بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ، جاء في إعلان القضاء على العنف ضد المرأة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تعريف " العنف ضد المرأة " بأنه " فعل عنيف تَدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه ، أو من المحتمل أن يترتب عليه ، أذىً أو معاناةٌ من الناحية الجسمانية أو النفسية أو الجنسية ، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية ، سواءٌ حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة " . يلاحظ من هذا التعريف وجود ثلاثة أنواعٍ من العنف : العنف الجنسي والعنف النفسي والعنف البدني ، وتحت تعريف هذه الأنواع من العنف يُدرِج الشرّاح أنواعاً عدة ، فالعلاقة الزوجية بين الزوج والزوجة إذا حصلت بغير موافقة الزوجة تُدرج في باب العنف الجنسي ، والخلافات الزوجية وما يحدث خلالها في بعض الأحيان من تبادل الاتهامات تعد من العنف النفسي ، أما ضرب الوالد لولده بغاية تأديبه فيعتبر قمة العنف البدني . إن الدخول في هذا التوسع في تعريف العنف الذي تطالب به الأممالمتحدة أمر لا يعترف به الإسلام ، إذ أنه في بعض الأحيان قد يقر بالعنف إذا كان لمصلحة المعنَّف كما في حالة ضرب الولد بغاية إصلاحه وتأديبه . إن من أنواع العنف التي تكثر الحاجة إلى الحديث عنهما نوعين : العنف الجسدي والذي يمثل ضرب الزوجة أحد نماذجه ، والعنف الجنسي والذي يعتبر الاغتصاب الجنسي نموذجه الرئيسي . إن فعل العنف كي تتم بنوده يحتاج إلى عنصرين أساسيين : المعنِّف والمعنَّف ، والمعنِف ، سواءً كان معنِّفاً جسدياً أو معنِّفاً جنسياً ،هو ذلك الشخص الذي " يمارس ممارسات قهرية تستهدف الآخر فتصيب حريته بشكل خطير فتحرمه حرية التفكير والتقرير ، وتطعن بكرامته وتعتدي على حريته بقصد إخضاعه لا بهدف إبادته " . أما المعنَّف فهو الشخص الذي وقع عليه فعل التعنيف ، وقد اصطلح العلم الجنائي الحديث على إدراج المعنَّف ضمن دائرة الضحايا الذين عني بدراسة وضعهم والاهتمام بهم . ويعود السبب في اهتمام العلم الجنائي بدراسة حال الضحايا إلى اتجاهين: الاتجاه الأول " يرمي إلى دراسة وضع الضحية كعامل مهيئ ومساعد على وقوع الجرم من قبل المعتدي ، والثاني يرمي إلى إيجاد الوسائل الكفيلة بإنقاذ الضحية ومساعدتها على تجاوز ما أصيبت به من أذىً نتيجة لوقوع الجرم عليها وتأمين كافة الضمانات القانونية والعملية للمحافظة على حقوقها " . وفي هذا النوع من الدراسة يمكن تقسيم البحث في حماية الضحية من العنف إلى قسمين : القسم الأول يتناول دور الضحية في المساعدة على عدم وقوع العنف ، والقسم الثاني يتناول كيفية مساعدة الضحية بعد وقوع العنف . القسم الأول : دور الضحية في المساعدة على وقوع العنف : عرَّف العلم الجنائي الضحايا بأنهم " الأشخاص الذين أصيبوا بضرر فردي أو جماعي ، بما في ذلك الضرر البدني أو العقلي أو المعاناة النفسية أو الخسارة الاقتصادية أو الحرمان بدرجة كبيرة من التمتع بحقوقهم الأساسية". وقد جاء اهتمام العلم الجنائي بالضحية نتيجة الأسئلة الجدلية التي أثيرت في الأربعين سنة الأخيرة، والتي منها السؤال التالي : ما هو مدى مسئولية المجرم التامة عن الذنب الذي ارتكبه ؟ وما مدى مساهمة الضحية في وقوع الجريمة ومدى مسئوليتها عما وقع لها ؟ هذه الأسئلة أجاب عنها علماء النفس الجنائيون عندما قسَّموا ضحايا الجريمة إلى أنواع عدة ، منها : 1-الضحية الحريص: هو الضحية الذي يقع عليه الجرم دون أن يكون له أي ذنب في وقوعه ، أو دون أن يكون قد وقع عليه أي لوم بطريقة أو بأخرى ، ومن نماذج هذا النوع ضحايا الاغتصاب أثناء الحروب ، ضحايا الضرب من قبل أزواج مرضى نفسيين، وغير ذلك من النماذج . 2-الضحية المستفِز: هو ذلك الضحية الذي يتصرف بطريقة تثير مشاعر الجاني مما يدفعه إلى الإساءة إليه انتقاماً منه واسترداداً لكرامته ، ونماذج تصرفات الضحية المستفِز متعددة منها : 1- مجادلة الزوج وتحقير أفكاره وانتقاد تصرفاته انتقاداً لاذعاً أمام الآخرين، وقد عبر أحد الأزواج عن سبب ضربه لزوجته بقوله : ( لقد قامت زوجتي بتعريتي أمام الآخرين تعرية كاملة ). 2- تبلد الزوجة الجنسي ، وتمنعها المستمر عن زوجها حين يرغبها ، هذا الأمر الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال :" إذا دعا الرجل زوجته فلتأته ولو كانت على التنور " . 3- المعتقدات الشاذة للزوجة التي تعتقد أنها بمعاندتها لزوجها تثبت ذاتيتها واستقلاليتها ، هذا النوع من المعتقدات والأفكار قد يثير حفيظة الزوج ضد زوجته في محاولة منه للرد على مزاعمها بشكل عملي . 3-الضحية المسهِّل : هو ذلك الضحية الذي يقوم في بعض الأحيان بتصرفات تسهل على الجاني ارتكاب جريمته ، مثال ذلك ضحية الاغتصاب التي تقوم في بعض الأحيان بأفعال استهتارية تجذب الرجل إليها وتسهل عليه عملية اغتصابها ، ومن هذه التصرفات : الإباحية في اللباس ، الذي يعتبره بعض الرجال دعوة للحرية الجنسية ، ودعوة لهم بالذات للاستفادة من هذا التحرر ، خاصة أن هذا الأمر لن يكلفهم شيئاً من المال . ومنها أيضاً التساهل في التصرفات مثل قبول بعض الفتيات توصيل بعض الشبان لهن إلى منازلهن على الرغم من شبه المعرفة بينهما ، اعتماداً منهن على ما أظهره هذا الشاب من أدب ودماثة وحسن خلق ، الأمر الذي يستخدمه مثل هؤلاء ستاراً من أجل كسب ثقة الفتيات فيتمكنون من الانفراد بهن والاعتداء عليهن . 4- الضحية الراضي : يقصد بالضحية الراضي ذلك الشخص الذي لا يحتج على ارتكاب العنف ضده بل على العكس من ذلك فقد يتصرف مثل هذا الشخص تصرفات مدافعة عن الجاني محاولاً باستمرار البحث له عن تبرير لتصرفاته معه . والأسباب التي تدفع الضحية إلى الرضا عن العنف الموجه إليه وعدم التحدث عنه أسباب عديدة منها : 1- بعض المعتقدات التي يؤمن بها الضحية والتي تجعله يبحث عن التبريرات لفعل الجاني ، كاعتقاد بعض الضحايا أن العنف هو دليل حب الجاني للضحية ، إحدى الزوجات لما سُئلت : " لماذا تعتقدين أن زوجك لا يحبك ؟ قالت: لأنه لم يعد يضربني " . 2- الخوف على النفس أو على الآخرين في بعض الحالات ، كخوف الأم على أطفالها من أن تتركهم تحت رحمة أب ظالم يضربهم ، فهي تفضل أن تتلقى هي الضرب من أن يتلقاه أبناؤها ، وقد يكون هذا الخوف من الجاني الذي يمكن أن يتعرض للضحية بردود فعل انتقامية إذا تحدث للآخرين بما يحصل معه . 3- حب الضحية للجاني حباً يدفعه إلى الصبر في محاولة منه لإصلاحه وتعديل تصرفاته ، خاصة إذا كان هذا الجاني لا يمارس عنفه بصورة دورية . 4- عدم إيمان الضحايا بقدرة الهيئات الرسمية على تأمين الحماية لها ، فالقانون الذي ينص على سجن المغتصِب فترة قصيرة من الزمن لا تعتبره المغتصَبة قانوناً عادلاً ، ورجال الشرطة والمباحث الذين يحاولون أثناء التحقيق إثبات دور الضحية في ارتكاب الجرم لا يمكن للضحية أن تشعر بأنهم قادرون على حمايتها ، الأمر الذي يجعلها تعض على جرحها وترضى بقدرها . القسم الثاني : كيفية مساعدة الضحية بعد وقوع العنف : إن بيان دور المرأة الضحية في وقوع الجرم لا يعني أنها مسئولة مسئولية تامة عن هذا الجرم ، خاصة أن الحالات التي لا يكون للمرأة فيها دور في وقوع الجريمة أكثر بكثير من تلك التي يكون لها دور فيها ، ثم إنه حتى الرجل الذي يمارس العنف قد يكون في بعض الأحيان ضحية معتقداته وضحية الفساد الأخلاقي المنتشر وضحية رفقاء السوء وغير ذلك من الأمور ، من هنا لا يجب أن نكتفي بمساعدة المرأة على أن تحمي نفسها من العنف الجسدي والجنسي ، بل يجب أن نطالب المجتمع بعناصره كافة المساعدة على تأمين هذه الحماية ، ومن هنا يمكن تقسيم هذه الحماية إلى قسمين ، حماية ذاتية وحماية جماعية . 1- الحماية الذاتية : تتعدد الوسائل الذاتية التي يمكن أن تحصن المرأة نفسها بها ضد العنف ، وتبدأ هذه الوسائل بالوقاية قبل حدوث الفعل ، إذ إن في أخذ الاحتياطات كفالة مهمة تعين المرأة الضحية في مهمتها ، ومن هذه الوسائل الوَقائية ما يلي : أ- التحصن بالعقيدة الإسلامية الصحيحة التي تحميها من أي تصرف انحرافي يؤدي إلى وقوع العنف عليها ، فمعرفة المرأة بحق الزوج بالطاعة والاحترام يمنعها من القيام بالتصرفات الاستفزازية التي تساهم في وقوع العنف عليها . ب- تغيير التصورات الذهنية حول العنف في عقل الضحية والجاني ، وذلك بهدف إشعارهما بخطورة العنف الممارَس على الضحية من جهة ، ومساعدة الجاني على الامتناع عن هذا الفعل وعدم تكراره. ومن المعتقدات التي تساعد الجاني على التخلص من استخدام العنف تغيير معتقداته الخاصة حول مشروعية ضرب الزوجة الذي يتخذه البعض حجة تبرِّر ضربهم لزوجاتهم ، ويَنْسَون العِظة والهجر ، مع أن هذا الضرب المباح مشروط بكونه غير مبرِّح ، وقد "فسر المفسرون الضرب غير المبرِّح بأنه ضرب غير شديد ولا شاق ، ولا يكون الضرب كذلك إلا إذا كان خفيفاً وبآلة خفيفة ، كالسواك ونحوه " . ثانياً : الحماية الجماعية : شرع الإسلام الحدود والعقوبات حفاظاً على الفرد والمجتمع على حد سواء، وحدّد الإسلام الأمور التي يجب على المسلم أن يتجنب الوقوع فيها لِما فيها من اعتداء على النفس وعلى الآخرين . والأمور التي أوجب الإسلام المحافظة عليها : الدين، النفس ، العقل ، المال والنسل ، فإذا حصل اعتداء من قبل المسلم على أحد من هذه الأمور فقد استوجب العقاب الذي فرضه الله سبحانه وتعالى على كل من خالفه . ومن هنا فواجب على كل القوى المسئولة سواء منها الأمنية أو الدينية أو الاجتماعية أن تسعى من أجل الحفاظ على هذه الكلِّيات ومنع أي تعد عليها ، ومن أهم السبل ما يلي : 1- تعريف الناس بأحكام الدين التي تتعلق بالعنف ، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في أذهان الناس والتي منها حكم ضرب الزوج للزوجة . 2- الدعوة إلى تشريع القوانين التي تحمي المرأة المعنَّفة وتحفظ حقوقها ، والإسلام كان سباقاً في هذا الأمر في حالتي التعنيف اللتان ذكرناهما فأعطى للمرأة حق طلب الطلاق ، كما أعطى للمغتصَبة المكرهة كرامتها عندما رفع عنها الإثم ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه ) . وقد جعل الفقهاء للمرأة المغتصَبة حقوقاً تستحقها كالمهر والأرش في بعض الحالات . 3- الصرامة في إقامة الحد مراعاة لمصلحة الفرد ومصلحة الجماعة على حدٍّ سواء ، ولذلك نجد الإسلام يشدّد على إقامة حدود الله حفاظاً على مبدأ جماعية العقاب مما " يستوجب الصرامة في توقيعه لأن الأمر أخطر من مجرد ضرر شخصي يصيب الفرد في المجتمع ، ومن ثَمَّ فإن الحال يستوجب منطقياً عدم إقرار فكرة التسامح فيه أو التغاضي وإلا تعرض المجتمع ذاته للانهيار " . وقد ورد في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أ نه قال: ( إن الخطيئة إذا خَفِيَت لا تضر إلا صاحبها ، وإذا ظَهَرَت فلم تُغَيَّر ضَرَّت العامة) . 4- تشجيع الضحية على الإبلاغ عن الجرم ، إذ يعتبر كثير من الباحثين القانونيين أن من أبرز الوسائل التي تخفف من انتشار الجرائم هو إبلاغ الشرطة عنها باعتبار أنه إذ ارتكب الجاني الجريمة " ثم لا تُبَلَّغ عنه المجني عليها يصبح أشد جرأة وأكثر إتقاناً لأساليب ارتكاب الجريمة والتخطيط لها، وبالتالي يصبح من الصعب القبض عليه وتقديمه للعدالة ، في حين يُقبض على غيره من المجرمين الجدد ... " . 5- الاهتمام بالضحية ومحاولة إعادة تأهيلها في الحياة الاجتماعية بعد حدوث الجرم ، والتخفيف من معاناتها الجسدية والنفسية والاقتصادية ، وهذا يتم عبر تأسيس المؤسسات التي تهتم بضحايا العنف ، وهذا الأمر يشكل ضرورة قصوى خاصة مع وجود بعض الجمعيات العلمانية التي تحاول عبر هذا الطريق خرق مجتمعاتنا الإسلامية لتستغل بعض حالات العنف التي تصل إليها من أجل إثبات ظلم الإسلام وإجحافه في حق المرأة وخاصة من ناحية إباحته لضرب الزوجة . 6- الرقابة على الإعلام ، إذ إنه ثَبَتَ أن لمشاهد العنف التي تبثها وسائل الإعلام دور هام في انتشار العنف ، حتى أن إحدى الدراسات أثبتت أن أثر العنف يبقى لفترة عشرين سنة من تاريخ بثه . 6- إحياء سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ إن في هذا الفعل تنفيذٌ لأوامر الله سبحانه وتعالى الذي أمر عباده المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عز وجل : { وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ } . وأخيراً لا بد من الاهتمام بالضحية وإعادة ثقتها بخالقها وبنفسها ، ومن المفيد هنا تذكيرها بأن ما حصل لها كان بقضاء الله وقدره الذي لا مفر منه ، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمنُ عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه ) .