تنويه أود أن أذكّر من يهمه أمر الوطن المغربي، شعبا وأرضا وأمجادا ورموزا، من خلال سلسلة هذه المقالات ببعض الوقائع والأحداث التي رسمت جوانب من العلاقات بين المخزن أو السلطة أو الحكومة أو الدولة (أسماء متعددة لمسمى واحد) مع منطقة الريف وساكنته بصفة خاصة، وساكنة منطقة الشمال بصفة عامة، منذ بداية حركة مقاومة الغزو الاستعماري التي انطلقت مع حركة محمد الشريف أمزيان في 1909 في الريف الشرقي، وحرب التحرير الكبرى التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي ورفاقه ما بين 1921 – 1926 في كامل شمال المغرب، مع إلصاق تهمة الانفصال بالريفيين التي أملتها فرنسا على حزبها في المغرب، ومرورا بمرحلة الاستقلال، أو قيام ما أطلق عليها "الدولة الوطنية"، التي عرف فيها الشمال والريف، بصفة خاصة، تهميشا وإقصاء واتهامات بمعاداة الحركة الوطنية، وتهديد سلامة الدولة الداخلية والخارجية، والتآمر على الملك. لا أحد من الشمال والريف ومن أحرار الوطن يعرف، إلى الآن، حقيقة مصدر هذه التهم وأهدافها، ووصولا إلى اليوم بأحداثه ووقائعه التي أدت إلى القمع غير المبرر لساكنة الريف، المطالبين بحقوقهم الوطنية والدستورية، ونعتهم بأبشع النعوت، واعتقال المحتجين السلميين واتهامهم بكل أنواع التهم. الجزء الثالث: الريف والسلطة المغربية بعد الاستقلال لم تكتف الحكومات الأولى للدولة الوطنية المستقلة عن فرنسا وإسبانيا بمناهضة محمد بن عبد الكريم الخطابي وجيش التحرير، الذي انطلق مجددا من جبال الريف سنة 1955، وحدهما؛ بل إن أبناء الريف تعرضوا بدورهم، منذ اللحظات الأولى للاستقلال الناقص، إلى اغتيالات واختطافات واعتقالات، كان ذنبهم الوحيد هو أنهم طالبوا بجلاء القوات الاستعمارية عن وطنهم "المستقل"، وببعض حقوقهم في دولتهم المستقلة، وأن يعاملوا في دولة الاستقلال بما يعامل به إخوانهم المتحدرون مما كان يسمى قبل الاستقلال ب"المنطقة السلطانية" أو "المغرب الفرنسي". وهناك معلومة تم تداولها بين سكان الشمال، قد تحتاج إلى بعض التوثيق والتدقيق، تفيد بأن المهدي بنبركة، رئيس المجلس الاستشاري الأول في المغرب المستقل، اعتبر سكان ما كان يطلق عليه قبل الاستقلال ب"المنطقة الخليفية" أو "المغرب الإسباني"، أي شمال المغرب، أقلية أمام سكان ما كان يسمى "المغرب الفرنسي"، أي جنوب المغرب، أو الداخلية بنطق أهل الشمال. ولذلك، رأى ضرورة خضوع أهل الشمال كأقلية لأهل الجنوب كأغلبية، وعليهم بتقبل الوضع الجديد. وحتى إذا كانت هذه الرؤية تحتاج إلى شيء من الضبط التوثيقي، إلاّ أنها كانت مطبقة فعلا على أرض الواقع، حين تم الاستغناء عن جل الموظفين الشماليين في الإدارة السابقة، وتعويضهم بموظفين جلبوا من الجنوب، أي من الإدارة الفرنسية السابقة، دون أن يكون لأولئك الموظفين أي دراية بثقافة سكان الشمال؛ فشعر الشماليون بكثير من الغبن والإقصاء والإهانة كذلك. وظهر كثير من التنابز بالألقاب والنكت بين أبناء الشعب الواحد للتعبير عن "غزو" الداخلية للشمال، وهو أمر مؤسف بلا شك. هذا بالنسبة إلى سكان الشمال بصفة عامة، أما ساكنة الريف فقد تعرضوا إضافة إلى ذلك ل"تهمة" الموالاة لعبد الكريم، أي التهم التي سبقت لنا الإشارة إليها في الجزء الثاني من هذه المقالات. فأسيئت معاملة الساكنة من قبل إدارات وسلطات المغرب المستقل القادمة من جنوب المملكة. وحين بدأ السكان يحتجون على سوء معاملة الموظفين المخزنيين لهم، ويطالبون بتحسين أوضاعهم في التعليم والصحة والإدارة، عادت التهمة الفرنسية القديمة برغبة الريفيين في الانفصال عن المغرب، ونزعة الجمهورية العبدكريمية حسب تعبيرهم. أي إما أن تكون خاضعا مسلوب الحق في وطنك، وإلاّ فأنت انفصالي تهدد استقرار الدولة ووحدتها. فما أشبه اليوم بالأمس؟؟ أدى تعنت الإدارة الجديدة وتصلب مواقفها نحو ساكنة الريف إلى ظهور عقيدة العداء السياسي لساكنة الريف، ولبست هذه العقيدة في تلك المرحلة غطاءين: الأول، غطاء الزعم بأن أهل الريف لا يطيعون ولي الأمر؛ لأنهم كانوا يطالبون بجلاء القوات الاستعمارية عن المغرب المستقل. والمقصود بولي الأمر، آنذاك، هو محمد الخامس، الذي روجت جهات متزلفة ومنتفعة بريع الاستقلال والسلطة بأن صورته ظهرت في القمر، وأنهم يعصون أوامره، حين خرجوا مطالبين بحقوقهم ومساواتهم في الإدارة والشغل والتعليم والصحة بإخوانهم في المنطقة السلطانية السابقة. ونجم عن ذلك نعت الريفيين بعبارة "مساخط سيدنا". وثاني الأغطية، أن احتجاجات الريفيين وانتفاضتهم كان قصدها ضرب الحركة الوطنية وخدمة أجندة الاستعمار(رأي علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد)، وضرب الوحدة الوطنية وتهديد أمن الدولة الداخلي والخارجي، (السلطة والأحزاب معا)، فهل المطالبة بجلاء جيوش الاستعمار وإدارته يمثل تهديدا لأمن الدولة الداخلي، وخدمة لأجندة خارجية.. وما أشبه اليوم بالأمس؟؟ وتحت هذا الغطاء قاد الحسن بن محمد الخامس، ولي العهد آنذاك، الجيش الملكي لمحاربة ساكنة الريف، بقيادة ميدانية للكولنيل "أوفقير القادم من الجيش الفرنسي ليحارب المحتجين، ويفتك بالمدنيين من ساكنة الريف. وجرت تلك الحرب ما بين شهر ديسمبر 1958 وشهر فبراير 1959، وقد تم الجمع فيها بين الطريقة المخزنية التقليدية، المصطلح عليها عند الإخباريين المغاربة بعبارة أن المخزن "أكل المنطقة الفلانية". وكان الدور في هذه المرة على "أكل الريف"، وبين الطريقة الفرنسية التي كانت تستعملها لمحاربة المكافحين الوطنيين باستعمال الطيران وقصف السكان بالنابالم وغيره من الأسلحة الحديثة. أما ولي العهد مولاي الحسن بن محمد بن يوسف فقد عبر عما تعرض له الريف في ندوة صحافية عقدها بالرباط في أوائل شهر فبراير 59، ركز فيها على أنه لم يذهب إلى الريف ليحارب الريفيين، وإنما توجه إلى هناك ل"تربيتهم". لكنه، وبعد مرور 25 سنة من مجازر 1958 و1959 قال في خطابه الشهير في 22 يناير 1984 بلغة الوعيد "سكان الشمال يعرفون جيدا ولي العهد وليس في مصلحتهم بأن يعرفوا الحسن الثاني". واعترف في الخطاب نفسه بفشل "تربيته لروافة" فشلا ذريعا، فاضطر أن يبرر ذلك الفشل بأنهم "أوباش". وحدد خريطة أولئك الأوباش، فقال في خطابه ذاك: "الأوباش في الناظور، والحسيمة، وتطوان، والقصر الكبير"؛ أي المناطق التي كان يعمل الخطابي ورفاقه على تحريرها من الاحتلال الأجنبي! ونعرف، اليوم، أن المجزرة التي حدثت في الريف سنتي 1958 و59 أسست لسياسة مغربية أمنية رسمية، ستمتد إلى السنوات الأخيرة من حياة الملك الراحل الحسن الثاني، خلدتها بعض الأدبيات تحت مصطلح "سنوات الجمر والرصاص". كان من أبرز مظاهرها استعمال الجيش وطائرات الهليكوبتر لقمع مظاهرات الدارالبيضاء في 23 مارس 1965، كما تميزت السنة نفسها بتصفية المعارض السياسي المهدي بنبركة في باريس. وتتوالى ممارسة سياسة اليد الحديدية ومنهجية الإهانة والإذلال في التعامل مع المختلفين في الرأي، والمعارضين لسياسات معينة، فكان رد الفعل محاولة انقلاب 1971 بقيادة أحد ضباط فرنسا يتحدر من الريف (المذبوح)؛ لأن الحسن الثاني كان يقصد إهانته أمام ضباط الجيش الأقل رتبة منه، حين كان يطلب منه مثلا أن يلبسه الأحذية الرياضية وغير الرياضية أمامهم. وتلك خطيئة لا تقل عن خطيئة شاه إيران في دفع زوجته إلى أن تهين المسلمين في إيران بالدخول إلى المساجد بلباس الميني جيب. ربما أن الحسن الثاني اعتقد بأن المذبوح الذي خان أبوه الخطابي يقبل إذلال ملكه له في مقابل أن يذل هو من دونه تنفيذا للثقافة المخزنية المعتادة. ويبدو أن الأسباب التي قادت بعض القيادات الريفية في الجيش الملكي إلى المشاركة من جديد في محاولة انقلاب ثانية سنة 1972 لم تكن بعيدة عن الأسباب التي دفعت المذبوح واعبابو قبلهم. وهناك اليوم بعض الصحف المخدومة، وبعض الأصوات تدعو الملك محمد السادس إلى إحياء مسلك أبيه نحو المحتجين في الريف، باعتقالهم، وتعذيبهم، وإذلالهم وأهليهم بالمحاكمات الصورية وإصدار أحكام قاسية كما فعل والده منذ توليته الملك، بل منذ انتفاضة الريف الأولى! تواصلت سياسة الجمر والرصاص في عهد الحسن الثاني، فكانت تزمامارت وكانت قلعة مكونة وغيرهما كدرب مولاي علي الشريف. لكن، كانت كذلك انتفاضة "الكوميرة" كما نعتها إدريس البصري، وكانت احتجاجات الشمال ومراكش في 1984 التي تم خلالها دفن كثير من المتظاهرين وغير المتظاهرين أحياء في حفر جماعية. حدث ذلك في المدن التي نعت الملك الراحل أهلها بالأوباش. ومن بين ما نجم عن ذلك الخطاب اعترافه بمسؤوليته عما جرى في شمال المملكة من مجازر سنتي 1958 و59، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه. إضافة إلى أن الحسن الثاني لم يسأل نفسه، هل يجوز له، بصفته ملكا لكل المغاربة، أن يشتم جزءا من "رعاياه الأوفياء" بالأوباش؟ وهل أن ذلك يتعارض مع قيم الإسلام بصفته أميرا للمؤمنين أم لا يتعارض؟ وهل إقدامه على نعت جزء من "رعاياه الأوفياء" يتوافق مع دستور المملكة ومع الأخلاق السياسية أم لا يتوافق؟ على كل حال، كلام الملك الراحل لم يكن يحق لأي مغربي أن يناقشه أو ينقده، لأن دستوره كان ينص على أن "شخص الملك مقدس"؟ وفي المحصلة، هل كان الملك الحسن الثاني راضيا أن يكون ملكا على الأوباش؟ واليوم، يعتبر كثير من المحللين والمهتمين بالتاريخ السياسي للمغرب الراهن، وكذلك جل الريفيين، أن علاقة الحسن الثاني بالريف من خلال تهميشه وعزله والانتقام منه لأسباب لا يزال كثير منها غير واضحة، على الرغم من المسافة القريبة جدا من أوروبا الديمقراطية والمتقدمة، ومن خلال آرائه في حرب التحرير الريفية وفي ساكنة الريف، ليس لهذه العلاقة أي أثر على طموحات حياة الشماليين إلى أن يكونوا كجيرانهم الأوروبيين في داخل وطنهم، سواء أولئك الذين يعيشون في وطنهم المغرب، أو في أرض الشتات في العالم، بل يستعملون تلك المواقف لتقييم مكانة الحسن الثاني كملك من القرن العشرين، كان يكرر كثيرا مقولات عصر الأنوار، ويبدي إعجابه بشكسبير وبالفن الحديث مثلا. وكثيرا ما لجأ الريفيون إلى تعليل أخطائهم، وانفعالاتهم كذلك، كأفراد عاديين بقياسها على غضب الملك الحسن الثاني وانفعالاته الكثيرة، التي وصلت حدود الانتقام من المنطقة ومن أهلها، في الوقت الذي يمجد فيه القرآن الكريم كل من يسمو على انفعالاته، {والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (آل عمران:134)، كما يؤكد علم النفس الحديث والمعاصر أن الأشخاص الذاتيين كلما علا مستواهم الفكري، أو علت مكانتهم في مجتمعاتهم، أو تصدروا المسؤولية في دولهم، لا يجب أن يتصرفوا بانفعال، لأن الانفعال والغضب يحول دون الوصول إلى اقتراح أو البحث عن الحلول الملائمة للمشكلات المستجدة، وعن احترام القانون كأساس للسياسات المدنية، وعن العدل الذي هو أساس الملك.