انتهت مؤقتا أزمة جزيرة تورة لتفتح معها ملفات العلاقات المغربية الإسبانية بتعقيداتها وإشكالاتها، وعلى الرغم من الاحتواء الأمريكي السريع للأزمة والذي حال دون تطورها لمواجهة عسكرية تستنزف حليفين أساسيين للولايات المتحدةالأمريكية في حملتها ضد "الإرهاب". ولاشك فيه أن علاقات البلدين دخلت منعطفا جديدا سيطال مختلف مستويات العلاقة كما سيحكم مستقبلها بشكل كبير، واستيعاب التأثيرات الناجمة عن الحدث تفرض التوقف عند دروس الأزمة وخلاصاتها. عمق الأزمة لقد برز للعيان أن أزمة العلاقات المغربية الإسبانية ليست أزمة سطحية عابرة وعادية بل إنها تمتد في جذور التاريخ لتكشف عن مجموعة من الأبعاد المعقدة، أولها البعد الاستراتيجي التاريخي والمتمثل في اعتبار إسبانيا للمغرب بمثابة عدو استراتيجي يحتمل أن تتكرر معه حروب الأندلس وما تلاها منذ أزيد من ثلاثة عشر قرنا، بمعنى أن عقدة الأندلس مازالت تحكم الراهن الإسباني في تعاطيه مع تطورات الشأن المغربي، وهو ما يؤدي إلى جعل المغرب أحد النقط المركزية في العقيدة الاستراتيجية الإسبانية. أما البعد الثاني فيتمثل في التوازن الاقتصادي المغربي الإسباني، فعلى خلاف الماضي حيث كان النزاع الاقتصادي يبرز على مستوى المبادلات التجارية والاقتصادية بين المغرب وأوروبا وحصول منافسة مع إسبانيا في ذلك فإنه الآن أخذ يتجلى على مستوى الآثار المحتملة لعدد من المشاريع الاقتصادية الوازنة في شمال المغرب على الاقتصاد الإسباني إجمالا واقتصاد سبتة ومليلية تحديدا، وعلى رأسها كل من مشروع الميناء المتوسطي والذي تقرر هذه السنة تحويل مكانه من منطقة أصيلة إلى منطقة تطوان مما يعني إفقاد القوة الاقتصادية لكل من مينائي سبتة وجبل طارق وذلك على مستوى استقطاب عدد معتبر من السفن العابرة للمضيق من أجل الرسو في الميناء، أو على مستوى الطريق الساحلي على طول الشاطئ المتوسطي للمغرب والذي بدأت أولى ثماره تظهر على مستوى الخط الرابط بين تطوان وطنجة ويمثل هذا الطريق المدخل لإحداث إقلاع سياحي كبير بالشاطئ المتوسطي للمغرب وهو ما يعني تهديدا اقتصاديا للصنعة السياحية الاسبانية في الجنوب المتوسطي لإسبانيا لاسيما بعد انكشاف عدد من المشاريع السياحية على طول هذا الشاطئ، أو على مستوى استعداد المغرب لخلق مناطق تجارية حرة في كل من الناظوروتطوان تشكل أداة امتصاص الآثار السلبية لاقتصاد التهريب الناجم عن حركة التجارة بين سبتة ومليلية وبين المغرب وهو ما يمثل إعادة إنتاج التجربة الإسبانية مع سكان جبل طارق حيث أدى ذلك إلى عملية خنق تدريجي لجبل طارق فرض على بريطانيا أن تباشر حوار حول مستقبل الصخرة لحل هذا المشكل، والمحصلة أن مشاريع التنمية الاقتصادية المطروحة في المغرب أخذت تمثل هاجسا مقلقا لدى صانع القرار الإسباني ينضاف إلى الهاجس الاستراتيجي الأمني السابق، أما البعد الثالث فيرتبط بالسياسة المتوسطية للاتحاد الأوروبي والسعي الإسباني للاضطلاع بدور ريادي في هذه السياسة، ويشكل المغرب بسياسته التفضيلية لفرنسا حائلا أمام هذا الطموح الإسباني وترتبط بهذا الأمر مجموعة توجهات إسبانية ذات علاقة بقضايا الهجرة والصيد البحري والموقف من مستقبل التدبير الأممي لقضية الصحراء، ففي كل هذه القضايا يبرز تناقض مغربي إسباني حاد يعمق من أزمة العلاقات بين البلدين. من هنا يمكن القول بأن اللجوء الإسباني لاستعمال القوة العسكرية في مواجهة المغرب بعد قيام هذا الأخير بإجراء أمني بسيط في جزيرة تورة، كان نتيجة متوقعة بغض النظر عن مدى اقتناع صانع القرار الإسباني بأحقيته بصخرة تورة، كما أن الاستجابة الإسبانية للمطلب الأمريكي بتسوية المشكل عبر العودة إلى الوضع السابق لما قبل 11 يوليوز 2002 تكشف هي الأخري عن الرهانات الاستراتيجية التي تحكم إسبانيا في سياستها المتوسطية والتي تؤطرها بالاندراج في السياسة المتوسطية للولايات المتحدةالأمريكية فما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من أزمة العشرة أيام؟ مكاسب متبادلة.. فمن يستثمرها؟ نعتقد أنه من الصعوبة بمكان اعتبار طرف ما منتصرا في هذه الأزمة فلكل طرف مكاسبه، فعلى صعيد المغرب يمكن القول إن بلادنا استطاعت أن تفضح الطابع الاستعماري لسياسة اسبانيا إزاء المغرب لاسيما وأن إسبانيا تحركت في غياب أدلة واضحة تثبت ملكيتها للجزيرة على خلاف المغرب الذي كان منذ اليوم الأول واثقا من أدلته وهو ما عزز المصداقية الخارجية له من جهة أولى، وتمكن المغرب من تحريك ملف سبتة ومليلية وبقية الجزر المحتلة من طرف إسبانيا وذلك في توقيت جد دقيق يرتبط بالمفاوضات الإسبانية البريطانية حول مستقبل جبل طارق والاتفاق على مشروع السيادة المشتركة على هذه الصخرة وهو ما يمثل إحراجا كبيرا لإسبانيا وهي التي تزمع التقدم أكثر في توجيه السياسة المتوسطية للاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، كما نجم عن الأزمة عزل الموقف الجزائري وفضح طبيعة المواقف العدائية والمتعارضة مع منطق الوحدة بالنسبة للجار المغاربي هذا في الوقت الذي يحتل فيه هذا الجار مسؤولية الاتحاد المغاربي، وهو ما يساعد على ضرب مصداقية المواقف الجزائرية إزاء الوحدة الترابية للمغرب والذي خفف من عدائية الموقف الجزائري هو قوة الدعم العربي والإسلامي الذي دعم الموقف المغربي في مواجهة إسبانيا من جهة ثالثة، ويمكن أن نضيف كمكسب رابع قدرة المغرب على مفاجأة صانع القرار الإسباني بخطوة إنشاء مركز للمراقبة الأمنية بجزيرة تورة وهي مفاجأة تضرب أسطورة التحكم الاستخباري الإسباني في المغرب ودعاوي التواجد المكثف لعناصر الاستخبارات في شمال المغرب، وهو ما ظهر في ارتباك الموقف الإسباني إزاء الخطوة المغربية وذلك طيلة أربعة أيام، من جهة رابعة، وهي كلها مكاسب ليست هينة وتحسن من الوضع الاستراتيجي للمغرب في المنطقة لاسيما بعد الفشل الأوروبي في تبني سياسة محايدة تؤهل للقيام بدور الوساطة بين المغرب وإسبانيا وفي المقابل النجاح الأمريكي في ذلك حتى أن بعض وسائل الإعلام الأوروبية اعتبرت أن الرابح الوحيد في النزاع هو الولاياتالمتحدةالأمريكية. أما على المستوى الإسباني فيمكن القول إن هنالك مجموعة مكاسب من قبيل تحجيم الدور الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث استطاعت إسبانيا أن تضمن لها موقفا داعما من طرف الدانمارك التي تضطلع بمنصب الرئاسة الأوروبية في الستة أشهر المتبقية من سنة 2002، وتمثل هذا الموقف في الانتصار الكلي للموقف الإسباني ودعوة المغرب إلى الانسحاب فورا من الجزيرة، هذا على الرغم من تراجع الاتحاد الأوروبي لاحقا عن اعتبار موقفه هذا بمثابة حسم في الوضع القانوني للجزيرة، وهذا ليس تراجعا في العمق مادام الاتحاد الأوروبي كان تابعا لتحولات في الموقف الإسباني والتي هي الأخرى تبنت هذا الخيار منذ اليوم الأول لاجتياح الجزيرة. والمكسب الثاني لإسبانيا فهو إضعاف شوكة المغرب وبث شعور بالمهانة في صفوف المغاربة وذلك من خلال الطريقة الاستعراضية التي تمت بها عملية الغزو والتصريحات العنترية التي تلتها، ويضاف لذلك تقوية العلاقة مع الجزائر وتمتين الاختراق الإسباني للمجال المغاربي، أما المكسب الثالث فيتمثل في رد الاعتبار للسياسة الخارجية الإسبانية والتي تعرضت لعدة ضربات في الآونة الأخيرة بدءا من الرفض الأوروبي لتصوراتها حول سبل مكافحة الهجرة السرية وذلك في قمة إشبيلية الأخيرة، حيث كانت إسبانيا تطرح ضرورة معاقبة الدول المصدرة للهجرة وهو ما لم تقبله بقية دول الاتحاد الأوروبي، وانتهاء بانتكاستها في أمريكا اللاتينية بعد الهزات التي تعرض لها الاقتصاد الأرجنتيني بالأساس وتوجيه تهمة المشاركة في هذه الهزات إلى الاستثمارات الإسبانية وكان لذلك انعكاسه أيضا على صناعة الصيد البحري الإسباني في تلك المنطقة. ويمكن أن نضيف كمكاسب ثانوية تمتين الوضع السياسي الإسباني الداخلي وتحقيق التفاف وازن حول حكومة خوسي ماريا أثنار واستعادة التوافق بين الحزبين الرئيسيين في إسبانيا وهما الحزب الشعبي الحاكم والحزب الاشتراكي العمالي إزاء التعامل مع المغرب وهو توافق كان قد تعرض لضربة قاسية عند إقدام الكاتب العام للحزب الاشتراكي العمالي على زيارة المغرب في خريف السنة الماضية. آية آفاق؟ يكشف تحليل المكاسب الآنفة الذكر على أن الوضع الراهن للعلاقات بين البلدين هو في وضعية حرجة فكل طرف محكوم بعدم إهدار هذه المكاسب والسعي لتطويرها، وهو ما برز في البداية الفاشلة للمفاوضات المغربية الإسبانية يوم الإثنين الماضي، والاختلاف حول نقط جدول أعمال المفاوضات، حيث اتجه الرأي المغربي إلى طرح ضرورة التفاوض حول كل النقط العالقة في العلاقات المغربية الإسبانية بما فيها قضية الصحراء المغربية وحقوق التنقيب عن النفط في المياه المغربية ومستقبل المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية وبقية الجزر المحتلة والسياسة المشتركة إزاء الهجرة السرية والمخدرات والتهريب، إلى غيرها من القضايا، ومن الجانب الإسباني التركيز فقط على الجزيرة وهو ما يعني سعيا إسبانيا لمحاصرة استثمار المغرب لمكاسبه من إدارة النزاع، وهو ما أدى بشكل طبيعي إلى فشل المفاوضات الأولية وتأجيلها إلى شتنبر المقبل. الحاصل أن البلاغ اليتيم الصادر عن الاجتماع لم يكن إلا ترجمة لمشروع الوساطة الأمريكية في النزاع أي أن المفاوضات لم تضف أي جديد في حل النزاع، وفي المقابل فإن الغموض الذي لف البلاغ بخصوص عبارة "الوضع السابق" يثير إشكالات عدة حول مستقبل السيادة على الجزيرة، نتساءل هنا هل يمثل هذا تراجعا عن الموقف المغربي السابق والذي كان يعتبر الجزيرة منذ 6591 خاضعة للسيادة المغربية، بمعنى هل الوضع السابق هو السيادة المغربية أم "شيء آخر" تصبح معه هذه المنطقة معلقة ومتنازع عليها، وهذا ما يجعلنا ننبه على أن تشبث المغرب بحل نزاعه مع إسبانيا بالوسائل السلمية لايعني الركون لآليات المفاوضات السلمية المحكومة بالسقف الأمريكي هذا من جهة، كما أن الظرف يوفر إمكانات دالة لتدويل قضية سبتة ومليلية وبقية الجزر المحتلة واستثمار التطور الإيجابي الذي عرفه الشارع المغربي إزاء القضية حتى نكون في مستوي المرحلة من جهة أخرى. نعتقد أن المطلوب هو بدء حوار استراتيجي يراجع الإطار المنظم للعلاقات بين البلدين بشكل جذري مصطفى الخلفي