاحف استقدمت من المملكة العربية السعودية. وتقول السلطات إنها حظرت التعليم الديني حرصاً على أن يرتاح الأطفال خلال الإجازة ويكرسوا وقتهم بصورة أفضل لدراستهم. وتقول السلطات الرسمية الصينية الشيوعية إنها تواجه تزايداً في التهديدات الإرهابية من طوائف محلية ومَن تصفهم بالمتطرفين الإسلاميين، لكنَّ المنتقدين يتهمون بكين بممارسة المضايقات والاعتقالات والإساءات على نطاق واسع. وفي منطقة شينغيانغ بأقصى الغرب الصيني، تواجه الأغلبية المسلمة من الإيغور قيوداً مشددة على ممارسة شعائرها، منها منع أفرادها من إطلاق اللِّحى وأداء الصلاة في الأماكن العامة. لكن الأهل قلقون.. وتقول ما لان (45 عاماً) وهي تبكي أمام وعاء من الأرز: «نحن خائفون جداً. إذا استمرت الأمور على هذا النحو على مدى جيل أو جيلين ستختفي تقاليدنا». ويقول ويليام ني، من منظمة العفو الدولية: إن هذا هو الهدف بالتحديد؛ إذ إن السلطات تستهدف القُصَّر «لضمان زوال التقاليد الدينية». بات ابن «ما لان» وعمره 10 سنوات يقضي عطلته أمام التلفزيون، في حين كان يدرس خمس ساعات في اليوم في المسجد، ويحلم بأن يصبح إماماً. وفي المدرسة، يشجعه المدرِّسون على كسب المال، والانضمام إلى الحزب الشيوعي، تقول الأم. خلال العطلة المدرسية الماضية، زار مفتشون المسجد بانتظام للتأكد من عدم وجود أطفال فيه. وحاول الإمام أن يعطي دروساً في السر قبل شروق الشمس، لكنه عدل عن ذلك خوفاً من العقاب. مع ذلك، يقول ل «فرانس برس»: إن «الإسلام يُملي علينا تعليم الدين من الولادة وحتى الممات. ما إن يصبح الطفل قادراً على الكلام، يجب أن يتعلم القرآن». غطاء الرأس من العلامات البارزة التي تميز المسلمين عن غيرهم في الصين في الصين، لا يمكن تمييز كثير من المسلمين عدا عن رفضهم تناول لحم الخنزير. ويُعرف مسلمو لينشيا بأنهم اندمجوا بشكل جيد تاريخياً مع قومية الهان التي تعد المجموعة المهيمنة في البلاد. لكن يمكن في لينشيا تمييزهم بوضوح أكبر من أي مكان آخر، سواء من الحجاب الذي ترتديه النساء اللواتي يقدمن لحم الخراف المطبوخ في المطاعم الحلال، أو القلنسوة البيضاء التي يعتمرها الرجال لدى ذهابهم إلى المسجد في وقت الصلاة. وتسود أجواء البازار في شوارع المدينة؛ حيث ينتشر تجار السجاد وباعة البخور ومقدمو «الشاي ذي الكنوز الثمانية» وهو شراب محلي يُصنع من التمر. تعيّن على الأعيان المسلمين أن يتعهدوا خطّياً باحترام المرسوم، لكن أحدهم رفض مثيراً غضب السلطات، ومسبباً الحرج لزملائه الذين باتوا يتجنّبونه. ويقول متحدثاً عن الحملة الماوية المتشددة خلال سنوات 1966 – 1973: إن الأمر «يشبه العودة ببطء إلى زمن الثورة الثقافية»، عندما هدُمت المساجد أو حُوِّلت إلى إسطبلات للحمير. ويؤكد أئمة آخرون أن السلطات تصدر الآن عدداً أقل من التراخيص لتدريس الدين. ويقول أحدهم: «في الوقت الحالي، هناك ما يكفي منا لكنني قلق بشأن المستقبل. حتى وإن كان لدينا طلاب فإنه لا يوجد عدد كافٍ من الموظفين المدربين تدريباً جيداً لتدريسهم». وتلعب المساجد في لينشيا دوراً لا غِنى عنه في حياة المسلمين. وحسب تقاليدهم، يسكن معظم مسلمي لينشيا في دور مستقلة عن بعضها. ولا يمثل المسجد مكان الصلاة للمسلمين فحسب، بل مركزَ حياتهم واقعياً وروحياً. وعندما يرفع أذان الفجر، ينهضوا جميعاً من نومهم لأداء الصلاة، ويحرصون على أداء الصلوات الخمس في المسجد. يذكر أن السلطات كثّفت تحركاتها في الأشهر الأخيرة باسم مكافحة الإسلام المتطرف. وهناك مراكز لإعادة التثقيف السياسي، تنفي بكين وجودها، تستضيف المشتبه بهم الذين يتم توقيفهم أحياناً لمجرد أنهم أطلقوا لِحاهُم أو عُثر في حوزتهم على مصحف.