من حق القناة التلفزية ميدي1 تي في أن تفخر بكونها نجحت في تقديم نقاش سياسي مفيد فعلا لمشاهديها من خلال حلقتها الأخيرة "90 دقيقة للإقناع" في وقت تحولت فيه النقاشات السياسية التلفزيونية إلى ما يشبه أسطوانة تتكرر كلماتها وجملها بنفس المضامين وبنفس السطحية مهما اختلفت الوجوه ومهما تعددت القضايا المطروحة للحوار. فالرتابة التي طبعت النقاشات السياسية على الشاشة أفقدت هذه الأخيرة تلك النكهة التي طبعتها ذات زمن كانت تجر فيه النخب المهتمة بالشأن السياسي ومصائر البلد لتكون شاهدة على لحظات تشريح تفيد في استكمال الصورة وفي فتح آفاق جديدة للتفكير والتفاعل مع قضايا البلاد. قناة ميدي 1 تي في كسرت هذه الرتابة، لا لأنها استضافت شخصية نجح الإعلام السطحي في حصرها داخل مقولة بليدة من قبيل "المثير للجدل"، ولكن لأنها مكنت المتتبعين من الوقوف على قضايا جوهرية طالما اختفت في ثنايا الضجيج الذي يحدثه محترفو الديماغوجية وفنون التواصل التي كثيرا ما تظهر عكس ما يضمره أصحابها، وتذيب حقائق بالغة الخطورة في صخب الإنتاج "الكلامي" اليومي الذي يتحول إلى آلية للتضليل يبدأ بالمظلومية الأبدية وينتهي بالقولبة الأيديولوجية وبالبناء التدريجي لرأي داخل الشارع يراد له أن يتحول إلى قوة لكبح طموحات المجتمع نحو التقدم والحرية والمساواة والتعايش داخل الاختلاف. إلياس العماري نائب الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة ظهر ضمن هذا الحوار متجردا من كل صور الأسطورة التي حاول الخصوم سجنه داخلها، أسطورة تحصر مقوماته ومؤهلاته في كونه مجرد آلة للنفوذ المستمد من الدولة بشكل غامض يتم تسخيرها وفق أجندات خفية، فقد أبان عن عقل سياسي مندمج بعمق في تشعبات الساحة السياسية، قادر على تفكيك تعقيداتها ليُخرج إلى السطح بعضا من الخلاصات الجوهرية التي تحتاج لكثير من التمعن ومن التمحيص ومن التداول والإغناء حتى لا تنتصر غشاوة الشعبوية التي يراد لها أن تلعب دور سَوْق جزء من "الشارع" كما يساق القطيع. البنية الموازية للدولة والازدواجية الخطيرة محاوره المعروف بكونه أحد متصلبي حزب العدالة والتنمية وواحد ممن يتباهى بهم الحزب في معاركه الكلامية (وإن كان فشل منذ الدقائق الأولى للبرنامج في الحفاظ على الزي التنكري للباحث الأكاديمي) أبان عن تهافت كبير عبر استيراده، دون تفكير ولا روية، لعمود من مجلة شهرية يتهم فيه كاتبه حزب الأصالة والمعاصرة بكونه بنية موازية للدولة، استيرادٌ سريعا ما تحول إلى مصيدة، حيث بين ضيف الحلقة بالملموس كيف أن البنية الموازية مفهوم ظهر في الواقع بارتباط وثيق مع حركات الإسلام السياسي دون سواها من الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها ومرجعياتها الإيديولوجية. فإذا كان نموذج حركة عبد الله غولن في تركيا قد استقطب الاهتمام في هذا المجال، فإن ذلك ليس حالة خاصة ولا شاذة، بل إنه قاعدة لدى الحركات الإسلامية. وبالفعل، فحركات الإسلام السياسي كلها تستند إلى منظومة معقدة تهدف إلى تأطير المجتمع عبر بناء شبكات ضخمة من الجمعيات الخيرية والمهنية والدعوية وغيرها، وإنشاء المدارس بكل أصنافها، بدء من البيوت الصغيرة المغلفة بفضيلة تحفيظ كتاب الله، إلى باقي أطوار التعليم، مرورا بإنشاء أماكن "خفية" للعبادة ليس فيها من المساجد شيء (الكاراجات)، وببناء شبكات للقروض الصغرى خارج الإطارات البنكية وحتى خارج قوانين الجمعيات العاملة في هذا المجال، وتنظيم مجالات للتجارة المتسلسلة، من عربات الباعة المتجولين إلى بعض العلامات التجارية الكبرى (مصر الإخوان نموذجا)، فضلا عن بنيات لاستقبال الفئات المحتاجة والطلبة وغيرهم... وهكذا دواليك، لا يفلت أي مجال في المجتمع لعمليات تنظيم ببنيات، تكون بدائية تارة، وسوفيستيكية تارة أخرى، تتمتع بقدرات تمويلية مالية رهيبة و"غامضة" المصدر، والكل يدور حول هدف واحد هو بالذات التأطير الأيديولوجي لفئات عريضة من المجتمع وكسب الأتباع بكل الوسائل الممكنة، تكون قاعدة للزحف نحو السلطة لبناء الدولة الدينية المتشددة النافية للعصر وللقيم الإنسانية الكونية. هذا التنظيم هو بالذات الدولة الموازية كما بناها الإخوان المسلمون في مصر وبناها أشباههم في تركيا والسودان والجزائر ما قبل كارثة التسعينات وفي تونس في السنوات الأربع الأخيرة، وكما بنتها حركات إسلامية في المغرب بكل التقية اللازمة وأساليب المداراة والتمويه والتغطية. التجارب الكثيرة للدولة الموازية على هذه الشاكلة كانت، ولا زالت، وراء الكثير من الجرائم التي ترتكب في هذا الوقت بالذات، وفي بلدان كثيرة، ليس أقلها تأطير الشباب المنتحر اليوم في سوريا والعراق وليبيا وغيرها تحت مسميات الجهاد وبإغراءات مالية ضخمة، بل وحتى جنسية مع بناء شبكات دعارة عابرة للحدود لتوفير الفروج الفتية... بمكيافيلية تجاوزت ميكيافيلي نفسه. وإذا كان هذا جزء يسير من حال البنية الموازية، فماذا عن أحد أوجهها الكلاسيكية ممثلة في ازدواجية البنية الشكلية، حيث البنية الأم على شكل جمعية كما في حالة "حركة التوحيد والإصلاح" والبنية الوظيفية ك "حزب العدالة والتنمية"؟ إنه لمن الأخطاء الشائعة الكبرى في هذه الحالة، ما نقرأه ونسمعه من قبيل أن حزب العدالة والتنمية لديه جناح دعوي ممثل في التوحيد والإصلاح، وهذا منظور خطير لأنه يقود إلى سوء تقدير للأمور يحجب الرؤية، وبالتالي يمنع النفاذ للحقيقة على اعتبار أن البنية السياسية (أي الحزب في هذه الحالة) يتم بناؤها بما يجعلها تتوافق بمرونة مع شروط العمل السياسي المؤسساتي المحدد بضوابط قانونية ودستورية، ما يعني أن البنية السياسية تختزل مجرد جزء بسيط وهامشي من عمل الحركة الإسلامية مؤطر بكثير من "التنازلات" التي تفرضها الظرفية، فيما المجال الأوسع لممارسة الهوية الفعلية في شموليتها بأبعادها الأيديولوجية ومواقفها يبقى من مهام البنية الأم. إن كشف جزء من هذه الحقيقة على لسان إلياس العماري أثناء البرنامج التلفزيوني أفقد محاوره (الباحث المزور) الذي نسي الدور الذي حضر من أجله وانبرى للدفاع عن العلاقة بين حزبه وحركته بنفس الألفاظ التي لا يمكنها أن تقنع أحدا من قبيل أن هذا لممارسة السياسة وتلك للدعوة والتربية. إن الواقع يكشف يوميا هذه اللعبة التي يتم بالكادإخفاؤها، يكفينا هنا نموذج واحد من آخر النماذج، والمتعلق بالنقاش العمومي حول الإجهاض، ففي الوقت الذي وضع سعد الدين العثماني وزرة الطبيب مدافعا عن ضرورة المراجعة القانونية للإجهاض بلغة سياسية لا يمكن أن يرفضها حقوقي أو حداثي، انبرى "مرجعهم" الديني في الحركة لهجوم حاد ضد كل داع لهذه المراجعة، بل أخطر من ذلك انبرى باستعمال لغة تحريضية واضحة من خلال ابتداعه للفظة "الإجهاضيون" بما يحيل إلى صفة يريد أن تكون المحدد الفئوي لمواطنين لديهم رأي في المسألة كما لديهم آراء لا جامع بينها في مسائل أخرى، أي إلباسهم هوية محددة معادية للقيم الدينية، وهو أسلوب لا يقل خطورة عن نعت كل من يرفض الدولة الدينية مثلا بكونه معاديا للإسلام أو ملحدا أو كافرا، تماما كما تم ترسيخ الترادف القسري بين العلمانية والإلحاد حتى تمت إشاعة قاموس جديد من بين ألفاظه "بنو علمان". إن هذا النموذج، أي التفاعل مع نقاش الإجهاض، من قبل شخصين ينتميان لنفس الحركة مع فارق أن دور أحدهما سياسي أكثر، يقدم صورة واقعية لخطورة هذه الازدواجية التنظيمية أو البنية الموازية بشكل عام، وبالتالي كيف يمكننا أن نحدد حقيقة الفاعل السياسي في حزب العدالة والتنمية وحقيقة ما يضمره والحال أنه يتداول عملة الخطاب السياسي المقبول حين يحمل قبعة الحزب ولكنه في نفس الآن يحتل مواقع قيادية داخل حركة لا تتورع عن الكشف عن مواقف صادمة من قضايا تخص الدولة والمجتمع، ناهيك عن نوعية التأطير الذي توفره للناس عبرها وعبر أدوات أخرى على شكل جمعيات وأصناف تنظيمية ذكرنا بعضها؟ هل لدينا بعد كل هذا حاجة للتساؤل عن الجهة التي تعمل بالازدواجية ومفهوم البنية الموازية إذا وضعنا الأحزاب المغربية كلها في كفة والحركات الإسلامية بمختلف تلاوينها في كفة أخرى؟ خطورة المدخل المذهبي النقطة الثانية التي تطرق إليها إلياس العماري والتي لا تقل أهمية، بل هي أكثر خطورة في اللحظة الراهنة تتعلق بتحذيره من الطائفية كمدخل للدمار والخراب. صحيح أن الذين لا زال في جماجمهم شيء من المادة الرمادية يدركون معنى الطائفية وويلاتها، لكن أهمية إثارة هذه النقطة تكمن في جانبين: الأول يتمثل في كون أصوات إسلاموية كثيرة ارتفعت مؤخرا لنشر الكراهية والحقد بشكل مكشوف ضد الشيعة. وكانت حركة التوحيد والإصلاح (أم العدالة والتنمية) نشيطة في هذه الحملة لدرجة أنها خصصت لها ندوة كاملة حذرت فيها من هذا الغول الداهم، لدرجة أن من سمع خطابها بالمناسبة يخال إليه أن المغرب على شفا حرب مذهبية شيعية سنية، والحال أن الأمر لا يعدو تكرارا لسيناريو إجرامي صنعه إخوان مرسي في مصر تم بموجبه تقتيل عدد من الأبرياء علما أن الشيعة في مصر لم يسبق أن سمع لهم حس ولا خبر. الجانب الثاني في أهمية هذه النقطة تكمن في غياب أي رد فعل من لدن النخب على الخصوص ضد هذا المسعى الجديد لإثارة الحقد والكراهية وبالتالي زرع بذور الفتنة، وهو غياب سيشجع - لا محالة – على الاستمرار في هذا النهج بكل الكوارث التي قد يتسبب فيها. إن الإصرار على نقل مآسي الشرق لبلادنا التي لا وجود لصراعات مذهبية فيها، لهو في العمق محاولة لخلق فتنة جديدة يريدون إضافتها لباقي الفتن التي حاولوا صنعها وكان آخرها توظيف مسألة الإجهاض. هذا علما أن المدخل المذهبي في صيغته التي تدمر العالم العربي حاليا، ما هو سوى آخر إبداعات السياسة الأمريكية بعدما أعياها التدخل العسكري المباشر لتختار هذا المنفذ نحو استكمال مخططاتها، ولكن هذه المرة عبر إنابة المسلمين ليقوموا بالعمل عوضها من خلال الاقتتال الذي مهد له الأصوليون بالتحريض على الحقد والكراهية وإشعال المنطقة برمتها بشكل غير مسبوق. هذه – إذاً – قضية جوهرية تعتبر إثارتها بصيغة التنبيه من طرف نائب الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة دعوة، إن لم نقل دقا لناقوس الخطر، حتى يتحمل الجميع مسؤوليته في المآلات الممكنة، سواء منتجو الفتنة، وسواء نخب المجتمع وبناته وأبناؤه الذين يغارون على أمنه وسلامه واستمراره فضاء للتعايش، وسواء الدولة التي عليها حماية البلاد من هذه المنزلقات من خلال تطبيق القانون الذي يجرم تعريض أمن المجتمع والأفراد للخطر. العنف اللفظي مقدمة للعنف المادي كان لافتا للانتباه كيف عمل ضيف حلقة "90 دقيقة للإقناع" على مقاربة واقعية وعميقة في نفس الآن لتكرار الشتائم التي يكيلها له شخصيا رئيس الحكومة. فمن جهة أولى لم يلجأ إلى منطق المظلومية، العملة الرائجة بقوة عند الآخر، بل وضع المسألة في قالب أخلاقي وتربوي حين فسر عدم رده بنفس الأسلوب على رئيس الحكومة لأن تربيته التي تلقاها من والديه لا تسمح له بذلك، ما معناه أن لكل واحد أخلاقه وتربيته. ومن جهة ثانية وضع مسألة العنف اللفظي في موقعها الصحيح، أي أنها ليست مجرد إيذاء معنوي عابر، بل إن كل تجارب العنف المادي تثبت أنه كان مسبوقا بعنف لفظي، وهنا يمكن أن تحمل المسألة عدة قراءات، لعل أبرزها أن السلوك الذي يفضي إلى عنف مادي هو في العمق سلوك يسعى، من حيث يدري أو لا يدري، إلى تقويض الديمقرطية بشكل عام. فأن تختلف الأحزاب هو أحد أوجه جوهر الديمقراطية، ما يعني أن هذا الاختلاف يجب أن يكون ضامنا لتعميق الديمقراطية، وعليه بالتالي أن يرتهن إلى الأساليب التي تخدم هذا المسعى النبيل، أي تجذير الديمقراطية. من هنا يعتبر اللجوء إلى العنف اللفظي كمقدمة للعنف المادي، مقدمة كذلك لتقويض الديمقراطية ذاتها، بما أن العنف هو انتقال للموقع المضاد للديمقراطية، ما دامت الديمقراطية إبداعا بشريا لتجاوز العنف وضمان التعايش. من هنا تتحول الشتائم بما تحمله من تحريض كذلك، إلى تعبير عن علاقة غير سوية بالديمقراطية، قد نقول، بغية التخفيف، قصورا في تمثل الديمقراطية والتشبع بقيمها، حتى لا نقول أكثر من ذلك. ولعل الدعوات من أعلى مستوى لتخليق الخطاب السياسي والتعامل بين الفرقاء ليس مجرد دعوة ل "تحسين السلوك والتربية"، بل هي أبعد من ذلك دعوة لتحصين الديمقراطية والحداثة في أبعادها العملية والمؤسساتية، هذا دون أن نعرج على كون الأجواء العامة للظرفية التاريخية للمنطقة متشبعة بالعنف بأجلى صوره ما يعني أن على الجميع التحلي بكل ما يمكن أن يدفع مخاطر العنف المادي وليس التأسيس له بالعنف اللفظي. ... وأشياء أخرى لا نريد مزيدا من التفصيل في كل ما جاء في الحوار من أفكار تستحق أن يرتكز عليها النقاش العمومي في ارتباط بالظرفية السياسية الوطنية، من قبيل مفهوم التمثيلية المؤسساتية، خاصة وأن رئيس الحكومة لا زال يتصرف بمنطق الفئوية كممثل لحزبه، فيما كل حركاته وسكناته تحسب على كافة المغاربة باعتباره رئيسا لحكومة المملكة المغربية، حكومة كافة المغاربة، وهذا إشكال عميق في تمثل المسؤولية بشكل عام... كما لا يتسع المجال للوقوف عند منطوق مستهلك وتقليدي يفيد أن انسحاب شخص أو أشخاص من حزب يعتبر وصمة عار أو إعلانا للإفلاس، والحال أن هذه النظرة تعكس رؤية ستاتيكية جامدة للمؤسسات لا ترى فيها كائنات حية تتطور، وفي تطورها تلفظ أناسا وتستوعب آخرين. وربما يكون الجمود التنظيمي الذي ساد كثيرا حياتنا السياسية وراء مثل هذه الأفكار، كيف لا وأمامنا تنظيمات سياسية أو نقابية أو غيرها لم تعرف طوال حياتها سوى زعيم واحد اللهم إلا حين يتدخل عزرائيل لترتيب الأمور، وهي وضعية لا يمكنها أن تفرز غير هذا النوع من التفكير الذي يرى في حدوث أي تغيير، انسحابا كان أم غيره، خروجا على قاعدة الجمود أو بالأحرى الموت، فيما الحياة حركة، ولا حياة بدون حركة. إنها فعلا لحظة مهمة لنقاش ما أحوجنا إلى تكرار أمثاله، فقد كادت الشعبوية وتخمة الكلام الفارغ تعيدنا إلى القولة المشؤومة: لعن الله السياسة والسياسيين...