الحراك، محمد الخامس، الحسن الثاني، حرب الريف والمنفى... بدون لف ولا دوران، تتحدث ابنة عبد الكريم الخطابي عن كل هذه المواضيع مستحضرة أقوى اللحظات في حياة والدها. الذهاب للقاء ابنة عبد الكريم الخطابي يقود بالضرورة إلى الغوص في دروب التاريخ وفي تفاصيل ذاكرتها. عائشة الخطابي تقطن في فيلا "أنوال"؛ وهي تسمية تبدو حتمية، ذلك أن والدها حقق انتصارا تاريخيا في أنوال على الجيش الإسباني الاستعماري سنة 1921، ما ولد أسطورة الأمير. إقامة أصغر كريمات عبد الكريم عبارة عن متحف يحتفي بأمجاد والدها. والصور المزينة للجدران مثبتة للتذكير بمكانة الرجل الذي ودع الحياة في 1963 على سرير نومه في القاهرة، بعيدا عن الريف مسقط رأسه. بتأثر، تتذكر الابنة الرجل البسيط الذي تربت في كنفه، والذي كان يحب التجول وحيدا في أزقة وشوارع العاصمة المصرية، وهي تقول في هذا الصدد مرحة: "كان جميع الناس يتوقفون للسلام عليه، ما كان يخلق ازدحاما كبيرا". واعية برمزية والدها المستمرة إلى حدود الآن، تزن المرأة كلماتها بحرص حين يتناول الحوار قضايا سياسية، رغم أنها لا تقتصد في الكلام لما يدور الحديث حول الرقص أو تكون اللحظة لحظة ممازحة. عائشة الخطابي، الجدة الهادئة، ذات الثمانية عقود والمشعة بالحياة، تتمنى أن يعود الهدوء لمنطقتها، وأن يطلق سراح شباب الحراك المعتقلين ظلما. نادرا ما تتحدثين إلى وسائل الإعلام. لماذا؟ يقول المثل: إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب. أجريت حوارات صحفية سابقا، لكنني أخشى دائما قول شيء لا يجب قوله. لا أريد البتة الركوب على الأحداث أو استغلال منبر ما للتقرب من هذا أو ذاك. كما أنه ليس بالإمكان قول جميع الأشياء دائما (تضحك). من هو عبد الكريم الخطابي كما تراه ابنته؟ النموذج، العدل والاستقامة. لكنه كان من المستحيل علي متابعة كل ما يقوله. لو رأى هذه الثريا لدي بينما هناك أناس في الخارج ما يزالون يتضورون جوعا، لأنبني بسببها. لم يكن يقبل أن نمتلك أغراضا ثمينة بينما مواطنونا فقراء. كان والدي يشكل فرامل بالنسبة لي؛ وإلى حدود الآن، وكلما ابتغيت شراء بضاعة ما، أقول لنفسي "حشومة"، أستطيع إعطاء المبلغ الذي أنا بصدد إنفاقه لآخرين قصد العلاج. وهو ما يزال، إلى اليوم، ينتصب أمامي ليذكرني بضميري. أفكر فيه كل يوم، وكلما اتصل بي أحد كي أساعده على العلاج. وأنا أفضل تقديم المساعدة على اقتناء قميص فاخر. ما القيم التي رباك عليها والدك؟ عدم انتهاك حق أي أحد إطلاقا، وعدم نسيان الفقراء. وبالمقابل، فهو لم يكن ضد الغنى، بل يحب الناس الذين يكدون في عملهم. أبي كان حالة استثنائية..ظل يجاهد إلى رمقه الأخير. كيف تلخصين كفاحه السياسي؟ يجب وضع جهاده في سياقه التاريخي. الإسبان استولوا على شمال المغرب بسبب ضعف الدولة، وهو ما لم يتقبله إطلاقا. لم يقبل أبدا أن يكون بلدنا محتلا، وحارب الإسبانيين لإخراجهم من المغرب. هدفه كان تحرير بلاده، ولم يكن لديه طموح في أن يصبح ملكا أو رئيس جمهورية. رفاقه كانوا يطلقون عليه لقب الأمير لأنه كان قائدا حربيا، وهو لقب لم تكن له أية دلالة أخرى. وبالمناسبة، فحين وفدت القبائل لمبايعته مثلما كان يحصل مع الملك، فهو رفض ذلك. كفاحه كان من أجل تحرير بلاده. هل كان والدك جمهوريا؟ في تلك الحقبة، لم يكن هذا المفهوم موجودا كما هو الحال اليوم؛ ولو كان المغرب يتوفر على دولة قوية، لما ظهرعبد الكريم. زوجي مصطفى بوجيبار، روى لي قصة حكاها له والده، رجل الثقة بالنسبة لأبي. كلفه الوالد بالذهاب لمقابلة الملك، حاملا له رسالة ومعها سيفه، وذلك كي يبلغه بأنه لا يعارض البتة الملكية، وأن هدفه هو تحرير المغرب فحسب. مكث بوجيبار شهرا كاملا ينتظر استقبال العاهل له، قبل أن يطرده الفرنسيون، مهددين إياه: إما أن ترحل أو نودعك السجن. أما الملك، فقالوا له إن عبد الكريم، بعد استيلائه على الشمال، سيطرده من بقية البلاد. هذه الفكرة بمجملها تم اختلاقها من طرف المستعمرين. تزوجت من ابن خالك الذي هو ريفي قح مثلك، وابن الساعد الأيمن لوالدك. هل كان من الممكن أن تعقدي قرانك مع رجل غير ريفي؟ نعم، بل إنني كدت الزواج من مصري؛ إذ من الطبيعي أن ألتقي مصريين لأننا كنا نعيش في القاهرة. جاء مصطفى بوجيبار إلى القاهرة للتعرف على عمته التي هي والدتي. كان قد فرغ للتو من دراسة الطب في فرنسا؛ وبدون شك، فإن والده خشي من زواجه بأجنبية، فقال في قرارة نفسه: سأجعله يرتبط ببنت خالته. طلب منه إذن تفقد أحوال عمته، لكن مصطفى أبلغه بأنه لن يمكث في القاهرة أكثر من أسبوع، ليظل هناك شهرين (تضحك). وقد طلب مني يدي بواسطة رسالة، لأكون الناجية الوحيدة من آل الخطابي، ذلك أن بقية أخواتي تزوجن بمصريين. ازددت في لا ريونيون أثناء منفى والدك هناك. كيف كانت حياتكم في تلك الجزيرة؟ اقتاد الفرنسيون المجموعة برمتها؛ كنا أكثر من أربعين فردا، من بينهم والدي وأخوه محمد وعمه عبد السلام... وهو سلوك مثير للاستغراب فعلا! لكننا، إخواني وأخواتي وأنا، كنا نعيش مثل ملوك، إذ عاملنا الفرنسيون جيدا. كنا نقطن بيتا يسمى "كاستل فلوري"، ونتلقى هدايا من فرنسا، من الحكومة الفرنسية بالضبط، ما جعلني أتوفر على دمى تستطيع المشي. أليس هذا مدهشا!؟ على غرار جميع الريفيين الأقحاح، كان إخواني وأبناء عمومتي يحبون الشجار، ولذا كانوا يتعاركون كلما خرجوا إلى الشارع، غير أن الفرنسيين كانوا ينحازون إلى جانبهم دوما؛ ذلك أنهم كانوا يعطوننا الأولوية نظرا لكوننا منفيين عندهم. أما الوالدة، فكانت جد حزينة بسبب البعد عن الأهل وفراقهم، وعدم إمكانية التواصل مع الأقارب إلا بواسطة الرسائل نظرا لانعدام الهاتف حينذاك؛ حيث إنها تركت كل أفراد أسرتها في الريف. وإذا كنا نخبر سنويا بأننا سنعود إلى بلادنا بعد سنتين، فإنها لم تغادر لا ريونيون إلا بعد 21 سنة. إنها تجربة قاسية بالفعل. ووالدك، كيف كان يقضي وقته؟ كان يمارس القنص بمعية رفاقه، ويؤم المصلين كل جمعة في المسجد. مسلمو لا ريونيون كانوا دائمي الحضور عنده، وبالطبع، فهو كان جد مؤمن. أما النساء، فكن يعشن مع بعضهن، لا يفعلن شيئا وينتظرن العودة إلى المغرب. والدي وأعمامي كانوا يغيبون باستمرار، يناقشون القضايا السياسية ويحررون الرسائل. مثلما كان جميع كبار الشخصيات الفرنسية يزورون الوالد. وفي إحدى المرات، كانت شخصية فرنسية في زيارة له، برفقة حاكم الجزيرة؛ توجه الأول إلى والدي بكلام لم يعجبه، فرد عليه: "غادر بيتي، هيا، إلى الخارج!"، رغم أنه كان عند الفرنسيين. لم يكن الخوف يجد طريقا إليه. ما الاتصالات التي كانت له حينها مع المغرب؟ عبر الرسائل فقط. ولم تكن تصل إلا بعد مرور شهر. متى أدركت ما الذي كان يمثله والدك؟ لم أكن أدرك ذلك حقا في لا ريونيون. كنت صغيرة السن ما أزال، أرى شخصيات مهمة تزوره بالطبع، لكن ما كان يشغلني هو اللعب. أول مرة شعرت فيها بإحساس جد قوي كانت على متن الباخرة سنة 1947، في ميناء التوقف ببور سعيد ونحن في طريقنا إلى فرنسا. الباخرة كانت مدنية وليس عسكرية، واسمها "كاتومبا". الملك فاروق أحيط علما، بمجرد مغادرتنا جزيرة لاريونيون، بأن عبد الكريم سيعبر أراضيه؛ ومن ثمة، فإنقاذه من الفرنسيين أمر لا محيد عنه. ورغم أنني لم أكن أبلغ من العمر وقتذاك سوى خمس سنوات، فأنا أتذكر الوقائع جيدا. هكذا، ففي يوم 31 ماي 1947، صعد مبعوثون للملك فاروق على متن الباخرة ودعوا والدي إلى المكوث في مصر، منهيا بذلك وجوده بالمنفى، ليرد عليهم بالموافقة على دعوتهم. كيف عشت عملية الفرار؟ كي لا تحصل فوضى في الميناء، صعد رجال الشرطة المصريين فجرا إلى الباخرة لأخذنا منها. أبي طلب مسبقا من الوالدة وباقي النساء حمل الأطفال في ظهورهن خلال النوم، ما جعلهن يأخذننا معهن في هذه الوضعية عند المغادرة. في الطريق، استيقظت من النوم لأحدث، ومعي بقية أخواتي، جلبة، موجهة لكمات إلى بطن الوالد. كنا نتصايح معبرات عن رغبتنا في الذهاب إلى فرنسا، نظرا لأننا لم نكن نفهم شيئا في أمور السياسة، كما أن حرارة الطقس المفرطة في مصر جعلتني أشعر بالغم. وجدنا سيارات في انتظارنا، ولم نحمل معنا إلا حقائب اليد، تاركين كل الأمتعة في الباخرة، لكن الفرنسيين سيرسلونها لنا لاحقا. نعش جدتي من أبي بقي كذلك على متن الباخرة، وقد أرسله لنا الفرنسيون هو الآخر ليوارى الثرى في أسفي. في القاهرة، استضافكم الملك فاروق في البداية في قصر، ويروى أن والدك أراد المغادرة... فعلا، الوالد كان صعب المراس (تضحك)؛ لم يرغب في الاستقرار في قصر، معتبرا أن الوقت ليس ملائما لذلك لأن الناس يموتون جوعا. اقترح عليه فاروق الإقامة في فيلا فسيحة، غير أنه رفض، مختارا منزلا صغيرا كدسنا فيه جميعا، ونحن حوالي عشرين فردا. لهذا، كنت أنام، أنا وأخواتي الثلاثة في غرفة واحدة. وبما أن الأب كان دائم الاستقبال للناس، فقد فُرض علينا فصل غرفة الاستضافة الخاصة بنا عن غرفته، كما أننا لم نكن نراه إلا لماما. تعاقب كل كبار العالم وقتها في بيتكم، هل تحتفظين ببعض الذكريات حول هذه الحقبة؟ الملك فاروق هو الشخصية التي أثرت في أكثر من غيرها، وهناك صورة له حاملا إياي بين ذراعيه، لكنني فقدتها. لقد كان يرميني في الهواء ويلعب معي. وإضافة إليه، أثر في السنوسي، ملك ليبيا. هذا، دون الحديث عن الرؤساء، فالحبيب بورقيبة كان شبه مقيم عندنا، ومعه أحمد بنبلة. الرئيسان معا كانا يحلان بانتظام في المنزل. ماذا كانا يبتغيان من والدك؟ الوالد كان رئيس لجنة تحرير المغرب العربي، لذا كانا يزورانه لنيل النصح منه أو أخذ رأيه. ومن جهتهم، كان الطلبة المغاربة المتوجهون إلى البلدان العربية، العراق أو سوريا، يزوروننا. لم نكن نرى والدنا بسبب الوجود الدائم لغرباء في البيت. كانوا يتناولون يوميا وجبة الغذاء والعشاء في الجناح المخصص له، وكان يقدم لهم نفس الوجبة بانتظام: البيصارة والفاصوليا الجافة والعدس والأرز. لم يكونوا يتناولون من الطعام إلا ما يسد رمق جوعهم، وليس أكثر منه. ما الموارد المالية التي كانت متوفرة لكم في القاهرة؟ كان كل بلد يزودنا بمبلغ مالي: ليبيا والعربية السعودية ومصر... الوالد هو من كان يتوصل بالمبالغ، غير أنه لم يكن يحتفظ منها لنفسه إلا بقسط قليل. شخصيا، كنت أسرق منه بضعة قروش (تضحك)، أذهب لتقبيله وأدس يدي برفق في جيبه. كان يضع كل الوقت جلبابا كاكيا وينتعل بلغة، مع العمامة على الرأس؛ وهو لم يلبس السروال الغربي طوال حياته. كان يتوصل بجلابيب من الحرير، غير أنه لم يكن يضعها، إذ كان يرفض جميع المظاهر الخارجية للغنى ويوزع المبالغ المالية التي يتوصل بها على الآخرين. ذات يوم، أهداه ملك العربية السعودية سيارة، لكنه رفضها، ما دفعني إلى حافة الجنون. هكذا، فالعاهل السعودي أرسل إليه سيارة من صنف "كاديياك"، غير أنه قال لإخواني: "نحوا هذا القارب من بيتي". وقد كان يتنقل بواسطة سيارة "فياط" بدون مكيف هوائي. هل كان يتحدث معكم في شؤون السياسة؟ + نعم، لكن الأمر لم يكن يثير اهتمامنا في سننا تلك. كنت، أيامها، فتاة مزاجية، أتسلل لمغادرة المنزل خلسة والخروج، بينما النساء كن وقتذاك لا يغادرن البتة بيوتهن. وحين أعود، أشغل جهاز الراديو للاستماع لموسيقاي المفضلة: الروك أند رول. أمي كانت تشتكيني للوالد، حاثة إياه على توبيخي، غير أنه كان يجيبها: "دعيها وشأنها، إنها حمقاء". وفي الحقيقة، فإنني كنت ابنته المفضلة. كنت أرقص على إيقاع موسيقى الروك في الطابق العلوي، بينما هو يناقش القضايا السياسية مع ضيوفه في الأسفل. محبة لمتع الحياة كنت، ومعجبة بلويس أرمسترونغ، إعجاب ولد لدي الرغبة في الالتحاق بالمدرسة الأمريكية. ورغم أن أبي كان يريد منا التسجيل في مدرسة عربية، فإرادتي هي التي انتصرت. لم يعبر والدك عن الرغبة في العودة إلى المغرب؟ محمد الخامس طلب من والدي العودة إلى المغرب حين أتى لرؤيته في القاهرة. الوالد أمر يومها إخوتي بالنزول للسلام على الملك الذي أخذني بين ذراعيه وقال لي: "بنيتي، عليكم الرجوع إلى المغرب، إنه بلدكم وأنتم أبناؤه"، وهي مقاربة أثرت بعمق في نفسي. محمد الخامس، الذي زاره الوالد لاحقا، كان مصاحبا حينها بمولاي عبد الله. لكن والدي أجاب بأنه لن يعود إلى المغرب إلا يوم لن يبقى أي جندي أجنبي في أراضيه. كان الوالد على وشك العودة، لكن محمد الخامس توفي، والعلاقات مع ابنه لم تكن مثل القائمة معه. لم يكن الحسن الثاني ليقوم بالتنقل لمقابلة والدك... والدي لم يكن سهل المراس هو الآخر. الاحترام كان يسود بين محمد الخامس وبينه، بل إنه كتب رسالة لقبه ضمنها: "ملكي". أما مع الحسن الثاني، فالعلاقات كانت فاترة. ذلك أن المغرب شهد أحداث الريف سنة 1958 (قمع الحسن الثاني بعنف لانتفاضة الريف- هيئة التحرير) التي أثرت عميقا في نفس والدي، ما جعله يتخذ موقفا ضد الحسن الثاني. بعدها، جاء الدستور الأول، وبما أن الوالد كان ينشر مقالات صحفية، فقد هاجم النص الدستوري، معتبرا أنه غير منبثق عن الإرادة الشعبية. ومع ذلك، فعلي الاعتراف بأن الحسن الثاني تصرف بشكل جيد مع العائلة. ما العلاقات التي كانت تربطكم بالحسن الثاني؟ المنصوري بن علي، وزير الشؤون الإدارية والوظيفة العمومية في تلك الفترة، هو من كان الوسيط مع القصر، علما أننا لم نطلب إطلاقا أي شيء من المؤسسة الملكية. خلال إحدى مباريات الغولف مع الحسن الثاني، أثار المنصوري بن علي، وهو بمثابة أخ بالنسبة لي، انتباه العاهل إلى توقف صرف التعويض الذي كنا نحصل عليه في عهد محمد الخامس. ومنذ ذاك، استؤنف صرف التعويض لجميع أفراد العائلة، بمن فيهم ابن عمي، عمر الخطابي (جند للمشاركة في المحاولة الانقلابية لسنة 1972- هيئة التحرير). في أجدير، كان منزل أبي وأراضيه قد صودرت، وتحول البيت إلى مقر لإحدى الإدارات. لكن الحسن الثاني سيطلب، في ثمانينيات القرن الماضي وإثر التماس من قبل بن علي، من إدريس البصري إعادتها لنا، وهو ما فعله الأخير. هل سنحت لك فرصة اللقاء مع الحسن الثاني؟ عقب زواجي، عدت إلى المغرب سنة 1964، لأجد نفسي في أوساط عائلة جد مقربة منه. فزوجة الدكتور عبد الكريم الخطيب ابنة خالتي وأخت زوجي، والخطيب كان أحد المقربين من الحسن الثاني. مرارا، وأنا متواجدة لدى آل الخطيب، كان الحسن الثاني يلج البيت. كان يحب كثيرا والدة الخطيب، لالة مريم المريضة حينها، لذا كان يحضر لعيادتها. كنت أجد نفسي في وضعية محرجة نظرا لكونه يعرف من أنا، وقد كان يتقدم لتحيتي. كنا نصادف بعضنا البعض كذلك في ملعب الغولف بالمحمدية، وكان يفسح لي المجال للمرور. الحسن الثاني كان مهذبا مع النساء؛ وفي تلك المناسبات، كنت أضع السياسة جانبا، لأنه، بالنسبة لي، إنسان قبل أن يكون ملكا. بعدها، التقيته بمراكش، في المامونية التي كنت متواجدة بها بصفتي عضوا في الجمعية الخيرية الإسلامية. انتابني الارتباك وتساءلت عن الطريقة التي سأسلم عليه بها، إذ أنني لن أقبل يده على أي حال. استوعب الملك الوضع، وحين تم تقديمي له، عانقني على التو. لقد كان رجلا جد ذكي. وكيف هي العلاقات مع محمد السادس؟ العلاقات معه أفضل بكثير. اتصل بي المنصوري بن على، بعد جلوس محمد السادس على العرش، وأخبرني بأن زيارته الأولى كملك ستكون للحسيمة. كما طلب من العاهل إن كان استقباله لنا، أخي سعيد وأنا، ممكنا، وهو ما استجاب له العاهل. كان أخي سعيد وقتها في القاهرة، لكن المنصوري أصر على حضوره لأن من شأن الاستقبال الملكي أن يبصم على مصالحة المؤسسة الملكية مع الريف. أتوفر على صورة تؤرخ للحظة سلام أخي على الملك، وقد تبادلا حديثا جد ودي، قال خلاله العاهل لأخي إن بيتنا هنا، كلمات غمرت سعيد بالسعادة. هل التواصل مع منطقتك مستمر إلى الآن؟ نعم، وكلما حصلت هناك مشكلة، إلا وتم الاتصال بي. هكذا مثلا، تم إخباري بعدم توفر مستشفى الحسيمة على التجهيزات اللازمة. لذا، وبعد وفاة زوجي وقرارنا إغلاق مصحته التي كانت من بين أكبر مصحات البيضاء، قررنا منح تجهيزاتها للحسيمة إجلالا لروح أبي. ومتى كان ذلك ضروريا، أبعث شاحنات من الأدوية والملابس إلى المنطقة. لا أزور المنطقة بانتظام لأن وضعي الصحي لا يسمح لي بذلك، لكن بعض أفراد عائلتي يقيمون هناك بالطبع. هل تشعرين بأن منطقتك ما تزال تعاني من صورة سلبية لدى السلطة؟ لا، إطلاقا، وأنا أقول هذا بكل صدق. نشعر بأن محمد السادس مولع بالشمال، وقد اتخذ عدة مبادرات لصالح الجهة. خلال عهد الحماية، كان المغرب الغني تابعا للفرنسيين، والفقير للإسبانيين. ومنذ ذاك، تطور إحساس في الشمال مفاده أن المنطقة مهملة وغير مرغوب فيها من طرف بقية البلاد، خاصة أن سكان الريف كانوا يوصفون ب "أولاد السبانيول" رغم أن تمسكهم بالبلاد قوي منذ القدم. لست أنا من سأغامر بادعاء العكس، كما أن الوالد ظل يأمل دائما وحدة الوطن، بل وحتى وحدة المغرب العربي مع زوال الحدود. ما هو رأيك في حراك الريف؟ الريف عانى من التجاهل طوال مدة طالت أكثر مما يطاق، والتحديات كثيرة ومهمة؛ الشغل غير متوفر، والشباب أرادوا التعبير عن غضبهم لإثارة الانتباه إلى حاجياتهم. إن الحراك معقد، إذ يضم بين صفوفه شباب ذوو نية حسنة، وإلى جانبهم آخرون سعوا إلى استغلال احتجاج اجتماعي لتوجيهه نحو أهداف أخرى. وكما هو واضح، فليس من المفاجئ أن تستغل الحركات الاجتماعية سياسيا. رفع المتظاهرون صور والدك طوال حركتهم الاحتجاجية. ما شعورك إزاء هذا؟ بالنسبة للريفيين، والدي رمز للعدالة والنضال ضد الاستبداد؛ وبالمقابل، فرفعهم لصوره لا يعني مطالبتهم بنظام جمهوري، أما الذين قاموا بهذه القراءة، فهم لم يفهموا الوضع إطلاقا، ذلك أن أبي رمز. قادة أحزاب الأغلبية الذين وصفوا المتظاهرين بالانفصاليين، فإنهم ليسوا سياسيين ؛ هم لا يبحثون إلا عن نيل الرضا. وجراء تصريحهم ذاك، تفاقم الوضع في الحسيمة. ما الواجب عمله الآن لتجاوز هذه الأزمة؟ يجب أن تقوم العدالة بعملها في جو من الهدوء والسكينة. وعلى المعتقلين الذين يخوضون إضرابا عن الطعام التفكير في عائلاتهم، كما أن هذا لن يخدمهم. أما نشطاء الحراك الذين يستمرون في العناد اليوم، فهم على خطأ، لأنهم كسبوا القضية، وأعفي مسؤولون من مهامهم واستأنفت المشاريع. وإذا كان الإفراج عن المعتقلين الذين لم يفعلوا سوى التظاهر بشكل سلمي سيشكل تجاوزا إيجابيا للأزمة، فإنني أناشد الملك باتخاذ مبادرة لفائدة هؤلاء الشباب.