لا ينبغي أن تكون الزوبعة التي أثارتها لائحة المستفيدين من رخص حافلات النقل العمومي غاية في ذاتها... فالمواطن المغربي تلقى هذه المبادرة التي أطلقتها وزارة النقل والتجهيز بكثير من الترحيب والإهتمام، ولو من باب حب الإطلاع، أو الأمل في تكريس ثقافة جديدة تتأسس على الوضوح والشفافية في العلاقة بين الإدارة والمواطن. اللائحة التي أفرجت عنها وزارة " الرباح" كشفت عن أسماء معروفة في سماء الفن والرياضة والسياسة، لذلك أصبح هذا الموضوع طاغيا على حديث الشارع هذه الأيام. لكن مشكلة ملف "الريع" أكبر بكثير من مجرد نشر لائحة بأسماء المستفيدين من "لكريمات"... صحيح أن حضور بعض الأسماء استفز قاعدة عريضة من أبناء هذا الشعب، حيث نعرف جميعا أن كثيرا من هؤلاء هم في غنى عن إكرامية تضمن لهم دخلا ماديا مستمرا. ورغم ذلك فإن ما كشفت عنه القائمة هو " غيض من فيض" وما خفي كان أعظم، لأن معضلة الريع لا ترتبط برخص النقل وحدها بل تمتد إلى مختلف القطاعات، وتتحول في كثير منها إلى وسيلة للاحتكار والإغتناء الفاحش... لكن اللافت بالعودة إلى قضية " كريمات النقل" هو أن اللائحة ذاتها تضمنت أسماء شركات مجهولة، بل إن بعضها يتكرر فيها لعشرات المرات. فهل تستطيع الوزارة التصريح بأسماء أصحابها؟. هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه الآن على الأقل في إطار مزيد من الوضوح وتكافئ الفرص. لكن السؤال الأهم بعد كل هذا هو: ما التدابير التي ستتخذ لمحاربة هذا النوع من الإمتيازات؟. ماذا بعد؟. ذلك هو لسان حال المواطن المتتبع لهذا الملف. فبالقدر الذي تستحق فيه مبادرة الوزارة المعنية كل التحية والتقدير، ينبغي تتبع هذه الملفات ودراسة الحالات المستفيدة من الرخص وكيفية حصول هؤلاء المعنيين عليها... كما يتحتم على كل المسؤولين في الحكومة الجديدة وفي كل القطاعات أن يكشفوا للرأي العام عن مختلف مكامن الخلل بكل أشكالها وأيا كان المتورطون فيها، مع رفع كل القضايا التي تحضر فيها شبهة الفساد إلى العدالة لاتخاذ ما يجب اتخاذه وفق القانون. وبغيرهذه التدابير لن تكون للائحة "الرباح" أي تأثير يذكر. وحتى لا تكون قائمة المستفيدين من رخص الحافلات مجرد زوبعة في فنجان، يلزم القطع مع كل ممارسات الماضي التي كانت ثقافة المحاسبة الغائب الأكبر فيها. فقد آن الأوان لتقعيد السلوك المواطن وجعله ثقافة اجتماعية تنضبط للواجب وتتشبث بالحق. آن الأوان لتفعيل آلية : من أين لك هذا؟. دون أن يتحول الأمرإلى مجرد واجهة لتصفية حسابات ضيقة. وفي هذا الصدد مازالت القضايا الكبرى التي استفحل فيها أخطبوط الريع الإقتصادي تقع في خانة " الطابوهات". والمغاربة ينتظرون لوائح مشابهة للمستفيدين من رخص الصيد ومقالع الرمال واستغلال أراضي الدولة... إن حكومة "بن كيران" تدرك جيدا أن الرهان على تنمية اقتصادية في هذه المرحلة أمر معقد، وذلك بالنظر إلى الظروف الصعبة التي يمر بها الإقتصاد العالمي، وكذا بسبب المؤشرات التي تنذر بموسم فلاحي كارثي من شأنه تعقيد الأوضاع أكثر. لكن حالة الأمل التي عبر عنها المغاربة بعد انتخابات 25 نونبر يمكن أن تظل قائمة رغم هذه المعيقات، إذا نجحت الحكومة في التصدي لملفات الفساد وامتلكت الشجاعة اللازمة للتعامل مع "اقتصاد الريع"، وتحويله إلى اقتصاد منتج تستفيد من خلاله الدولة بعائدات تنعش خزينتها وتحفظ التوازنات الإجتماعية. أما إذا تحولت " لكريمات" إلى نوع من الإمتياز الإجتماعي فينبغي أن تتوجه لمستحقيها من ذوي الإحتياجات الخاصة والعائلات الفقيرة. كما يمكن أن تكون حلا فعالا لمعضلة عطالة حاملي الشهادات في انتظار حصولهم على الشغل، وذلك في إطار تشاركي يدر على الدولة دخلا ويمنح للمواطن فرصة للمبادرة والإنخراط في تنمية البلد.