أثار موضوع ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية المغاربة جدلا واسعا في أوساط المتهمين بالشأن الحقوقي والتأريخي، عقب دخول طرف مدني مغربي علىالخط في أمر البحث عن المقابر الجماعية للضحايا الذين سقطوا في المعارك التي خاضها الدكتاتور فرانكو ضد الجمهوريين الذين تمكنوا من الاستيلاء على الحكم بإسبانيا، خصوصا بعد أن خصصت الحكومة الإسبانية منحة مهمة للقيام بعمليات البحث في الموضوع للوصول إلى تحديد أماكن المقابر الجماعية، وإذا كان جوهر الجدل القائم في الموضوع يركز على أن الأمور في هذا الشأن لم تعالج بطرق سليمة متزنة باعتماد منهجية دقيقة ومحددة تضع خطوطها العريضة الجهات الرسمية بالمغرب وإسبانيا وتشارك فيها كل الأطراف المعنية بالموضوع وفي مقدمتها المنظمات الحقوقية والنسيج السياسي والفعاليات العلمية التي لها علاقة بالموضوع. وإذا كان النقاش الذي يجري على اعمدة بعض وسائل الإعلام خصوصا المكتوب منها، وقد كانت «الشمال» سباقة للاهتمام بالموضوع نظرا لارتباطه بمنطقة الشمال أولا، ولكونه يجب أن يحظى بالأولوية على اعتباره يحسب من أبرز القضايا التاريخية التي يفترض على الحكومة المغربية أن تفتح الحوار مع جارتنا الأوربية في شأنها، وألا تترك الأمر بيد جهة قد لا تحسن تدبير الملف بالجدية المطلوبة والصرامة الواجبة. وهو النقاش الذي لازال مفتوحا على صفحاتها وفي متناول كل المستغلين بالموضوع من مؤرخين وسياسيين وحقوقيين وغيرهم من الفاعلين الذين لهم علاقة بالملف. وكما يعلم القراء الذين تابعوا مانشرت «الشمال» من أراء ووجهات النظر في الموضوع، فقد تناول النقاش جوانب متعددة في القضية وسأحاول اليوم إبداء رأيي في ماورد في موضوع الأسباب التي دفعت الشبان المغاربة بالمنطقة الشمالية إلى الانخراط في جيش فرانكو، والتي يرى بعض الإخوة أنها كانت تحت ضغط الفقر، نظرا لتوالي الجفاف بالريف، وهو أمر يمكن الإقرار به واعتباره من الأسباب التي أجبرت عدد من الشبان بالريف ومنطقة جبالة على اللجوء إلى الجندية هربا من الفاقة قبل اندلاع الحرب الأهلية (1936 1939) وقد كان هؤلاء يدركون أنهم يستعملون داخل المنطقة الخليفية الممتدة من (عرباوة إلى الحدود مع المنطقة الخاضعة للاستعمار الفرنسي بالناظور) ولم ينخرطوا بالجيش الإسباني على أساس ترحيلهم لإسبانيا لأنهم ولجوا الجندية قبل الحرب، ولابد من الإشارة إلى أن الشبان الذين سقطوا في القتال بإسبانيا ليسوا كلهم أو جلهم ينحدرون من منطقة الريف، كما يعتقد البعض، وما نسبة مهمة منهم يحسبون على منطقة جبالة التي تمتد من القبائل المجاورة لشفشاون إلى حدود (عرباوة) بنواحي القصر الكبير، وإذا كان للعامل الاقتصادي المتمثل في إنتشار الفقر والبطالة نتيجة ظروف الحرب والجفاف دور أساسي في انتماء بعض الشبان لجيش الاحتلال، على الرغم من ضعف ومحدودية الأشخاص الذين اختاروا هذا المسار، على اعتبار أن أبناء الشمال كانوا ولازالوا يتهربون من الاشتغال بالجندية خصوصا عندما يكون الأمر له علاقة بالرتب الدنيا، إذ لم يكن ينتمي إلى ذلك من لم يتمكن من ولوج الكتاب أو المدرسة ومن لا مهنة له، وهكذا يمكن اعتبار العامل الاقتصادي من الأسباب التي دفعت بعض الشبان الذين سدت في وجوههم سبل العيش إلى الالتحاق بجيش فرانكو عن طواعية، وعددهم محدود وحدث قبل بداية الحرب الأهلية الإسبانية، وهو مايؤكد أن العامل الاقتصادي لا يمكن اعتماده أساسيا في تواجد عدد هائل يقدر بمئات الآلاف من شبان الشمال بجيش الدكتاتور في الحرب الأهلية الإسبانية، خصوصا إذا علمنا أن الوضع الاقتصادي بإسبانيا لم يصبح أحسن حالا مما هو عليه بالمغرب، فإسبانيا هي الأخرى كانت تعاني من الجفاف الذي امتد إلى جنوبها، كما أن الحرب التي اندلعت في كل أرجائها، كانت لها انعكاسات كارثية على اقتصادها ربما تجاوزت تداعياتها الوضع المغربي، وبذلك لايمكن القول بأن الفقر والحاجة وقلة ذات اليد، كانت أسباب رئيسة في إقبال شبان الريف وجبالة على الانخراط في جيش الدكتاتور فرنكو، خاصة وأحوال الجنود الإسبان آنذاك كانت مزرية للغاية ولم تكن تشجع على الانتظام في الجندية، ويثبت ذلك هو فرار عدد كبير من الجنود من ضغوطات الحياة العسكرية ومعاناتهم من الجوع وقلة الملبس وغياب الاهتمام بأوضاعهم المعيشية، بحيث لم تكن الأجور التي يحصلون عليها تسد حاجياتهم الأساسية الشخصية فما بالك بالإدعاء أنهم كانوا يساعدون ذويهم، كما أن الحجة على هشاشة الرأي القائل بأن الواقع الاقتصادي الهزيل بمنطقة الريف وجبالة شجع على ولوج فضاء الجندية، لا يستقيم في ظل حقيقة مجتمعية ثابتة في المكان مضمونها أن سكان الريف وقبائل جبالة لا يتحمسون للتواجد بالميدان العسكري كجنود خاصة ضمن جيش استعماري مغتصب لأراضيهم ومهين لكرامتهم، وقد فضلت الكثير من الأسر الريفية خلال فترات الجفاف الرحيل إلى المناطق التي لم تتأثر بالجفاف بالشكل الذي عرف بالريف حيث استقرت هناك (طنجة تطوان شفشاون سبتةالعرائشأصيلةالقصر الكبير...) وكذا إلى مدينة وهران الجزائرية وغيرها من المدن الأخرى. هذا بالنسبة للعامل الاقتصادي، أما بالنسبة للعامل الديني، فقد اتجهت بعض الدراسات إلى اعتماد معطيات استعمارية مغلوطة، ومعلومات مزيفة للحقيقة ومزورة للواقع، صنعها الدكتاتور فرانكو وأعوانه وعملاؤه والخونة الذين ساهموا في إحباط وإجهاض ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي المباركة المجاهدة، وهي في معطيات تاريخية مسمومة ومعلومات تحاول تشويه سمعة أبناء الريف وجبالة، وتصورهم على أنهم جماعة من السذج ضعاف العقل والأفق والتفكير بحيث يتم استدراجهم ببساطة متناهية لتصديق خرافات ولغو الدكتاتور فرانكو وخدامه، والتي تدعي اعتناقه الإسلام، وتحسب الحرب التي يقاتل فيها خصومه اليساريين بكونها معركة مقدسة ضد الكفر، فلاشك أن الاعتقاد بأن سكان الريف وجبالة صدقوا هذا الأمر واستجابوا لدعوة الدكتاتور بالانخراط في جيشه لمحاربة الكفار الخارجين على الدين هو أمر لا يقبله العقل والمنطق، وهو درب من العبث، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتبر من المسلمات التاريخية التي يمكن الإطمئنان إليها في كتابة تاريخ تلك الحقبة من حياة سكان المنطقة الشمالية لأنها صادرة عن جهات استعمارية تسعى دائما إلى تشويه سمعة المغرب والمغاربة، بحيث تصفهم أحيانا بالوحشية والهمجية، وأحيانا بالبلادة والغباء والسذاجة. فالإقرار بأن التحاق ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية من أهل الشمال بجيش الاستعمار، كان بدافع القضاء على الكفر نزولا عند رغبة (الحاج) فرانكو وهو حكم جائر في حق أبناء الشمال، الذين عرفوا خلال تاريخهم الطويل برجاحة العقل وسلامة التفكير والذكاء والفطنة، وكلها ملكات وقدرات لا يمكن أن تقبل وتسلم بأفكار وأخبار نزلت من السماء دون أن يكون لها مدلول علمي سلوكي ملموس ومحسوس يمكن معاينته على الأرض من قبيل إسلام فرانكو ودفاعه عن الدين الإسلامي، فأهل الريف عرفوا فرانكو معرفة تامة إذ حل بالمكان وهو ضابط صغير وشارك في المعارك التي قادها المجاهدون ضد الغزو الاستعماري واطلعوا على دقائق وتفاصيل سلوكاته العدوانية وميولاته العدائية للإسلام والمسلمين، ولاغرو أن تصنعه وتظاهره بالعطف على المسلمين وتسامحه معهم، إذا كان قد ا عتبره بعض ضعاف العقل دفاعا عن الإسلام واصطفافا إلى جانب أبنائه، فإن عدد الذين صدقوه لا يمكن إلا أن يكونوا من المتعاونين مع المحتل وعدد قليل جدا ولا تأثير لهم في المجتمع، وهو مايفيد على أن العلماء والفقهاء والمجاهدين والمقاومين الذين التفوا حول ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي لا يمكن أن يسقطوا في فخ تصديق اللغو من القول المزيف من الأخبار. وإذا كانت تفاصيل الأحداث في هذه الفترة من تاريخ الشمال لازالت في حاجة إلى من يستجليها بطريقة علمية نزيهة بعيدة عن السقوط في المغالطات الاستعمارية الحاقدة، فإنه لابد من اتخاذ الحيطة والحذر في إصدار أحكام باطلة زائفة تبنى على مصادر متعصبة وشهادات حاقدة ومراجع منحازة متجنية على أهل الشمال من خلال القول بتسليمهم لادعاءات إسلام فرانكو وتسابقهم للانخراط في جيشه والانتقال إلى إسبانيا لمحاربة الكفار، فتجنيد الشبان بالشمال وإلحاقهم بواجهات القتال بمختلف أنحاء إسبانيا كان بالقوة والقهر والقسر حيث كان يتم تجميعهم وترحيلهم إلى ميادين المعارك ظلما وعدوانا.