في خطوة فاجأت المراقبين، التزمت فرنسا، شريك المغرب الإستراتيجي، صمتا "غامضا" إثر التطورات الجديدة عقب الاعتراف الرئاسي الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، ، مع العودة إلى أسلوبها "التقليدي" المتمثل في التقارب مع الجارة الشرقية للمملكة، الذي تلجأ إليه للتعبير عن "انزعاجها" من تحول المغرب إلى بلد منافس لها في المنطقة. ولم تبادر فرنسا، التي كانت الجزائر "تعاتب" المسؤولين الفرنسيين في أية زيارة لهم للجزائر عن سبب دعمهم للمغرب في ملف الصحراء، كما جرت العادة بذلك إلى دعم الموقف المغربي، إذ لم تشر إلى أية نية لها فتح تمثيلية دبلوماسية لها في الأقاليم الجنوبية. كما لم يُدل أي من مسؤوليها بتصريح يُبرز موقفها من هذه المستجدّات. وبخلاف فرنسا، عبرت إسبانيا مبكرا عن "انزعاجها" من هذه التطورات، بعدما أكدت، في ندوة صحافية مشتركة بين وزيرة خارجيتها ونظيرها المغربي أنه "لم يتغير شيء في ملف الصحراء" وأن القضية في يد مجلس الأمن، الذي يشرف على المفاوضات بين الجانبين في أفق التوصل إلى حل سياسي للنزاع، مشدّدة على دعم إسبانيا داعم لجهود المجلس الأممي بهذا الشأن. وفسّر مراقبون للأوضاع السياسية في المنطقة أنّ تخوفات فرنسا بشأن مصالحها الإستراتيجية في الجزائر هو ما يمنعها من التعبير عن موقف صريح داعم للمغرب، مبرزين أنها تريد أن تحافظ على سياسة "التوازن" بين البلدين. غير أن ما يعيب هذا التحليل أنّ فرنسا كانت سبّاقة إلى دعم المبادرة المغربية لت"الحكم الذاتي"، رغم أن موقفها هذا "أزعج" النظام العسكري الجزائري بشدة، وإن لم تتضرّر مصالحها الإستراتيجية فيها، بل كان موقفها الداعم للمغرب ذلك دافعا إلى تعزيز المصالح الفرنسية في الجزائر أكثر فأكثر. ويمكن التماس ذلك في تطورات سابقة وقع فيها تحول للموقف الفرنسي من المغرب، بعد بروز سياسة خارجية مغربية متمدّدة في العمق الإفريقي، تطرح مفردات خاصة، مستقلة تماما عن السياسة الفرنسية في المنطقة. فقد بدت فكرة الشراكة المغربية الإفريقية على أرضية رابح -رابح، كما ولو كانت ردا على السياسة الفرنسية التي تتعامل مع إفريقيا كما ولو كانت "حديقتها الخلفية". وقد تتبع الجميع كيف وصلت العلاقات بين المغرب وفرنسا إلى درجة كبيرة من التوتر بلغت حد إبلاغ سفير المغرب في باريس نية فرنسا اعتقال مسؤول كبير للمخابرات المغربية كان يحضر في فرنسا اجتماعا في إطار التنسيق الأمني الإقليمي.. وكيف كان الجواب المغربي بإيقاف التعاون القضائي بين البلدين، قبل أن يتم احتواء الموقف وإعادة سكة العلاقات إلى سابق عهدها. ودخلت إسبانيا، هي الأخرى، دائرة "المنزعجين"، بسبب التطورات الأخيرة في ملف الصحراء. ومما زاد تعميق الأزمة شعورُها بتزايد نسب الهجرة غير الشرعية إلى جزر الكناري عبر الصحراء المغربية، وعدم اقتناعها بالأسباب التي أدلى بها المغرب لتأجيل لقاء اللجنة المغربية -الإسبانية العليا، فاعتبرت أن الدفع بحجة الشروط الوبائية (كورونا) "غير مقنع". وزاد سوءَ شكوكها تصريحُ رئيس الحكومة المغربي، سعد الدين العثماني، حول سبتة ومليلية، وتصريحات أخرى أدلى بها وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، حول دور المغرب في مواجهة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وأن المغرب لن يقوم بدور "الدركي" وأن على أوروبا تغيير مقاربتها وألا تنظر لمشكلة الهجرة غير الشرعية على أساس أنها مشكلة بلد العبور، وإنما هي في الأساس مشكلة بلد المنشأ وبلد الوصول. والحقيقة أن تفسير الموقف الفرنسي والإسباني من التطورات الأخيرة لا يرتبط بالجوهر بقضية الصحراء، وإنما ب"انزعاج" من تحول في السياسة الخارجية المغربية وبداية تحركها كدولة إقليمية في المنطقة تشتغل بعيدا عن محاورها التقليدية وتستعمل أوراق ضغط قوية وغير معهودة في التفاوض مع أوروبا، إذ لم يكتف المغرب باستعمال ورقة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، بل استثمر مطالبة إسبانيا بجبل طارق ليعيد التذكير بفكرة الملك الراحل الحسن الثاني بإنشاء خلية تفكير في وضع المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية. ويريد المغرب أن يضع إسبانيا -بهذه الورقة- أمام حرج قانوني وأخلاقي، فالحجة التي تدفع بها مدريد لاسترجاع جيل طارق من بريطانيا تستعمل الجغرافيا البحرية للتحلل من تنازلها السابق عن الجبل، في حين ترفض مجرد فكرة فتح نقاش حول وضع المدينتين سبتة ومليلية، اللتين تعدّان -جغرافيا وتاريخيا وقانونيا- جزءا لا يتجرأ من التراب المغربي. كما يستعمل المغرب ورقة أخرى هي تمتين العلاقة مع بريطانيا وبحث سبل تقويتها بعد "البريكسيت".