بقلم: محمد أبعي، باحث في القانون، سلك الدكتوراه كان لا بد من وضع مدخل أساسيا حول ما يعترض الإنسان من مخاطر في هذه الحياة، في محاولة لتأسيس العقل في محدودية وجوده في هذا العالم المادي. لا شيء أعسر من إدراك ما يؤسسنا، نؤمن جميعا بالبند الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص على أن "كل البشر يولدون أحرارا ولهم عقول" وفي الوقت ذاته لا نقدر على الاعتراف بأن العقل والحرية بناءان هشان يقومان على المؤسسات، وهنا تتمثل حدود سيادة العقل وهشاشته، فهل العقل ضيق جدا لدرجة العجز عن فهم ما هو مثير للدهشة؟ ولكن ما يميز العقل البشري عند استفاقته هو أن لكل ظاهرة معنى لديه. يقوم مجتمعنا ككل مجتمع على تصور للإنسان، يعطي إكسيرا للحياة البشرية من منظور قانوني، نعتبره كذات تتمع بفعل ولها حقوق غير قابلة للاستلاب ومقدسة، ومن منظور علمي يعد موضوع معرفة تسمح للاقتصاد والبيولوجيا والعلوم الاجتماعية باكتشافه، وبتفسير قوانين التصرف لديه. إن تصميم العالم الذي صنعناه ونعيشه غير مؤهل لمحاربة عدو (المجاعة، الأوبئة..الخ) يستهدف الإنسان، بسبب نشره معتقدات تؤسس توازنات هشة من خلال موارده القانونية الدغمائية، التي دائما ما تهددها ظواهر الحياة وتفاجئها بخيارات لم تكن مطروحة لا علميا ولا عمليا، فمعناه أننا نهيئ مستقبلا مملا للغاية. ولأن القانون هندسة تأوي إليها الحقوق والحريات، فإنه ينبثق عن الدولة أي عن السيادة التشريعية المستندة (ملك، حكومة، برلمان، أمة..)، فهل يمكن أن تقيد هذه الحقوق في حالات استثنائية أو طارئ ما أو حرب..الخ، وهذا ما سنحاول معالجته من الناحية القانونية في علاقته مع الحقوق والحريات، من خلال التقسيم الوارد: المحور الأول: حالة الطوارئ معطى قانوني أم دغمائي لما بلغ "مارسيل غرانيه" نهاية تأليف كتابه عن الفكر الصيني، تساءل عن كيفية حوصلة ما توصل إليه وفهمه، فكانت إجابته كالتالي: "أن الصينيين لا يحتملون طوعا أي إكراه، حتى وان كان دغمائيا، واكتفى بوصف روح الأخلاق الصينية ب: لا إله ولا قانون". ويعنى ذلك أن الفكر الصيني لم يتجاهل فكرة القانون، وإنما لم يمنحها المكانة المحورية التي يحظى بها العالم. نعيش إلى حدود كتابة هذه الأسطر، على ظرفية استثنائية دفعت بالدولة إلى إعلان حالة الطوارئ من خلال مرسوم قانون رقم 2.20.292، والذي بمقتضاه ومن خلاله تعمل كل أشكال الحياة العامة باعتباره من المراسيم التي هي بمثابة قانون، وهذا الوضع الخاص والغير العادي تلجأ إليه معظم الدول بسبب المخاطر والأزمات التي تطرأ على حياة الدولة، مما يهدد وجودها وينعكس بشكل موضوعي على المجتمع، وهو ما يستدعي بشكل عاجل الاستجابة إلى تلك الظرفية الاستثنائية. وعليه يمككنا أن نتساءل عن طبيعة هذه الاستجابة(قانونية أم دغمائية)؟ لمعرفة كيفية الخروج من وضع عادي إلى آخر استثنائي؛ بمعنى عدم التقييد بالقانون المعمول به في ظل الظروف العادية، وبذلك يقع التحلل من القواعد القانونية بدرجاتها مؤقتا لمواجهة الحالة الطارئة. فحالة الطوارئ هي مجموعة من الإجراءات والتدابير الاستثنائية التي تتخذها الدولة، لمواجهة وضع طارئ غير متوقع، له تداعيات خطيرة على أمن وسلامة الأشخاص والدولة، وهي ظروف لا يمكن مواجهتها حسب رجال القانون إلا وفق إجراءات قانونية ملازمة لها، فحسب اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان فحالة الطوارئ "أزمة أو موقف استثنائي خطير حال أو وشيك الوقوع، يؤثر على مجموع شعب الدولة، ومن شأنه أن يشكل تهديد للحياة" (المادة 15)، وتعتبر الظروف الاستثنائية حالة شاذة يتعذر التقيد بالقوانين العادية. إذن ما تأثير هذه الحالة على المواطن وما مدى مشروعية هذا القانون؟ وكذا ما هي الجهة المختصة التي لها الحق في إصدار مرسوم قانون حالة الطوارئ؟ وكيف يمكن عمل السلطات به؟ لم ينص أي مقتضى دستوري على حالة الطوارئ المعلن عنها، فالدستور المغربي لسنة 2011، نص على حالات متعددة من بينها حالات الحصار وحالة إشهار الحرب إلى غير ذلك من القضايا الأخرى الواردة في الفصل 49، وكذلك الفصل 74 الذي ينص على أنه "يمكن الإعلان لمدة ثلاثين يوما عن حالة الحصار، بمقتضى ظهير يوقعه بالعطف رئيس الحكومة، ولا يمكن تمديد هذا الأجل إلا بالقانون". وأمام انعدام أو الفراغ الدستوري الذي تعرفه الوثيقة الدستورية لسنة 2011، بتنصيصها على حالة الطوارئ كقاعدة دستورية و قانونية لتنظيم الحياة العامة في هذه الظرفية الاستثنائية، لنخلص إلى نتيجة منذ البداية من خلال التشخيص الذي قام به باحثون في مجال القانون بشأن القانون الوضعي، هو عجزه عن إدراك عالم معقد بالرغم من وجود العقل القانوني الذي يحاول إعطاء الأشياء وقعا قانونيا لها. إلا انه وبالرجوع إلى الفصلين 21 و 31 من الوثيقة الدستورية لسنة 2011، الذي ألقى مهمة ضمان وسلامة الأشخاص وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وممتلكاتهم أيضا، وسلامة وأمن التراب الوطني على عاتق السلطات العمومية والمؤسسات الدستورية، في إطار احترام الحقوق والحريات الأساسية، وهذا ما تم فعلا من خلال المرسوم الذي أعلنت عنه السلطة الحكومية، لتحديد الإجراءات القانونية الممكنة والاستعجالية الذي اقتضها الإعلان عن حالة الطوارئ المحددة في ثلاثين يوما، مع إمكانية تمديد المدة بعد عرضه على البرلمان وفق القانون. من سخرية التاريخ في تكييف العلاقات الإنسانية بعيدا عن الألواح القوانين، الذي علل الأشياء وسر تسيير العالم المتناغم بفضل التضامن والاحترام، فإن كل فرد يتصرف تلقائيا من موقعه بالأسلوب الذي يليق أكثر بالجميع وبنفسه، وهذا ما لاحظناه من خلال الشعور الجماعي لكل بلد، لأنه وفق العرف الكونفوشيوسي لا يحتاج الإنسان (المتحضر) إلى قانون لأنه يجسد في ذاته كل الفن المتعلق بالسلوك الجماعي، فلا يصلح القانون الا للهمجيين العاجزين عن بلوغه. لذلك يطبق القانون بقسوة وفظاظه؟ ما نحن بصدده يطرح العديد من التساؤلات في الدراسات القانونية، التي لا يمكن النظر إليها كتقنية وإنما كعلم لا يتأسس القانون من الناحية العلمية دون ترابطه مع العلوم الأخرى، على اعتباره شيء معقد من جانبه العلائقي مع المجتمع، وهذا ما تبين من خلال وجود فراغ دستورية وقانوني وانعدام نص يتضمن حالة الطوارئ كغيرها من الحالات الأخرى الواردة، مما أوصلنا وأوقعنا في ما يسمى بالدغمائية القانونية، بسبب ترجيح نوازل ومسائل بمنطق داخلي وجامد. [ المحور الثاني: حالة الطوارئ في مواجهة الحريات والحقوق]article: لا يمكن أن تتصور الحريات والحقوق من خلال جميع القوانين أو المدونات الدغمائية، مثل تصور المناظر الستة والثلاثين لجبل فوجي في هوكوساي، بل يجب أن نقرر بأن إحداها أكثر صوابا لأنها لا تخضع لمقاييس الحقيقة ذاتها ولا تتجانس مع بعضها البعض. تعد الإجراءات القانونية الملازمة والتي تكون من بين التدابير الوقائية الناجعة في الوضع الراهن، وهذا الأمر لن يختلف عليه اثنان ولا يفسد للود قضية، لكن ما لا نتفق عليه تماما أن تكون تلك القوانين الاستثنائية أكثر مساسا بالحقوق والحريات الشخصية من القوانين العادية، حتى أنها تصبح لدي البعض هذه القوانين الاستثنائية مثل "قانون مقفل" يتجاوز الشرعية الدستورية إعمالا بالقاعدة أن "الضرورات تقدر بقدرها". إن الظروف الاستثنائية فعلا ليست هي الظروف العادية، وهي أيضا ليست سندا أو صكا لتجاوز الحقوق والحريات، وممارسة التعسف اتجاه الأشخاص والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم من خلال التطبيق الدغمائي للقانون من طرف السلطات العمومية، وهي المسؤولة كما اشرنا سلفا بحسب الفصلين 21 31 من الدستور الذي يلزم السلطات بحماية وضمان سلامة وامن الأشخاص والبلاد. إلا أن الدغمائية القانونية كانت حاضرة في مواجهة الظروف الاستثنائية بشكل "آلامي"، دون اعتبار أن هذه الظروف هي متغيرات تصاحبها تغيرات قانونية استثنائية، بالقدر اللازم لمواجهتها، ليس بالاعتداء على الحقوق والحريات، وليس بسلطات مطلقة تتوسع فيها السلطات كما تريد، لأن الهدف والمصلحة العامة هي مسؤولية الجميع من خلال العمل الجماعي الذي يتطلب تعبئة كل الطاقات والفئات لاجتماعية لمواجهة هذه الظرفية. قد يثير البعض مسألة أن هناك أشخاص لا يمتثلون إلى القانون ولا يفهمون ما تعني عبارة " بقا في دارك"، السؤال المطروح هو أننا جميعا لا نعترف بالسلطة إلا أن استندت إلى معنى نقبل به مثلا: أنا لا أمتثل لأمر إنسان ما يريد أن يوقفني في الشارع؛ بمعنى أتجاهله، وإنما أمتثل في الأصل لمن ترتدي زيا شرطة ورجالها، كما أشعر أنني حر في أن لا أرد على رسالة يطلب مني شخص ما مالا، إلا إذا وردت من مصلحة الضرائب، وهذا الأمر يعطى صورة أن القانون ليس لغزا فهو فكرة قانونية نمطية ما كان باستطاعتها أن تخطر على بال المشرع، ولكن بحسب ما ورد في أحد الكتب القانونية أنه من السهل حكم الشعب لأنه غبي وبإمكان القانون أن يؤمن ذلك، فقط يجب أن يكون واضحا وسهل الفهم ليؤدي وظيفته بالضرورة، والمكان الأمثل له هو مجتمع هش يتزحلق فيه القانون على الجليد كما يشاء. إن محكومية الوضع الاستثنائي والطارئ تحكمه المصلحة العليا للمجتمع قبل الدولة، والحد النسبي لممارسة الحقوق والحريات تكون وفق الأوضاع الاستثنائية وليس بالتعدي المطلق والدغمائي للقانون، كما تقدر السلطات الحكومية آليات ممارسة السلطات العمومية لحالة الطوارئ لمواجهة الخطر القائم لرقابة على أعمال هذه الخيرة، ولا يجوز المساس بالسلطتين التشريعية والقضائية إلا وفق الدستور. من الصعب الاعتراض على الطبيعة الدغمائية للقانون في علاقته مع الحقوق والحريات، لان الكثيرون اليوم يودون تأسيسها على حقيقة علمية لتبرير مساواتها القانونية، لأنه ثمة قيم عالمية متعارف عيلها مؤسسية للحقوق والحريات تبنتها الأنظمة الدغمائية.