صورته الرسمية ونظراته الحادّة تعطي صورة نمطية عن مسار حياته يبدو وكأنه خلق للسلطة بمفهومها المخزني، خصوصا إذا أضفنا إلى الصورة ما تراكم من أحداث رأس جبل الجليد فيها هو مواجهته بيد من حديد لمنتخبي العدالة والتنمية بالعاصمة الرباط، وكذا ما عرف بأراضي "خدّام الدولة". عبد الوافي لفتيت غير ذلك تماما، هو ابن الريف أولا وخريج مدارس البوليتيكنيك بباريس ومدرسة الطرق والقناطر وأحد الأطر التي اعتمد عليها الحسن الثاني في سياسته الجديدة التي قادها المرحوم مزيان بلفقيه، والصدفة هي التي جعلته يدخل "أم الوزارات"، وهي الصدفة أو القدر الذي يجعله اليوم يواجه أكبر امتحان يمكن أن يواجهه وزير داخلية في حياته المهنية، إنها مهمة إطفاء نيران الريف الملتهبة. هنا مسار عبد الوافي لفتيت بمعطيات غير مسبوقة. يوم 5 أبريل 2017، تم ترسيخ اسم التقنوقراطي عبد الوافي لفتيت على رأس وزارة الداخلية في حكومة سعد الدين العثماني التي لا زالت مصابة بالدوخة في قلب أكبر حراك شعبي عرفه المغرب منذ إغلاق قوس حركة 20 فبراير، من قلب الموانئ جاء هذا المهندس الكتوم، الخجول، الذي لم يضيع لهجته الريفية في مكاتب إدارة ترطن بالفرنسية وبعض من دارجة الوقت للأغراض العائلية ومخاطبة الشاوش وحارس السيارة وسائقها، من أين جاء الرجل وما هو المسار الذي عبره؟ وكيف انتقل من تدبير الموانئ إلى وزارة الداخلية؟ ميلاد عبقري صغير بالريف يوم ولد عبد الوافي لفتيت بقرية تافريست في 29 شتنبر 1967 كان قد مر عقد من الزمان على عام "إقبارن"، الوشم الجريح على جسد الريفيين، على إثر انتفاضة الحاج سلام أمزيان عام 1958 / 1959، والتدخل العنيف للجيش في قمع الانتفاضة التي خلفت جراحا وأحقادا ظلت تشتعل مثل الجمر تحت الرماد.. لم يكن الشاب عبد الوافي لفتيت منشغلا بالمعادلات الاجتماعية والسياسية كما أبناء جيله في زمن بروز اليسار الجديد وإشعاع شعاراته في الجامعات المغربية، بل جذبته المعادلات الصعبة المجردة للرياضيات، مجال اجتهاده الحيوي.. يحكي أحد من رافقوه في مرحلة التعليم الأساسي والثانوي بمدينة تطوان ل"الأيام": "كان عبد الوافي ينحدر من أسرة جد متواضعة من نواحي الناظور وهوامشها، وأبرز منذ طفولته نجابة كبرى في مجال الدراسة، كنا نلقبه بسقراط ثم بفيتاغور حين اتضح تفوقه الرياضي الذي لا يضاهى، لقد كانت عبقريته ملفتة للانتباه بين أقرانه وبشهادة مُدرسيه". هذه الشهادة يدعمها بوثوقية حصوله على ميدالية التفوق في أولمبياد الرياضيات في زمن تولي عز الدين العراقي لوزارة التربية الوطنية، هذا التميز جعله يحصل على منحة الحسن الثاني لمتابعة دراسته خارج المغرب، وهو ما فتح للشاب الطموح أبواب تعميق تكوينه، حيث شد الرحال إلى فرنسا، التي حصل من أكبر مؤسساتها العلمية ذات الصيت العالمي على دبلوم مدرسة "البولتكنيك" في باريس عام 1989، ودبلوم المدرسة الوطنية للقناطر والطرق عام 1991، وهما ديبلومان يفتحان لك في المغرب في ذلك الزمان أبواب السماء، حيث انتبه الملك الحسن الثاني لضرورة إدماج رجالات التقنوقراط في الإدارة وفي السياسة في آن، فبداية التسعينيات هي العصر الذهبي لنفوذ التقنوقراط سواء عبر حلقة (مجموعة الأربعة G 4) أو (مجموعة الأربعة عشر G 14)... لقد وجد عبد الوافي لفتيت الطريق سالكة لمراكز المسؤولية عبر العراب الكبير للتقنوقراط، الراحل عبد العزيز مزيان بلفقيه. حارس موانئ المملكة ومهندس مجالها بعد مغادرته مدرسة الطرق والقناطر، اشتغل عبد الوافي لفتيت في بنك (CCF) "القرض التجاري الفرنسي" بباريس، لكن لم يغره مجال المال والأعمال، فدخل المغرب ليضع خدمته في قلب القطاع العام، حيث قضى عشر سنوات في مكتب استغلال الموانئ بين عامي 1992 و 2002، وعين على رأس مديرية موانئ كبرى بأكادير، وآسفي ثم طنجة، قبل أن يتم تعيينه في فاتح ماي 2002 مديرا للمركز الجهوي للاستثمار بولاية طنجةتطوان، بالكاد أتم فيه سنته الأولى لتبرز نجاعته كمهندس تقنوقراطي، يمتلك خبرة باعتراف كل من عاشروه عن قرب، فتم استقطابه إلى وزارة الداخلية على عهد حكومة ادريس جطو، مع التوجه الجديد لأم الوزارات سابقا نحو الأمن الاقتصادي، حيث شهدت المرحلة تعيين العديد من رموز التقنوقراط كعمال وولاة على أقاليم وجهات المملكة، وهكذا عينه الملك محمد السادس عاملا على إقليم الفحص أنجرة في 13 شتنبر 2003، وبعد ثلاث سنوات سيصبح عاملا على إقليمالناظور، موطن الولادة والنشأة في الريف المغربي. أكبر سر للمهندس لفتيت هو الكتمان ونحن نجمع معطيات عن حياة عبد الوافي لفتيت ممن يفترض فيهم أن يكونوا مقربين من هذا المهندس، خريج البولتكنيك و "البون أي شوسي"، فوجئنا بأن حجم المعلومات المستقى لا يخرج عن المتداول في موجز الحياة الذي أذاعته وكالة المغرب العربي للأنباء لوزراء حكومة سعد الدين العثماني، وتفسير ذلك لدى البعض هو الكتمان الذي يحيط به عبد الوافي لفتيت نفسه، فهذا الريفي الخجول قليل الكلام، يشتغل بأجندة محددة، لغة فرنسية أنيقة، وأثر اللهجة الريفية كامن حتى في حديثه باللغة العربية، مثل آلة بلدوزر في شكل عمله، المحيطون به يشتكون من الإرهاق من جراء العمل معه. عبد الوافي لفتيت الزناتي المنحدر من تافريست، التابعة لإقليم الدريوش، الذي كان يقصد كل إثنين سوق سيدي مبارك حيث يستمع إلى حكايات أبطال بني محمد وبني خالد، ظل يحمل في شخصه وشم تلك المنطقة الفلاحية الممتدة على وادي تافريست بجمال طبيعتها وبساطة أهلها المتضامنين في ما بينهم، لم ينجذب يوما للسياسة، لكنه وجد نفسه في فمها، بعد أن استقطبه مزيان بلفقيه، المغناطيس الجاذب للتقنوقراط، الذي نسج حوله شبكة قوية من مهندسي البولتكنيك ومدرسة القناطر والطرق الفرنسيين. من الداخلية إلى الموانئ مرة أخرى في مارس 2010، اقترح الراحل بلفقيه الذي كان يشرف على المشاريع الكبرى للمملكة، المرتبطة بالبنية التحتية خاصة، اسم عبد الوافي لفتيت على الملك محمد السادس، من أجل إعادة تشغيل المنطقة المينائية لطنجةالمدينة، حيث أصبح مديرا عاما للشركة المكلفة بتهيئة الميناء، بعد نجاحه في إعادة هيكلة ميناء الناظور، وإشرافه عن قرب على تهيئة مشروع الكورنيش وبحيرة مرتشيكا، وفي أربع سنوات قام بتنظيف عمراني كبير أضحت بصماته واضحة على واجهة مدينة الناظور. بعد تعيينه على رأس شركة تهيئة المنطقة المينائية لطنجةالمدينة، عاد عبد الوافي لفتيت إلى منزله الأصلي، من جهة عاد إلى حضن عائلته التي ظلت مقيمة بطنجة برغم انتقاله على رأس الإدارة الترابية لإقليمالناظور، وإلى إدارة الموانئ، المنزل الأول الذي احتضنه بعد عودته من دراسته بفرنسا. غير أن ذلك كله لم يكن فألا حسنا، أو طريقا مفروشا بالورد، إذ من الموانئ هبت أعاصير ما يعيشه المغرب اليوم في لحظة حرجة من انتقاله، ففي الداخلة أحرق بحار جسده ولقي مصرعه احتجاجا على التهميش والبؤس، ومن قلب الميناء تم مصرع بائع السمك محسن فكري الذي أشعل حراكا شعبيا بالريف، لا يزال الكل يجهل المسار الذي سيؤول إليه، وفي قلب هذا كان لفتيت وزيرا للداخلية في مغرب يبدو كما لو أن ساكنته قد ركبت قوارب الاحتجاج بعد أن ركبتها قوارب اليأس والبؤس. الدم البارد للفتيت في قلب ملفات حارقة كانت المرحلة التي قضاها عبد الوافي لفتيت على رأس عمالة الناظور، ورئيسا لشركة تهيئة ميناء طنجةالمدينة، هي التي صنعت أمجاد الرجل، حيث أشرف على المشاريع الكبرى التي توجد تحت الإشراف المباشر لمزيان بلفقيه. كان لفتيت رجلا ميدانيا، لا يكف عن التحرك، يشرف على هذا المشروع ويباغت مشرفين على مشاريع هنا وهناك، "أحاط نفسه بما يشبه كوماندو من الإداريين الأكفاء، وأبعد الكثير ممن كانت تفوح منهم رائحة الرشاوى... لم تغادره طيلة اشتغاله بالناظوروطنجة خاصة خبرة المهندس الذي لا يسجن نفسه وراء مكتب أنيق، ويعتبر "الشانتيي" مجال العمل الحقيقي"، يصرح أحد من رافقوا لفتيت عن قرب بديوانه، كان أكبر عمل قام به في مجال التدبير الترابي بالشمال يضيف المصدر هو التخفيف من البيروقراطية الثقيلة للإدارة التي كانت تبدو مثل آلة صدئة كفت عن الاشتغال، وانفتاحه على رؤساء الجماعات الذين قدموا مشاريع لا تخلو من إبداع، وواجه بصرامة ما بدا له انحرافا من قياد ثبت تورطهم في تشجيع البناء العشوائي.. وفي الوقت الذي يعيب عليه البعض "الدم البارد" و"التثاقل في إيجاد حلول مستعجلة لملفات ذات ملحاحية"، كما صرح بذلك أحد رؤساء جماعة من الشمال ل"الأيام"، فإن آخرين يرون في "الدم البارد" لعبد الوافي لفتيت القوة الهادئة التي تشبه نجاعة تدخل رجال المطافئ لإخماد حريق نيران كثيرة شبت في أكثر من بقعة من المجال الترابي الذي كان تابعا لدائرة نفوذه. "لولا" توجد في قلب كل زين.. حتى لو كان لفتيت في 24 يناير 2014، عين الملك محمد السادس لفتيت واليا على جهة الرباطسلا زمور زعير، وهي الجهة التي ظلت بمثابة المختبر الحقيقي للقدرة على إبداء الكفاءة والنجاعة لدى مسؤولي الإدارة الترابية، لقد بدأ لفتيت يقترب مما يهيء له على نار لم تكن هادئة، بحكم التحولات المتسارعة التي شهدها المغرب في العقد الثاني من الألفية الثالثة. هنا ستظهر واقعة ما يسمى ب "خدام الدولة"، التي أبرزت أن والي جهة العاصمة استفاد من بقعة أرضية مساحتها 3755 م 2 مقابل 350 درهما فقط للمتر الواحد، وعوض أن يطفئ بيان لصديقيه محمد حصاد ومحمد بوسعيد نيران الانتقاد التي أوقدها شباب الفايسبوك، زادا من حرائقها بعدما ثبتت استفادتهما أيضا من أراضي "خدام الدولة". طيلة المدة التي عمل فيها واليا على جهة الرباطسلا، دخل عبد الوافي لفتيت في صراع مباشر مع مسؤولي مجلس المدينة الذي كان يسيره حزب العدالة والتنمية، ولعل هذا ما فسر اعتراض العديد من قياديي الحزب، وفي مقدمتهم عبد الإله بنكيران، تقول مصادرنا، على تعيين مهندس الموانئ ضمن الفريق الحكومي برئاسة سعد الدين العثماني، "لكن نشاء ويشاء" ! منطق التوازنات يتوج لفتيت على رأس الداخلية طيلة العقد الأخير، وفي إطار عملية تجديد النخب، عملت السلطة السياسية على إدماج جزء كبير من الأطر الأمازيغية من سوس والريف في مناطق حساسة داخل جسد الدولة. عملية التحديث لإقامة توازنات جديدة تحكمت فيها اعتبارات عديدة، أهمها المشاريع الكبرى المهيكلة التي شهدتها مناطق الجنوب والشمال، خاصة الريف، وإعادة توازن آخر بعد أن فاز حزب العدالة والتنمية بأغلب مجالس المدن.. منذ تعيينه على رأس وزارة الداخلية، وجد لفتيت نفسه في مواجهة أبناء جلدته بالريف على خلفية مصرع بائع السمك محسن فكري بطريقة مهينة، أيقظت حراكا شعبيا هو الأطول بعد حراك 20 فبراير، لذلك عوض أن يتجه إلى مكتب وزارته، شد الرحال إلى مدينة الحسيمة للتحاور مع ممثلي ساكنتها، لكن ستظل العبرة دوما بالأثر الذي هو أبطأ دائما من سرعة الغضب والاحتجاج. يتقاطع عبد الوافي لفتيت في مسارات مهنية عديدة مع محمد حصاد برغم فارق السن بينهما الذي يصل إلى 15 سنة، غير أنهما معا أمازيغيان، الأول من الريف والثاني من سوس، معا خريجا مدرسة البوليتكنيك ومدرسة الطرق والقناطر بباريس، عملا بوزارة التجهيز أو الأشغال العمومية أو بأحد لواحقها، ومرا من مكتب استغلال الموانئ ، الأول عين على رأس إدارة الشركة المكلفة بإعادة تهيئة ميناء طنجةالمدينة، فيما حصاد عينه الملك في نونبر 2012 رئيسا لمجلس الرقابة للوكالة الخاصة "طنجة ميد". شغل لفتيت منصب عامل على الناظور، وكان حصاد واليا على جهة طنجةتطوان، وانتهى كلاهما إلى أن يصبحا وزيرين في الداخلية، وهما أيضا في الغنائم "أشقاء"، لأنهما معا من "خدام الدولة".