عرفت البشرية -عبر تاريخ وجودها- العديدَ من الكوارث والمخاطر الناتجة عن الحروب، أو عن طريق انتشار الأمراض والأوبئة التي أودت بحياة الملايين، ولكن ما يميزها، عن أخطار فيروس "كورونا"، أنها لم تستهدف البشرية كافة، كما يحدث الآن من قبل كورونا، فقد تبيّن أنه لا يعرف الحدود الجغرافية، القوميات، الأديان، المذاهب، الطوائف، … إلخ، على المستوى العالمي أو على مستوى الدولة الواحدة. أظهرت المرحلة الأولى، من انتشار فيروس كورونا، أن معظم دول العالم غير مهيّأة لمواجهة هذه "الحرب الصحيّة"، كما أسماها الرئيس الفرنسي ماكرون في خطابه للفرنسيين عشية الدعوة للحجر الصحي في المنازل، فقد تبيّن أن معظم المراكز البحثية الخاصة بالأمراض والصحة ليست على مستوى التحدي المطلوب. ولأول مرة في تاريخ البشرية، يحجر الناسُ أنفسهم في البيوت طوعًا، ويتبعون تعليمات الحكومات وإرشاداتها، عبر وسائل الإعلام، وقد تطول مدة الحجر أشهرًا، باعتبار أن منازلهم هي الأماكن الأكثر أمانًا لحمايتهم من وصول فيروس كورونا إليهم، وبمعنى آخر: الناس يقبلون بالاعتقال الذاتي، بدلًا عن الاعتقال الأمني المتعارف عليه في الأنظمة الاستبدادية. ولأول مرة، يُلاحظ خوف الإنسان من الإنسان الآخر، بغض النظر عن مشاعره، فمسافة الأمان المطلوبة بين المواطن والآخر، إذا ما تواجدوا في مكان واحد. ولوحظ أيضًا انحسار العقلانية في سلوك معظم المواطنين، من الهلع والمبالغة في شراء السلع الاستهلاكية بكميات كبيرة، خوفًا من اختفائها من الأسواق، تبعًا لانفعالاتهم ومشاعرهم، وبعيدًا عن المنطق والعقل، في معظم بلدان العالم، وهذا ما سوف ينعكس على اتجاهاتهم القيمية الثقافية في المستقبل، حيث إنها تشهد تغيرات جذرية في نمط حياتهم اليومية، وتتبدل ملامح حياتهم، وربما إذا طالت مدة انتشار فيروس كورونا، تنتهي التجربة بخلق معانٍ وقيم وأفكار وأنماط مختلفة للحياة الإنسانية عن الحالية. لقد تباينت طرق التعامل مع هذا المرض الكارثي، بين شعوب العالم، على مستوى الوعي والسلوك، ففي المجتمعات المتقدمة، وخاصة الأوروبية، حيث لوحظ الوعي والسلوك المنضبط والمنظم والصارم بالالتزام بالإرشادات والنصائح المقدمة من قبل المختصين في الصحة والأمراض، بينما لوحظ وجود ردة فعل غير واعية وغوغائية غيبية، اجتاحت بعض المدن،مثل ان الوباء عقاب من الله. وإضافة إلى ذلك، انتشرت موجة من الشائعات، أطلقها البعض وانجرف خلفها الملايين، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة (فيسبوك)، وتبين أن بعض الناس على استعداد لتلقي أي شائعة لتفسير ما يحدث حوله. وتعد هذه الفترات بيئةً خصبةً لصعود نظرية المؤامرة، ليس فقط بين الشعوب، بل أيضًا بين الدول. ولعل الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، بالوقوف وراء هذا الفيروس، دليلٌ على ذلك. إضافة إلى غياب أعمال العقل التي تجسدت في السلوكيات الغيبية، على حساب السلوكيات الرشيدة، ومن خلال قراءة سوسيولوجيه أولية لهذه السلوكيات؛ تبين وجود ممارسة مزدوجة للسلوك الإنساني، حيث يُغلّف هذا السلوك المرضي بشيء من العقلانية، تُخفي اتجاهات وتحيزات غير عقلانية، وخاصة في كارثة فيروس كورونا، حيث يستعيد الفرد نمطًا أشبه بالحياة البدائية غير المتحضرة التي تحركها المشاعر والاحتياجات البدائية حتى تسيطر على الفرد تمامًا. حيث يواجه الفرد عبئًا أثقل من أعباء الأمراض السابقة حتى القاتلة (الإيدز، السرطان)، مرتبطًا بحالة من المجهول؛ لأن الإصابة بفيروس كورونا لا ترتبط بالمصابين فقط، بل تشمل أفراد المجتمع كافة، وعلى درجات مختلفة إلى حد ما، فهي مرتبطة بسرعة انتشار المرض، وبعدم توقع زمن العلاج منه، وكلما طالت مدة تفشي فيروس كورونا، زاد الضغط على الفرد، حيث حداثة الفيروس ذاته لا تسمح بتوفر المعلومات الكافية، التي من شأنها بث الطمأنينة، بل إن المعلومات المتوفرة عنه تُعزز المخاوف أكثر بين الأفراد. وقد يرتبط بذلك عامل ثقة الأفراد بمؤسسات دولهم المختصة، فكلما كان لدى الأفراد درجة ثقة عالية بمؤسسات الدولة وخدماتها؛ كانت هناك قدرة على الاحتواء، وتقليل حدة القلق العام وتحجيمه، قبل التحوّل إلى سلوكيات غير منطقية بدافع الخوف. وهذا ما تفتقده معظم أفراد المجتمعات المتخلفة. كما لوحظ، في المرحلة الأولى من انتشار فيروس كورونا، بروز ثقافة التضامن الاجتماعي التقليدية، التي تجاوزتها معظم مجتمعات العالم بعد مرحلة الحداثة وما بعدها، وتحديدًا بعض مظاهر التضامن الاجتماعي الآلي، الذي تحدث عنه عالم الاجتماع الفرنسي" إميل دوركايم"، وعدّه سمةَ المراحل التنظيمية السابقة عن الرأسمالية. ويتم هذا التضامن التقليدي عن طريق العادات والتقاليد والعواطف المشتركة بينهم، تلك العناصر التي تسمى "روابط الضمير الجمعي"، وهي تعمل على إرساء طابع التكامل الاجتماعي الذي يُعدّ العامل الأساس في وجود العلاقات والتكامل بين الأفراد. حيث يستند على تكريس التوازن، من خلال فكرتين أساسيتين: الأولى في الوعي الجمعي المتمثل في مجموعة من المعتقدات والمشاعر المشتركة بين أعضاء المجتمع، بغض النظر عن هذا الوعي: أهو حقيقي أم زائف، آني أم مستقبلي. أي الإيحاء بأن ما يجمع أعضاء هذا المجتمع أكثر مما يفرقهم، من خلال نمط واحد للمعتقدات والمشاعر يسود في المجتمع، والهدف من ذلك هو التصدي ومواجهة الأخطار، والفكرة الثانية هي التضامن الاجتماعي، أو التزام الفرد نحو الجماعة التي ينتمي إليها، ويراها دوركايم تسود كل المجتمعات، وإن اختلفت نوعية هذا التضامن باختلاف المجتمعات التقليدية والصناعية. هذا ما لوحظ من خلال تصاعد الشعور الجمعي، وظهور المبادرات الاجتماعية في حالة الأزمات، أمثال فيروس كورونا، حيث تقل الفجوة بين الفرد والمجتمع، ويرتبط مصير الفرد بمصير المجتمع ككل، ويَظهر نوعٌ من الشعور الجمعي والتضامن، بين أعضاء المجتمع الذي يعاني تهديدًا واحدًا في الوقت نفسه، حيث ظهرت بعض السلوكيات في دول انتشار فيروس كورونا، مثل الغناء أو التصفيق في وقت محدد من شرفات المنازل ليلًا، للتعبير عن شكر الاطقم الطبية والصحية على جهودهم وتعرضهم لخطر الموت، بينما هم في منازلهم بأمان، والتواصل عبر النوافذ لدعم بعضهم بعضًا، وتحفيز أنفسهم على مواصلة المواجهة والحفاظ على التوازن، وبثّ مشاعر الأمل والتضامن. أخيرًا، إن المبادرات والخبرات الاجتماعية التي سوف تنتج عن هذه الحرب الصحية قد تساهم في تطوير أو تغيير الملامح الثقافية القيمية للمجتمعات كافة، خاصة مع زخم التفاعلات المتبادلة التي تصاحب مدة انتشار الفيروس، خاصة أن التكنولوجيا الحديثة -ومنها وسائل التواصل الاجتماعي- سوف تلعب دورًا رئيسًا في نشر الوعيومحاربة الإشاعة، وتخفيف حدة "التباعد الاجتماعي" الذي يُطبق حاليًّا؛ وسيؤدي ذلك إلى ظهور سلوكيات اجتماعية وتوجهات صحية جديدة، استجابة للوضع الحالي.