ما يجري في بلادنا من تهافت على قضايا معينة بغية إخضاعها لظروف وملابسات غير مفهومة واجترارها سياسيا يجعل خلفياتها المظلمة أكثر إثارة من واجهاتها المضيئة ويدعونا للاحتياط قبل الخوض فيها وتحديد موقف منها. فأغلب القضايا المطروحة أو التي طرحت على الساحة الحزبية والمجتمعية و الحكومية لم تكن بريئة من أغراض تتنازعها من هذا الطرف أو ذاك، في محاولة لتحقيق ربح يجعل من العملية برمتها مجرد طعم للاصطياد وإقامة خط فاصل بين أطراف اللعبة السياسية التي نجحت في الاقتراب من مصادر القرار والأطراف الأخرى التي ستحظى بنقمة أرباب القرار إن كل قضية تطرح تخفي في ثناياها فخا يسقط داخله كل من يخلص للحقيقة ولا يقبل بالتحرك خارجها بينما ينال المنزلق الحظوة الكبرى حتى ولو جاء موقفه أبعد ما يكون عن الصواب. لا يمكن أن نتصور الإقدام على النطق بالحكم بالإعدام داخل أي مجتمع مسلم أو غير مسلم بدون أسباب ودواعي تجعل من الحكم مقبولا ومطلوبا ومستندا إلى وقائع ذات مبررات ثابتة بل إن إحكام الشرع الإسلامي تشفع أحكام الإعدام بأخذ رأي أهل القتيل فيه فإن طلبوا بإعدامه تحقق وإن اختاروا الكفارة تم إبعاد الإعدام. وعقوبة الإعدام في القانون الجنائي المغربي ترتبط بحالات جلها يصنف في الإطار السياسي للجريمة حيث إن كل اعتداء على حياة الملك أو على من ينتمي للأسرة المالكة أو من يقوم بالمساعدة على الاعتداء على المقدسات الوطنية وسلامة الدولة الخارجية يتعرض للحكم عليه بالإعدام. فأي نوع من المنع بتحريم عقوبة الإعدام سيقرره المغرب في المستقبل القريب وهل ستبقى المقدسات على حالها ويجري رفع الإعدام على الأفعال الأخرى التي لها ارتباط بجرائم القتل العمد؟ خارج مخالب السياسة كل شئ ممكن، وكل وضع له ما يبرره. عقوبة الإعدام داخل مخالب السياسة ما يسعى إليه المتهافتون على إلغاء عقوبة الإعدام بالمغرب، وهم يعلمون أن المغرب لم ينفذ أية عملية إعدام منذ عام 1993، و التي بلغ عددها منذ استقلال البلد إلى اليوم 133 فردا هو الإيهام بأن المغرب يحتضن أكبر معتقل للقتل. فكما وقع في حالة إدماج المرأة في التنمية التي استغلت سياسيا لدرجة أعطت للبعض إحساسا بأنهم يقفون بجانب التقدم بينما المعارضون متخلفين وغير قادرين على الانخراط في الحداثة والانفتاح في انتظار أن تصيبهم نتائج هذا التصنيف في ما يقدمون عليه من مشاريع سياسية أو اجتماعية أو فكرية تطاردهم فيها خلفيات هذا الماضي الموشوم؟ ما الذي سيربحه المغرب أو يخسره بتطبيق عقوبة الإعدام أو إلغائها؟ هناك بدون شك خسارة كبرى لذوي القتلى حينما ينجح من أهدروا أرواح ذويهم في الفوز بقسط من الحياة حتى ولو كان قصيرا وتقتضي منا الحكمة أن ننظر لعملية الإعدام بمنظار يخضع لمنطق الواقع الفاسد الذي تجري فيه أمور لا تطاق. إكراهات الواقع الفاسد منذ القدم جاءت الجريمة الكبرى، منذ بدء الخليقة قتل قابيل أخاه هابيل، وفي الطريق الطويل لهذه الجريمة الكبرى أعقبتها جرائم أخرى على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجتمعات والشعوب كل قتل بالطريقة التي تمرن عليها والفكرة التي دافع عنها. وفي المجتمع الذي انحدرنا إليه، أصبحنا نرى القتلة ينفجرون ويقدمون أنفسهم للموت ولا ينتظرون محاكمات... إن أمر الإعدام قد تم تجاوزه، فكيف نحكم على من يفجرون أنفسهم ويغيبون عن المحاكمة بمحض اختيارهم لأنهم أصبحوا فعلا من الراقدين تحت التراب الذي لا يشيع جثامينهم لا حب ولا حقد وإنما موجة من السخط على واقع فاسد. الذين يرتكبون الجرائم اليوم ويموتون داخلها لم تعد تنفع معهم سوى وصفة واحدة : دعوهم يستعيدون روح الانتماء للعائلة والمجتمع و الوطن قبل أن يلجأوا لهذا المصير الشنيع، ويقدموا على جريمة لا تدخل في التصنيفات السائدة، أو الأحكام المقبولة، أو المرفوضة، ومهما يكون فإن الجريمة كيفما كان حجمها وإذا تم إلغاؤها فسيكون في ذلك مس صارخ بحق الضحايا الذي لا ينبغي أن يضيع. إن المجتمعات التي تعاني من أوضاع فاسدة لا تجري فيها العدالة على نحو سليم وتتعرض الحقوق للدوس ويتم حرمان الناس من الشروط الأساسية للعيش، لا تسمح بالتوجه لمناهضة عقوبة الإعدام إلا في إطار الحيثيات السائدة. وسواء جاء الاختيار على رفع الإبقاء على العقوبة أو إلغائها يستمر المشكل قائما. هل سيؤدي الإلغاء لإقامة وضع يقود للتقليص من الجريمة و الحد من آثارها؟ أم سيؤدي الإبقاء على العقوبة للعكس؟ لا يوجد جواب مضمون النتائج أو قابل لتحقيق فوز كاسح على الجريمة وآثارها المدمرة وعلى العقوبة ووقعها المأساوي. ما يثير الاهتمام في الموضوع برمته هو الضجة السياسية المرتبطة به فهناك من اعتبر إلغاء العقوبة تتويجا لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وخطوة كبرى نحو الانخراط في الحداثة والتقدم ما دامت الدولة الراعية لهذا المشروع هي فرنسا وما تحمله مشاريعها الحداثية من دعوة مبطنة لمواجهة الشريعة الإسلامية المطبقة حاليا في عدد من البلدان على رأسها السعودية. إن الخلفيات التي ترتبط بموضوع الإعدام والتي انجلت خلال المؤتمر الدولي الذي جرى الإعداد له في باريس كانت مركزة على الإلغاء الشامل لهذه العقوبة في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، مما يعني أن الشريعة وجدت نفسها في مواجهة مخطط جديد يدخل في إطار ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب والتطرف ولذلك بادرت جل الأحزاب المغربية إلى إعلان تأييدها لقرار المغرب و«إلغاء عقوبة الإعدام» رغم إدراكها أن المغرب لم ينفذ في الواقع أحكاما بالإعدام منذ سنة 1993. حدود الشرع الجانب الإنساني في الجريمة والعقاب خلدته أعمال روائية لا تنسى، ركزت على الدوافع الخفية المحركة لهذا التوجه الأهوج في الطبيعة الإنسانية وحللت أبعاده ونتائجه المدمرة على الفرد والمجتمع. والديانة الإسلامية جعلت من القصاص حياة حتى لا تضيع حقوق الضحايا مما يبقي الباب مفتوحا لأحد الحلين: إما إعدام القاتل أو فرض الدية لذوي الحقوق. غير أن الجوانب الخفية في اللعبة الدولية حول إلغاء عقوبة الإعدام تظل إحدى الأسباب القوية للتحفظات المعبر عنها من أطراف إسلامية. فالعدل والإحسان ترى أن فلسفة التشريع المغربي بعيدة كل البعد عن روح التشريع الإسلامي وتتعجب من تضخيم النقاش حول قضايا معينة، وتتساءل: من المستفيد؟ وترى أيضا أن أولى الأوليات في مجال حقوق الإنسان تتمثل في ضمان حرية الرأي والتعبير والتنظيم ومنع الاعتقال على أساس الرأي واستقلال القضاء ونزاهته ضمانا للمحاكمة العادلة وماعدا ذلك لا يخرج عن تزيين للواجهة. على أن الدعوة لإصلاح العدل قد صدرت من أعلى سلطة في البلاد. مما طوق الحكومة الجديدة بأولوتين رئيسيتين، أولوية إصلاح العدالة للتخفيف من النقد الموجه لها في ما يصدر عنها من أحكام، وأولوية إصلاح التعليم، ويبدو أن هاذين الحقلين الملغمين يمثلان العرقلة الكبيرة لما ننشده من إصلاحات.