إنه لمن الرائع جدا أن تحضر محاضرات أكاديمية من تأطير كبار الدكاترة والأدباء والسياسيين، لكن الأروع أن تحضر نقاشات من تأطير سائقي الطاكسيات الكبيرة والركاب. “ركاب الطاكسيات البيضاء” هم في الأغلب مواطنون من الطبقة المتوسطة أو الأقل منها درجة على سلم “عزل واختار” لتحديد وضعيات المواطنين الاجتماعية، إذ إن هندامهم هو أول ما يدلك إلى معرفة ذلك، شاب في منتصف العشرينيات تغطي قبعة صيفية أعلى رأسه، وامرأة مع طفلة أقفلت سن الحادية عشرة، وسيدة في الأربعينيات التحفت السواد، وسيد بقميص جينز أزرق، ذلكم خمسة سادسهم سائق زحف الشيب بجحافله على مؤخرة رأسه، هؤلاء ستة فتحوا نقاشا، السائق هو من بسط له أرضية، بينما تقمص سابعهم دور الراوي. مصر تهتز على إيقاعات احتجاجات حركة 6 أبريل، هذه الاحتجاجات التي أصبحت سنة تحييها المعارضة المصرية بكل أطيافها سنويا منذ سنة 2008، وأنباء عن وقوع جرحى في صفوف الحركة بعد مواجهات مع الجيش المصري واعتقالات عديدة في صفوفها، قد تظن ما مررنا عليه للتو، نشرة أخبار تقدمها الإذاعة الوطنية أو إذاعة ميدي 1، أو غيرهما من الإذاعات المغربية. ظنك للأسف ليس في محله، ذلك أن لسان سائق الطاكسي انطلق في سرد أخبار الصباح على الركاب الذين انغمسوا هم الآخرون معه في حوار شيق، والله لا يكاد يكون إلا أفضل بملايين المرات من الحوارت الدائرة في بعض لقاءات الجمعيات ومجالس المدن والبرلمان بغرفتيه، عفوا بغرفتي نومه، ووالله إنه لأرقى بكثير من مناقرات البرامج الحوارية التي تقدمها أغلب القنوات المغربية وصديقتها الإذاعات. سائق الطاكسي يدير الحوار بنجاح، يتحدث عن حسني مبارك وعزمه تنصيب نجله جمال مبارك خليفة له بنبرة فيها الكثير من الحسرة ” مبارك جوع الشعب وأفسد مصر، ويريد لابنه أن يزيده الشعب جوعا ومصر فسادا”، تقاطعه صاحبة الجلباب ذي اللون الفحمي بأدب، بل أكثر من ذلك إنه فرض حصارا على إخوانه الفلسطينيين بغزة، في عز الحرب، تتدخل أم ابنتها قائلة، إن الحل هو إجراء الانتخابات، أجابها السائق ضاحكا، سيفوز مبارك فيها بنسبة 99 في المائة، تعود السيدة صاحبة الجلباب الأسود لتأخذ الكلمة من جديد، قائلة: إذا كان الأمر بالنسبة للانتخابات فإن مبارك سينجح بالتزوير وشراء الأصوات، مشيرة إلى أن كبار المسؤولين في مصر جميعهم في صف الريس. يبادر السائق إلى الحديث بثقة وجرأة تنمان عن متابعته الجيدة لأخبار التلفزة المغربية، معذرة أردت القول قناة الجزيرة، منبها إلى أن ما يخطط له مبارك ليس بالأمر السهل مادام أن المعارضة المصرية أقسمت بغلاظ الأيمان أن تمنعه من إجلاس ابنه جمال على كرسي الرئاسة، وفي السياق ذاته توضح صاحبة الجلباب الأسود أن الشعب المصري شعب مناضل وقوي ولن يسكت على مثل هكذا تصرفات. إلى إيران ينتقل الحوار الشيق، يبدو أن السائق من أشد المعجبين بسياسة أحمدي نجاد، واصفا دولته بدولة الرجال، وبأنها الدولة المسلمة الوحيدة التي استطاعت مجابهة أمريكا، ستة أسباع ممن يوجدون في الطاكسي شاطروا الأوكسترا الرأي، قبل أن يتدخل الشاب صاحب القبعة، مبديا إعجابه ببلاد العمامة في شهادة لم تتجاوز كلمتين، إنهم رجال، ومن ثم تتدخل صاحبة الجلباب الأسود، لتلمح بطريقة غير مباشرة إلى أن إيران هي بلاد ظهور المهدي المنتظر حسبما ورد في حديث نبوي على حد قول السيدة. من إيران إلى المغرب، عاد الحوار أدراجه إلى حيث نعيش منحصرا في ملف التنصير بالمغرب الذي طفا إلى السطح بعد طرد المغرب مبشرين أمريكيين منتصف مارس الماضي، هنا لم تخف صاحبة الجلباب شفقتها على شابين من أبناء الجيران بالحي الحسني دخلا المسيحية بسبب الإغراءات المالية المقدمة من قبل المبشرين المسحيين، مردفة بنوتة جد حزينة، ” مساكين يستغلون فقرهم وبطالتهم ليخرجوهم عن دين الإسلام”، يقاطع صاحب القبعة بلباقة، مقتحما جدار الصمت ليدلي برأيه بخصوص هذا الموضوع الحساس، قائلا إن مبعث المسحيين في ذلك هو الانتقام من دخول النصارى في دين الإسلام أفواجا. يرمي السائق ثقل ألم ضياع عشرات الشباب المغربي ما بين التنصير والإدمان وسواهما من شراك الضياع، بسخرية قد تدخل في حدود قولة معروفة هي: من أراد تغيير واقعه فليسخر منه، أو بسخرية تلوح بجميع أصابعها صوب الإعلام المغربي، نعم بسخرية عقدت قرانها بألم في إطار زواج غير شرعي، يتابع السائق حديثه من دون أن يغفل عن الطريق قائلا: في الوقت الذي يختطف فيه المبشرون شبابنا وأطفالنا، يقدم إعلامنا للشباب برنامجا مثل استوديو دوزيم، وآخر مثل كوميديا شو لإلهائهم خاصة و استغفال المواطن المغربي عامة، لتستغل الدولة الفرصة من أجل الرفع من ثمن الأسعار … فجأة يخترق أذنيك صوت صاحبة الجلباب الأسود، مركبا من حروف تشكل جملا تتهم برنامج استوديو دوزيو ونظيرها من البرامج بصد الشباب عن الدراسة، ولعل دليل المرأة في ذلك تصريحات إحدى المشاركات في برنامج استوديو دوزيم، التي صرحت بتفضيلها المشاركة في ذلك البرنامج الغنائي من أن تجري اختبارات امتحان البكالوريا. بوادر فكرة جديدة للنقاش تتمخض، لكن وصول الطاكسي آخر محطاته أجهضها، فقبل أن يترككم الراوي، هي نصيحة منه أراد إبلاغكم بها، لكل من يريد النقاش والحوار الهادفين، فأن تقصدوا بعض سيارات الأجرة أحسن لكم من برامج تلفزتنا الحوارية للاستفادة ، وإلى أن نستقل سيارة أجرة وقتما نعود أدراجنا إلى المنزل مساء، انتظروا من الراوي فصول قصة أخرى.