في هذا العالم المتناقض يحاول المرء أن يبحث عن اسمه وسط أكوام من المفاهيم الممتزجة والمبادئ الضبابية والقناعات المتأرجحة والأفكار المختلطة، فيمضي حياته في البحث من اسم لآخر دون أن يدرك أن رأسه قد اشتعل شيبا وجسمه الهشيش لا يكاد يفارق عصاه، لقد تعلم منذ نعومة أضافره أن الغد لا يحمل خيرا، فكلما جلس وراقب النجوم بكى حظه التعيس طويلا وأدرك أنه إنسان لا يستحق الحياة... كانت آخر مغامراته كأولياتها تماما من زقاق إلى زقاق ومن مدينة إلى مدينة لا يجتاز حدود الوطن لأن شيئا ما يمنعه من ذلك عله شغفه بطهي أمه أو تعلقه بقلوب طيبة أو لعلها نسمات الماضي تغفله من حين لآخر. إنه لا يكاد يودع فكرة إلا لينتقل لفكرة أخرى وقلما تختلفان لقد حاول مرارا أن يعيد حياته لطبيعتها والجدول لمجراه والريح لاتجاهها والأمور لنصابها، لكنه في كل محاولة يخفق ويخفق ثم يخفق لا يعي سوى كلمة إخفاق، خسارة سقوط، وانهزام وإياك أن ترسم له أملا فبذاك تحطمه بدل المرة مرات لأن الأمل في عينيه وهم وكذب هو كالنجوم لا تظهر سوى ليلا وسرعان ما تغيب لتترك شروده الذابل بين نارين : *الأمس والغد* فيعيش صراعا مع ذاته. وحده من يستطيع التحرر من ذاته، وحده من يملك مقادير الفلاح والنجاح، وحده من بيده تغيير التعاسة إلى سعادة، فمن يكون يا ترى؟؟ إنه واحد من المحرومين ...البعيدين عن أنفسهم للحظات عابرة، المنغمسين في لذة اللقاء لساعات سريعة، المحبين للخير لا من أجل إنسان آخر ولكن من أجل محرومين أمثالهم، يتذكرون أيام الصبا واللعب بالدمى ويحاولون الهروب من أنفسهم، من واقعهم، هذا الواقع الذي يخبو كالضباب محاولا الابتعاد عن ساحة الجريمة ... المحرومون ليسوا بمجرمين رغم جرائمهم الشنيعة !! يحاولون الخروج من الظلام إلى النهار عندما ينطفئ نور المدينة حيث لا ملجأ لهم ولا مأكل ولا ملبس، فتطالعك ابتسامة أمك وهي تتجرد من حلكة الظلام وتردف في همس : ” محال أن تجد صدرا أحن إليك من صدري ” فتنسى شيئا فشيئا قسوة يومك الشاق وأنت تركض وتجري، تفضل رجليك على أن تأخذ سيارة أجرة ومن أجل ماذا؟؟ بكل بساطة لكي يمر يومك بسلام وليلتك بهدوء خوف أن تفاجئ بمكالمة هاتفية تفسد مخططك الجنوني... عليك أن تصبر على قسوة الظلام الدامس ونظرات المارة وأسئلة الفضوليين أمثال رجال الأمن وحارس المسجد أو نادل المقهى بنضرته الشيطانية لأن ليلك سيطول وآذانك المتزنة لن تلتقط سوى بقايا أغنيات من الطراز القديم يلقيها عليك رجل مريض أي كذب؟ هو واحد من المحرومين...لكنه يجاهد أنفاس سكره الأخير ليلقى ربه بآيات من الذكر الحكيم يحاول أن يقول ” لست محروما ” لكنه يخفق ويخفق ثم يخفق !! المحرومون في ليلنا كما في نهارنا أتعبهم البحث وأرهقهم المسير وهم بالكاد يجهلون مرادهم ويصرون أن حرمان ليلة أفضل من حرمان عمر بأكمله، وما بالك لو حرمت من عمرك كله؟ وماذا لو قدر لك أن تكون محروما ولو لأيام قليلة؟ كيف أنت إن جيء بك من أقصى المدينة لتشارك إنسانا آخر حرمانه؟ إنهم المحرومون من التفكير، من البوح، من الدموع، من السعادة، من كل شيء، حتى أنهم يقررون المبيت في العراء فساعة يمشون وساعة يشردون وساعة يغنون ينتظرون بزوغ فجر جديد ويكرهون قدوم الصباح لأن حرمانهم يحده الغد الآتي ليبقى الأمس ذكرى في زمان المتناقضات، حيث يخلط الأمل بطول الشرود والبحث والتفكير وحيث أن كل شيء يستوجب طول تفكير فكل شيء يستحق أن نزرع فيه بدرة أمل لتستمر الحياة.