أجد نفسي قد صبرت بما فيه الكفاية عن الحديث عن أقفال جسر كولونيا، وقد تناولها من هو أبعد مني بكثير وأنا الجارة اللصيقة قد تقاعس قلمها عن مشهد هو في محل غدوي ورواحي الشبه يومي، كيف لا أتناول ظاهرة من ظواهر المدينة الألمانية التي حملت إسمها إلى مختلف القارات، انطلقت محتشمة متعثرة حيث حاولت في بادئ الأمر المؤسسة القائمة على الجسر منعها!، لكن الأمر خرج عن السيطرة وما لبث أن تحول من حلات معزولة إلى ظاهرة تستقطب الملايين من الذين أتوا لشبك أقفالهم أو السياح الذين ساقتهم الأخبار المتواترة إلى هذا المكان لإشباع فضولهم أو ربما أيضا لإلقاء أحمالهم. وبرغم أن الفكرة وقع اعتمادها في العديد من مدن العالم الأخرى، وأنها وافدة من مدينة روما الإيطالية منشأها الأصلي، إلا أنّ أهل مدينة “كولونيا” نجحوا في احتضانها وخرجوا بها من إطار التجربة العابرة إلى حالة راسخة وتقليد من تقاليد المدينة العتيقة. هي أقفال كتبوا عليها أسمائهم ورموا بمفاتيحها في النهر في حركة إصرار على أن العلاقة التي بينهم دائمة تعد بمثابة القرار الحاسم والغير قابل للاستئناف، فبعد أن أحكموا الإغلاق وابتلع النهر المفاتيح يصبح مجرد التفكير في فتحها من جديد شكل من أشكال العبث. صحيح أن هالة الأقفال المتزاحمة والمترامية غلبت عليها علاقة الجنسين، وأن المكان غلب عليه إسم “جسر العشاق”، لكن نهر “الراين” العملاق الذي يحتضن الجسر وأقفاله وسّع من هذا المفهوم وعممه ليخرج به من احتكار الحب الثنائي للحب الجماعي ومن ارتباط أنثى بذكر لارتباط مجموعات وثقافات وأعراق ببعضها البعض بل ارتباط شعب بأرضه. لا أحد ينكر أن الاقفال الحمراء والبنفسجية الأنيقة المختارة بدقة حالما تلمحها تُحيلك على نوع خاص من العواطف، وليس هناك بدا من الإعتراف بأن سيطرة الجنسين مطلقة على هذا المكان التي تفوح منه رائحة القصص الناعمة والدامية، إنما ونحن نحاول قراءة الظاهرة لا بأس من أن نرتشف منها ما يفيدنا من عواطف وأحاسيس نوظفها توظيفا سليما بعيدا عن إسقاطات غرام “قيس وليلى” و”روميو” و”جولييت” و”جميل وبثينة”، في محاولة منا لتعديل الكفة!. فقد سطى الغرام في ثوبه الخاص على الحب في ثوبه العام فاحتله، والتهم نصيب الأمومة والأخوة والصداقة والمعزة والمودة والألفة وغيرها من المعاني السامية التي ظلمت وانحصرت وتبخرت في دنيا العشاق. هي أقفال غير الأقفال، منها تلك الأقفال التي ليس لها معنى ولا تحمل في طياتها أي قيمة، ومنها أقفال مفاتيحها جاهزة على الدوام يتهددها الفتح في كل حين، ومنها أقفال تشبه اقفال جسر العشاق أغلقت واتلفت مفاتيحها، لكن ليت شعري لِما ننسى أننا أمة الحب السامي والعواطف اليافعة وأن علاقاتنا خلقت متينة متشابكة وأن أقفالنا بعثت متمكنة ثابتة هكذا دون مفاتيح!.