كثيرون ما زالوا يتذكرون معي ولا شك تلك المجلات التي كانت تردنا من المشرق والتي كنا نتسابق، ونحن طلبة في الثانوية ثم بعد ذلك في الجامعة، للحصول عليها. فكنا نوصي صاحب كشك بيع الصحف ليحجز لنا هذه المجلة أو تلك خشية نفاذها سريعا. وقد لعبت تلك المجلات دورا كبيرا في تشكيل وعينا وتوسيع معارفنا ومداركنا. أذكر من تلك المجلات على سبيل المثال لا الحصر: مجلة العربي، الوعي الإسلامي، الأمة، منار الإسلام، الفكر العربي، المختار، الهلال وغيرها كثير... مازلت أذكر سلسلة مقالات كان يكتبها المفكر المصري فهمي هويدي في مجلة العربي الكويتية خلال سبعينيات القرن الماضي تحت عنوان: أين الخلل؟ يعالج فيها أسباب تخلف العرب والمسلمين. طبعا لم يكن فهمي هويدي المفكر الوحيد الذي تناول مثل هذا الموضوع بالدرس والتحليل. فقد سبقه قبل ذلك الأمير شكيب أرسلان عندما تساءل: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ وهو السؤال نفسه الذي شغل بال رواد عصر النهضة منذ أواخر القرن التاسع عشر من أمثال رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمان الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم كثير. أستسمح مفكرنا فهمي هويدي لأستعير منه تساؤله المشروع ذاك لاستعماله عنوانا لهذه الخاطرة التي سأحاول من خلالها تقريب القارئ من جزء من الواقع الديني لجاليتنا في هولندا (والأمر لا يختلف كثيرا عنه في باقي البلدان الأوربية)، واقع أقل ما يمكن أن يقال عنه بأنه مثير للقلق. فمؤخرا انتشر بين رواد الفضاء الأزرق شريط فيديو صورته كاميرا مراقبة بأحد المساجد المغربية بالعاصمة الهولندية يوثق لاعتداء أحد رواد المسجد بالضرب على مؤذن المسجد وهو شيخ مسن وأسقطه أرضا. ليتبين فيما بعد بأن الجاني من أقارب إمام المسجد المقال حديثا لاذ بعد ذلك بالفرار إلى المغرب خوفا من المتابعة القضائية. والشريط شكل وعلى مدى أيام مادة إخبارية دسمة لوسائل الإعلام بشتى أنواعها. ويأتي هذا الحادث في إطار صراع طويل بين الإمام المنتمي إلى تيار مذهبي متشدد مساند من طرف لجنة التسيير والجماعة التي انتفضت أخيرا وقامت بتشكيل مكتب مسير جديد مكان المكتب القديم الموالي للإمام وتوقيف هذا الأخير عن مزاولة أي نشاط داخل المسجد. لم تمض إلا أيام قليلة على هذا الاعتداء حتى عاد المسجد المذكور إلى واجهة الأخبار -ويشرفنا كجالية مغربية بهذا البلد- إثر نشوب معركة حقيقية داخله أسقطت ضحايا (تم نقل إحداها إلى المستشفى) واستدعت تدخل الشرطة التي قامت بجملة من الاعتقالات في صفوف (المؤمنين). حدث ذلك إثر تدخل عنيف لمجموعة من الشباب من مريدي الإمام المقال خلال درس عام وقاموا بانتزاع ميكروفون المحاضر لمنعه من مواصلة درسه الذي لم يكن ينسجم مع ما تم حشوهم به وتلقينهم إياه. فهب الحاضرون لردع هؤلاء الشباب وليتحول المسجد إلى ساحة معركة كان المنتصر الوحيد فيها هو الغباء والجهل والتطرف وتشويه سمعة مشوهة أصلا. طبعا لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينشب فيها صراع داخل مسجد تصل أصداؤه إلى وسائل الإعلام. ولكن هذا الحادث كشف الستار عن تطور خطير أصبح يهدد المساجد المغربية في هذا البلد يتعلق بتنامي المد السلفي المتشدد الذي يهدف إلى احتواء المساجد عن طريق التسلل إلى لجان تسييرها مما يسهل أمام الأطراف القائمة وراءها مهمة فرض هذا الفكر وتعيين أئمة يقومون بالتبشير به وخاصة في أوساط الشباب. ومن الصدف العجيبة أنني حضرت قبل فترة بأحد مساجدنا المغربية حدثا مماثلا. كان الأمر يتعلق بلقاء تحسيسي لفائدة الآباء حول أخطار التطرف. وأثناء عرض لأحد الدعاة المغاربة وهو صديق فاضل معروف باعتداله لمح فيه إلى بعض السلوكيات التي أصبح ينظر إليها وكأنها من أركان الإسلام بل هي الإسلام نفسه، فوجئنا بإمام المسجد مرفوقا بشرذمة من الحواريين يقتحم القاعة وقد تم إشعاره (بالمؤامرة الكبرى التي تحاك فوق ضد عقيدة التوحيد) وهو يرغي ويزبد ويبرق ويرعد صارخا في وجه المحاضر والشرر يتطاير من عينيه. والمحاضر المسكين فوجئ هو أيضا كما فوجئنا ولم يعرف من أين نزل عليه البلاء. ولم يكن ينقص الإمام الهائج إلا سيف وترس لتجد نفسك وجها لوجه أمام أحد أبطال عصر الفتوحات الإسلامية. ولولا لطف الله لتطورت الأمور إلى ما هو أسوء. ولو كنا في زمان ومكان غير هذا الزمان وهذا المكان لما تردد الإمام النحرير في الأمر بتمزيق المحاضر (المارق) شر تمزيق والتنكيل به وصلبه فوق باب المسجد ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه مستقبلا التجرأ على التشكيك في وجوب ارتداء النقاب أو الحديث في مقاصد الشريعة والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا. اليوم، وبعد مقام في هذه البلاد لمدة تناهز ربع قرن من الزمن، ومن خلال تجربتي العملية والشخصية، أؤكد، وعلى مسؤوليتي، فشل مساجدنا في تقديم صورة تليق بعظمة وروعة الإسلام للمجتمعات الأوربية التي أصبحنا جزءا منها. ما يثير الحزن والغضب معا أن بيوت الله التي كان من المفروض أن تكون أماكن للعبادة والسمو الروحي وتربية أجيال المستقبل، تحولت إلى أماكن للصراعات العائلية والقبلية وعلى الزعامة والسلطة، وبؤر يعشش فيها الجهل والانغلاق والتشدد. إن تنامي مشاعر العداء للإسلام والمسلمين والصعود المضطرد لأحزاب اليمين المتطرف، وسقوط شبابنا فرائس سهلة في شباك الجماعات المتطرفة، كل ذلك نتحمل وتتحمل مساجدنا فيه جزءا من المسؤولية. أنا لا أفهم، لحد الغباء، كيف يقوم إمام مسجد في هولندا أو في أي بلد أوربي آخر، بني بترخيص (وأحيانا بدعم مادي أيضا) من السلطات العمومية ويحظى مثله مثل أي مرفق عمومي آخر بحماية الدولة، بالوقوف على المنبر يوم الجمعة، محذرا المسلمين من تهنئة (الكفار) بأعيادهم، والدعاء عقب كل خطبة على هؤلاء الكفار الذين لم تبخل دولتهم عليه وعلى مسجده بأية مساعدة (بأن يهدم الله بيوتهم فوق رؤوسهم ويشتت شملهم وأن يجعل أولادهم ونساءهم غنيمة للمسلمين...) أين الخلل؟ أحيانا أتساءل عن القيمة المضافة التي تقدمها مساجدنا-إلا التي رحم ربك- للمجتمعات التي نعيش بين ظهرانيها؟ خذ على سبيل المثال شهر رمضان، وكيف نتسبب نحن المؤمنون الصائمون وطيلة شهر كامل في عرقلة حركة السير في محيط المساجد ونستولي على أماكن وقوف سيارات السكان ونقوم بإزعاجهم بصخبنا وضجيج سياراتنا حتى ساعة متأخرة من الليل. ورغم ذلك، لا يكلف المسؤولون عن المساجد أنفسهم عناء إخبار سكان الحي بمقدم رمضان أو تنظيم حفل استقبال لهم بمناسبة عيد الفطر كنوع من رد الجميل. وفي مدينتي التي أقيم فيها يقوم (أبناؤنا) وفي كل رمضان بعد أداء صلاة العشاء والتراويح برشق حافلات النقل العمومي بالحجارة. أين الخلل؟ مذ عقلنا، والخطباء والوعاظ والمعلمون يحدثوننا عن سماحة الإسلام ورحمة الإسلام وقيم التضامن في الإسلام ...، فلماذا لا تظهر آثار كل هذه الخطب والمواعظ والدروس في أخلاقنا وسلوكاتنا وتعاملاتنا؟ كيف تسربت أفكار من قبيل الولاء والبراء وبلاد الحرب وبلاد الإسلام والدعوة لتطبيق الشريعة في بلجيكاوهولندا وغيرهما إلى عقول شباب غر لا يتكلم اللغة العربية حتى؟ أين الخلل؟ لقد كنت من المؤسسين الأوائل لمركز إسلامي بإحدى المدن الهولندية لأنسحب فيما بعد من المجلس المسير لاعتبارات معينة (وتلك قصة تحتاج إلى كتاب وليس مقال فقط). لقد كنت ومازلت أحلم بمسجد يساهم في ترسيخ قيم العيش المشترك وتكوين المواطن المسلم الصالح (ة)، مسجد لا يستفيد منه المسلمون فحسب، بل يقوم -بجانب مهمته التعبدية والروحية- بتقديم خدمات لجميع ساكنة الحي الذي يوجد فيه. مسجد يفرح لأفراح وطن الإقامة ويحزن لأحزانه. مسجد تزين صومعته وجدرانه بالأضواء خلال أعياد القوم، يفتح أبوابه للمتسولين والمتشردين خلال ليالي الشتاء الباردة ويقدم لهم المأكل والمشرب. مسجد يرفع فيه الإمام المغربي أكف الضراعة بالدعاء خلال خطبة الجمعة والعيدين، إضافة لأمير المؤمنين، لعاهل ومسؤولي بلد الإقامة بالصلاح والتوفيق في خدمة مصالح العباد والبلاد. هل هذا حلم مستحيل؟