لا أتذكر الشيء الكثير عن وفاتي، و سبب موتي المفاجئ، أذكر فقط أني استيقظت خارج جسدي، وجدت نفسي ميتا، سمعت بكاء الكثيرين من الذين حزنوا على رحيلي، و ضحكات الكثيرين أيضا ممن فرحوا لسماع هذا الخبر، ما آلمني حقا هو معاناة أسرتي الصغيرة التي لازلت أراقب حزنها من بعيد، أسمع أهلي يتحدثون عني للجميع، يحكون عن زمن قد نسيته لوهلة، عن شغب الشوارع، عن انتفاضاتي المتتالية، عن سخطي الأبدي على الأوضاع، و يتحدثون بحزن أليم، بندم شديد، و طالما تمنوا عودتي للحياة، كي ينصحوني بالعدول عن النضال، بترك الأمور لحالها، لأكون مواطنا، أعمل فقط من أجل لقمة العيش، فلا أبالي بحال الوطن، ولا أبالي بحال الأمة، و أكون كالجميع، “مواطنا صالحا”. كل ما تتحدث عنه الأسرة، ما يتداوله البعض في الشوارع، يشير إلى أن وفاتي وقعت خارج المدينة، وأن جثتي البالية وجدت داخل مخفر للشرطة على بعد مئات الكيلومترات عن مدينتي، معلقة وسط غرفة مظلمة، بواسطة حبل ملفوف حول رقبتي الرقيقة. يتحدث عني الجميع كمن قتل نفسه، لم أعد ذلك الشخص المرغوب فيه قيد حياته، أصبحت أذكر كأني ضعيف الشخصية، و يروّج أني انتحرت بعد اعتقالي من طرف الشرطة متلبسا في قضية تتعلق بإهانة الوطن و المقدسات. لا أذكر شيئا عن كل هذا، لكني واثق من أن الأمر مجرد مزحة ثقيلة، لم أتقبلها، صرخت كثيرا رافضا لما يقال، رفعت يدي عاليا، غاضبا، مستنكرا لما يقع، بيد أني و للأسف فاقد للحياة، لا معنى لصراخي، ولا لاستنكاري، فلا أحد يسمعني و لا أحد يستطيع رؤيتي. بدأت بتحفيز الذاكرة، بتكوين الماضي، باستجماع الأحداث، لأعرف سبب وفاتي، هل انتحرت؟ هل كنت أهين الوطن و المقدسات؟ ألم أكن مناضلا ضد غلاء الأسعار؟ ألم أدافع عن حق المظلومين؟ ألم أكن متشبتا بالحياة و محبا لوطني؟ فكيف أنتحر؟ و إن كنت منتحرا ، فلماذا تأخرت محاكمتى الإلهية؟ وسط كل هذه الأسئلة اللئيمة، وسط عشرات الأحداث التي بدأت بالمرور بسرعة أمام عيناي، بدأت أتذكر لحظة ضربت بعصا رجال القمع على ظهري، لحظة اعتقلت معصوب العينين، اقتادوني نحو المجهول، و تعرضت لشتى أنواع التعذيب، لا لشيء سوى لأني كنت أناضل. عشرون عاما قد مرت على وفاتي، أسرتي لا تزال تذكرني، أصدقائي القدامى في النضال، الذين فضلوا الإعتزال و اللعب بعيدا عن الكبار، ارتأوا تخليد ذكرى وفاتي العشرين، نظموا ندوة من أجل ذلك ،و كانت سيرتي محورها الرئيسي، ذكروا بالتفصيل جميع الأحداث التي وقعت عام 1981، تحدثوا عن اعتقالي و اقتيادي لمخفر الشرطة، عن تعذيبي، رفقة بعض المناضلين الآخرين، تحدثوا عن لحظة إعدامي شنقا من طرف رجال ينفذون بتفان كبير أوامر مسؤوليهم، والذين أخيرا كشفوا حقيقة ما وقع، اعترفوا بأخطائهم، و فضلوا الإستمرار في حياتهم شبه مرتاحين. في ذكرى وفاتي العشرين، عرفت أخيرا ما وقع، اكتشفت الحقيقة، اطمأن أهلي، فما أنا بمنتحر و لا مهين للوطن، بقدر ما كنت مناضلا، في ذلك اليوم فقط استطعت الموت من جديد، مرتاحا رغم كل شيء.