المزبلة، قبل أن تكون مطرحا ماديا للنفايات، وبقايا الأوساخ والفضلات الناتجة عن عملية الاستهلاك.. هي أيضا حالة ذهنية ونفسية واجتماعية؛ فالمجتمعات والمدن التي تربي مواطنيها على قيم الاستهلاك السريع المبتذل لماديات الحياة، وتلخص أنشطتهم الحيوية الأساسية، في الأكل والشرب، الربح والخسارة...ليتحول المواطن إلى مجرد حلقة واصلة في سلسلة عملية الإنتاج والتسوق، و ينحصر عالمه الرمزي في عملية ملء المائدة والمعدة، ثم إفراغهما في المراحيض والأكياس، لا يمكن أن ننتظر منه سوى مجتمعا يعتبر تراكم الأزبال والأوساخ في شوارعه ومحيطه العمراني، مسألة عادية، وجزءا من بيئته و حياته اليومية، قد يساهم في تفاقمها، أكثر من مساهمته في محاربتها.. المدن التي تنتفي فيها، المظاهر الحضارية للعمران والتمدن، وتنعدم فيها المساحات الخضراء، الحدائق، القاعات السينمائية، دور الشباب، والمرافق الحيوية اللازمة التي تميز الإنسان عن أي كائن أو حيوان استهلاكي آخر، لا يمكن أن تنتج سوى العشوائيات، الفوضى، والذهنيات المتعايشة مع واقع الأمر، والمساهمة في تفاقم أزمة المدينة بمفهومها الحديث، وتحويلها إلى تجمعات سكنية، يحكمها منطق " بعدي الطوفان".... فلا تتعجب اذا رأيت " كائنا"، ينعت، تجاوزا، بالمواطن، يلقي أكياس أزبال من الطابق الثالث لعمارة سكنية، ولا تستنكر، اذا شاهدت تلالا من الأزبال، مركونة في نواصي الشوارع والأحياء، ولا تستغرب، إذا سمعت المسؤول يعلن بشعبوية فجة، عجزه أمام الظاهرة، ويحاول بمنطق سياسوي غبي، أن يوزع المسؤولية على أطراف غيرية.. "المزبلة"، منظومة فكرية، واجتماعية، متكاملة، تبدأ في التكون والنمو، حين يُحَوّل المواطن إلى مجرد كائن استهلاكي، شغلته حشو المصارين"، على حد تعبير الشيخ امام، وحين تتحول المدينة، إلى غابة إسمنت، مجردة من أي مظاهر الجمال، والحضارة، وحين تهدم دور السينما، وتتحول إلى بؤر استهلاكية، أو إلى مراكز تجارية، حين تُمسح المساحات الخضراء، وتقطع الأشجار، وتتحول المكتبات إلى مطاعم للوجبات السريعة، والمقاهي إلى قاعات رديئة، للتجمع العشوائي، والضجيج " البدوي"، اللا محتمل. لا يمكن لمجتمع قتلت في فضائاته، كل مظاهر " العقل النظيف"، وانهزمت فيه قيم الجمال، إلا أن يتحول إلى " مزبلة إجتماعية" وجماعية بشعة، محكومة بالتمدد والتعاظم، والتراكم، مع الزمن.. النظافة تبدأ من تنظيف العقليات، و الإستثمار في تنمية قيم الإنسان وإنسانيته، وزرع ثقافة التمدن والتحضر، التي لا يمكن أن تنمو في مدينة، يحكمها التجار بعقليات مبدأها الأول والأخير مبني على معادلة العرض والطلب، الإنتاج والاستهلاك، البيع والشراء... ويصبح المواطن مجرد رقم في معادلة ظالمة، قد يتحمل بموجبها مسؤولية تراكم الأزبال عند باب داره، ويصبح فيها متهما وضحية في آن.. حاربوا "مزابل" عقولكم، ستنتفي تدريجيا مزابل أحيائكم... إنتخبوا من عقولهم نظيفة، سينظفون مدينتكم.. إزرعوا قيم الثقافة، والوعي، ليصبح المواطن مسؤولا عن مجاله الحيوي، وتصبح النظافة جزءا أساسيا من هذا المجال...