تتسم المرحلة الحالية بتسارع غير مسبوق للأحداث عالميا وجهويا وداخليا. ولا تترك هذه السرعة ما يكفي من المسافة والوقت من أجل الإلمام بمجريات الأحداث إياها ثم قراءتها القراءة الرصينة الهادفة. يزيد من التشويش على سياقاتها غبار "المنازلات" الانتخابية الجارية الذي يكاد يحجب الطابع الخاص لموعد 25 نونبر، خاصة وأن بعض الفاعلين الحزبيين اختاروا الطريق السهل: الديماغوجية والهجوم المفضوح والكذب والافتئات، ودغدغة الأوتار الحساسة لفئات الشعب. ومن جهة أخرى، يكاد لا يختلف اثنان اليوم في توصيف المرحلة المقبلة من زاوية كونها ذات طابع مصيري. ولكون الدستور الجديد قد أناط بالأحزاب مسؤوليات كبرى في هذه المرحلة الحساسة من مسار انتقالنا الديمقراطي، ولكون مجالاتِ تدخلِها حاسمةً في صناعة النخب الحزبية وتأطير المواطنين وبلورة البرامج والسهر على تنفيذها وتسيير الشأن العام، فإن من حق الشعب عليها أن تكون في مستوى المرحلة مهما كلفها ذلك من ثمن. إن بلادنا توجد اليوم داخليا أمام تزايد الطلب الاجتماعي والاحتقان الجيلي المشروع، ومؤسساتيا أمام تحدي التنزيل الدستوري، ومغاربيا إزاء انحباس الأفق القريب، وعربيا إزاء انفلات وغموض التعبيرات الرافضة، ودوليا في مواجهة الأزمة المالية العالمية التي ما انفكت تأخذ طابع الظاهرة المزمنة مع تفاقم الفوارق بين الذين يملكون والذين لا يملكون. والنسق الحزبي في عمومه، في حاجة ماسة ليستحضر التحديات التي تواجه بلادنا، وليقرأ دوره إزاءها بطريقة مغايرة. ومع احترام التجربة الخاصة لكل طرف منه خاصة الأطراف التي تنتمي للاختيار الديمقراطي الحداثي أو تقترب منه، فإن هناك أسئلة كبرى لا بد من مواجهتها. ويتعلق الأمر لا أكثر ولا أقل بمراجعة عميقة لطبيعة العمل السياسي وطرقه وأساليبه خاصة موقع ودور المواطنين فيه. إن الغيرة التي تحرك كل المناضلين الديمقراطيين في البلد والدور المطلوب منهم أكانوا أعضاء في الأحزاب إياها أو نشطاء مدنيين أو مثقفين، تفرض عليهم المزاوجة في الأفق المنظور، بين مهمتين صعبتين: مواجهة هذه الواقع الموضوعي الصعب بنجاح من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق خطوات دالة في مجال تقوية أداء القوى الديمقراطية الحداثية في تنوعها وتعددها. من هذه الزاوية تطرح أسئلة لا مفر من مواجهتها. كيف نتصرف بالضبط؟ هل نكرس طريقة الأداء السياسي القائم، محتكمين إلى شبكات قراءة قديمة؟ هل الاستمرار في ترديد العبارات الجاهزة ممكن الاستمرار اليوم همّه الحفاظ على الريع السياسي للأفراد ومجموعات النفوذ الحزبية؟ غالبا ما يفهم من بعض التصرفات الحزبية أن الأمور مرتبطة بمعرفة "حالة الطقس" في القمة، أي عند الملك. ولا يتم إدراك أبعاد معطى حديث الوجود، هو الدستور الجديد والصلاحيات التي يضمنها لهذا وذاك. إذا كان من إسهام يمكن أن يحسن من أداء الديمقراطيين، فهو بالضبط التخلي عن شبكة القراءة المنتهية صلاحيتها. =============== وفي هذا الصدد، لم يتم الانتباه بما فيه الكفاية، للأسف، لإعلان الملك محمد السادس أنه مواطن كسائر المواطنين، حين قبِل بلا تردد سحب القداسة عن شخص الملك، وأعلن أن القداسة لله وحده، وتفاعل مع الطلب الشبابي الشفاف بالسرعة المطلوبة، وهي عناصر أعادت المجتمع بكامله إلى دينامية الانتقال بوعود أفضل. لقد أرسل الملك ما يكفي من الإشارات تجاه الطبقة السياسية لكي تتأكد من أن سن الرشد قد وصل وأن من حق المجتمع على طبقته السياسية أن تقوم هذه الأخيرة بتنقيح وتعزيز وتحديث أدواتها الحزبية والابتعاد بها – في هذا السياق واستحضارا لنفس المنطق - عن رهانات "التمسح بالأهداب" أو إظهار المحبة الزائدة للملك أو العداء المجاني أو افتعال اللحظة أو التهويل باحتمال "غرق المركب المشترك" من أجل الانقضاض على دفته، أو التمويه أو التصنع أو انتظار التعليمات أو قراءة الإشارات المرموزة من طرفه. إن الملك بخلاصة لا يحتاج اليوم إلى "خُدَّام". إن الأمر يتعلق اليوم بشيء آخر تماما. يتعلق بالتمثل الكامل للصلاحيات التي يضمنها الدستور الذي ارتضيناه بإرادتنا، وبما يستتبعه من طريقة جديدة في السلوك والتدبير السياسيين. إن لم نفعل وإن لم نجب على سؤال التاريخ، فسيظهر جيل آخرُ يفعل. لأن المجتمع لا يمكن أن يستمر إلا بإظهار مكنوناته والتعبير عنها، فإن لم تسعفه قناة توسل بأخرى. لكن السيئ في الأمر هو أننا إنْ لم نفعل الآن وليس غدا، فسنفرض على بلدنا ظروفا أصعب في مواجهة معضلاته. إن الملك يحتاج، ولا أظن الأمر إلا كذلك، كما يحتاج المجتمع، لا إلى التزلف لشخصه أو التظاهر بالإذعان له أو التمسح أو النفاق أو إلى تقمص الورع أو إلى التظاهر بالانفتاح، فخائنة الأعين تفضح المنافقين مهما تلونوا. إنه يحتاج، كما يحتاج المغرب كله، إلى رجال ونساء قادرين – من منطق مسئول ومستقل – على التفكير والاقتراح والعمل وعلى تحمل المسؤولية وعلى الاعتزاز بالانجازات حين ينجحون، والاعتذار ونقد الذات، بل والتنحي، حين يتحتم ذلك. هذا من زاوية مسؤولية الملك. فلننظر للأمر من زاويتنا نحن تجاه الملكية. ولنكن صرحاء لنقول ما لا يقال عادة، فهذا زمن "شرّح ملّح، ما يخسر". أريد من عملي السياسي اليوم وبصراحة، ترسيخ وجود الملكية، ليس لأنه عليَّ أن أقبّل "اليد التي لم أستطع قطعها" كما تقول "الحكمة" السائرة، أو لأنني أريد الإبقاء عليها رهينة في يد القوى المحافظة لشل دورها التحديثي عن طريق استثمار قيمتها الرمزية والمزايدة عليها بالمقدس المشترك، بل لأن الملكية لها شرعية متعددة توحد المغاربة، وتعفيهم، بالمناسبة، من همّ من يمثل رمزيتهم ودولتهم. وفي نفس الوقت، أنا حريص على أن تسير الأمور بالشكل الذي يرفع المظالم ويقهر الفقر ويحد من الجوع ويبعد الحاجة، ويضمن تجسيد الاختيار الديمقراطي التحديثي التنموي والإفلات بشكل نهائي من قروح الهشاشة الاجتماعية وبراثن القوى المحافظة التي تريد إبقاء الوضع على ما هو عليه، مهما تعددت الشعارات البراقة. ولا أستسيغ والحالة هذه ما تبقّى من حذلقات الساسة الحريصين على "مِعمارهم" الإيديولوجي الذي تكلف الزمن بإعادته إلى نسبيته يمينا ويسارا، أكثر من حرصهم على بطون البؤساء الفارغة وسواعد الشباب العاطلة. أختار الملكية ليس فقط لأنه من الضروري واللامهرب منه "التعامل" معها من منطق "مكره أخاك لا بطل"، أو بمنطق "ما كاين ما أحسن من الانسان يتخبع في جلايل الملك" أو "ما كاين ما أقرب للملك أمير المومنين من المسلم الحقيقي اللي هو أنا" وهي تنويعات تعاملتْ به أجزاء من الطبقة السياسية طويلا، بل من منطق آخر مغاير: مع الملكية، مع محمد السادس، الذي وضع كل ثقل الملكية في الميزان من أجل ربح الرهانات الكبرى في الدمقرطة والتنمية والتحديث، بإمكان المغرب – بكل مكوناته - أن يستثمر نافذة الإمكان التاريخي المفتوحة أمامه اليوم ويتمم بنجاح عملية المرور هاته. =============== باستحضار كل ذلك، أريد من عملي السياسي أن يسمو إلى استحضار هذا الزمن الكوني اليوم، وأنا أرى كيف يستأسد مستعمرو الأمس، وكيف تنفلت المسارات من كل ضبط، وكيف تنفتح المنعطفات على المجهول، وكيف تنمحي المرجعيات، وكيف تصبح مآلات الشعوب كالشراع النزِق، لا بوصلة تهديها سواء الطريق... أتفاعل مع كل هذه المستجدات لا من منطق تمثلها السطحي، بل من منطق استحضار ما راكمته بلادي بصبر وأناة طوال سنوات وأنا أستحضر كل المسافة المتبقية. لا أغلق عيني عن كل ما تحقق، لا أتجاهل أن هذا الذي تحقق يشكل بدوره القاعدة الضرورية للمضي قدما في طريق البناء، مدركا أن الخط الناظمَ تصاعديٌّ في اتجاهه العام، رغم الارتجاعات الظرفية، خط يدعوني إلى المثابرة كي أساهم في عبور منطقة الشك التي تغذيها القوى المحافظة، كي يحقق المغاربة مكاسب حقيقية تغير حياتهم، تنتصر على المستفيدين من الريع بكل أشكاله والفساد مهما كانت مواقعه، وينعمون بضروريات الكرامة صحة وتشغيلا ومسكنا وتعليما... من أجل ذلك يحتاج المغرب إلى كل أبنائه المقتنعين بقيم الديمقراطية وأولويات التنمية وأفق الحداثة، بل هو يحتاج حتى لمن هم متلكئون في ذلك. يحتاج الوطن إلى كل رجاله ونسائه، بدءا من الملك وإلى آخر مأمور في رقعة الجغرافيا المغربية. في هذا السياق، لكل حزب أن يقرأ تاريخه كما يريد، ولينفع المغاربة بالدروس المستفادة من هذا التاريخ، إن هم أنصتوا إليه، وإن استطاع أن يقوم اعوجاجاته، فبه ونِعم، وليأت بالجديد الذي يبقى في الأرض بعد أن ينفع الناس. ليفعل ذلك كما أراد، لكنني أفترض أن أيا من الناس لن يستمع نهائيا لأي مَن يحتج بالماضي ويجتره ليرفض كل مساهمة في تشكيل المشهد الحزبي بما يسمح للمغرب أن يجيب على أسئلة الحاضر والمستقبل، فهذا الماضي يتحمل فيه كل منا جزءا من المسؤولية، كبر أم صغر. وعذرا من هؤلاء الذين يصمون آذاننا بصراخهم المحتكر للوطنية والديمقراطية، فالوطنية ليست حكرا على مرحلة تاريخية دون أخرى. الوطنية ليست حكرا على مرحلة يراد تحنيطها وجعلها مزارا يَجْمَعُ "القَيِّمُ" عليه أعطيات الزائرين في المساءات الكئيبة. الوطنية، بغير المعنى الشائع والمشيَّع له، ليست فترة وانتهت. بل هي إيمان وكفاح لا ينقطع، اسمه خدمة الوطن. ومن هذه الزاوية، فليس لأحد أن يحتكر الكلام باسمه، وإلا أصبح الأمر ينم، وراء الشعار البراق، عن حس عنصري كريه. هذا للوطنية. أما الديمقراطية، فهي مسار طويل، لا زلنا نبني صرحه، حجرا حجرا، جميعا وبلا استثناء، بعد أن تمكن جزْر التاريخ من تعرية كل من يدعي الاستئثار بالعروس لوحده. =============== وفي هذا السياق هناك لائحة تُرَّهات رائجة بكثرة ووفرة زائدتين، من نوع "سوف أغضب إذا لم أفز بالمراتب الأولى" أو "الفوز لي لأنني أنتمي إلي حزب الرعيل الأول من الوطنيين" أو "أنا الفائز حتما لأنني أنا من قدَّم ثمن الديمقراطية الباهظ في المغرب، ولا أفهم لماذا لا يفهم الناخبون ذلك" أو "أنا الموعود بالفوز لأنني عملت منذ البداية على الحفاظ على الملكية" أو "أنا حامل مشعل الاشتراكية منذ كان الحديث عنها محرما، فكيف لا أحتل المقاعد الأولى؟" أو "الفوز لي أنا ما دمت الأقرب منهم إلى التقوى والرحمان..." كل هذه التنويعات من العقليات قد عفا عنها الزمن، لأن أجيالا أخرى تطرق الآن أبواب التاريخ ولأن المواطن يطلب شيئا آخر بالمرة. إن المواطن يطلب من يقترح السياسات المناسبة ومن يقدم الحساب ويعتمد الشفافية ويستمر إذا اختاره الناخبون ويذهب لإعادة ترتيب أوراقه، أو ليرتاح من همِّ السياسة ويُريح، إن هُمْ رفضوه. يريدون من ينصت، يتفاعل، يتواضع، يقتصد في الإنفاق، يعمل بصبر وأناة، يستحضر بؤس البائسين ويشعرهم أنه ليس آلة انتخابية جامدة، بل منهم وإليهم ويحمل هموم البلد قبل همّ حزبه. يقول سأفعل ويفعل. ويقول سأمتنع فيمتنع. يقول "نعم" صريحة حين يقول "نعم"، ويقول "لا" حين يتحتم قول "لا"، ويتحمل مسئولية قوله وفعله. والرجاء أن ننتهي من قصة: ربما الملك يريد. ربما الملك لا يريد. خذوا الملك بحسب ما يقول صراحة. هذا الملك الذي صوت بنعم على الدستور الجديد وهو اليوم يقول بالواضح قبل المرموز: تحملوا مسئولياتكم كلها وحددوا سياساتكم وطبقوها واحتكموا إلى منتخبيكم وناخبيكم وكفى من التلكؤ في الانصياع إلى ما يتطلبه تطور المجتمع، فربما كان ذلك مفهوما في زمن آخر، يبدو اليوم كزمن سحيق في القدم. إن المواطن يريد أن يرى أمامه مسئولين لا يهابون تحمل مسئولية أفعالهم، ولا يتأخرون عن المواعيد ولا يحكون الخرافات فقط من أجل الاستمرار في مواقعهم. يقول المغاربة على سبيل المقارنة حين يتعلق الأمر بالاستقامة "اللهم قاسح ولاَّ كذاب"، لأنهم يدركون أن "القسوحية" يزول ألمها في لحظة، أما الكذب فهو يُطَمْئِن فترة وجيزة، لكنه مثل الحجر المدفون، يكسر المحراث. من أجل الوصول إلى ذلك لا بد من عمل وسط المشهد الحزبي في الغالب الأعم. لا بد من إعادة نظر عميقة في كل شيء. ربما يتعلق الأمر في العمق بتجاوز البنية النمطية المبنية على ثنائية الخاصة/العامة، التي لا تخلق سوى الأتباع المنصاعين في أحسن الحالات أو المتملّقين الانتهازيين في أسوأها. ولا تفي بدورها في تجديد النخب وتأطير المواطنين وتطوير الفكر والممارسة السياسيين. لا بد كذلك من عمل داخل المجتمع وهيئاته المتعددة وأخص منها النقابات ومنظمات المجتمع المدني. وهنا لا بد من شيء من التدقيق. إنني أعني المجتمع المدني الذي يضع عمله في سياق بناء الديمقراطية بشكل تشاركي، لا "المجتمع المدني" الذي يدعي "قدسية" مزعومة وينصب نفسه على منبر إعطاء الدروس. المجتمع المدني الذي يطالب المسئولين بإعطاء الحساب عن تدبير الشأن العام - وهذا من جملة أدواره – ويكون السَّبَّاق إلى تقديم الحساب عن تدبيره هو، في إدارة الاختلاف داخل جمعيته، وفي التصرف في المال العام، وفي الالتزام بالرسالة التي يحملها ويدافع عنها. لا بد كذلك من علاقة بالمواطن حيث هو. أتصور أن يتم اعتماد أساليب تسمح بذلك وتخرجنا إلى غير رجعة من "ألمعية" المسئول الحزبي "المحترم" إلى زمن التفسير البيداغوجي الصبور. ورُب مُدَّعٍ بأن هذه الأمور صعبة على المواطن العادي. أبدا. ليس الشأن العام وقضاياه مهما تعقدت حكرا على الخبراء. هذا غير صحيح. يجب أن نجد اللغة - ولو اخترعناها - التي تبسط الأمور لفهم المواطن. وإذا لم يفهم المواطن ما الذي يجعل العملة الصعبة أقل أو أكثر قيمة، وما هي الاشكالات التي يطرحها صندوق المقاصة، وماذا يعني عمليا الفرق بين نسبة نمو في حدود 5 أو 6 في المائة، فالمسؤول هم النخبة الحزبية لا الشعب... هذه ليست سوى خرافات لاحتكار سلطة الكلام في السياسة وإجبار المواطن على البقاء حيث هو، في موقع المتفرج على مصيره عوض المشاركة في صنعه. لا خروج من أزمة السياسة في بلادنا بغير هذه الرؤيا وهذه الثقافة. صعب. لكن لا مفر منه. إن الناس البسطاء في نظري، يظلون هم المرجع، غير أنه للأسف كم من سلوكات داخل النسق الحزبي تتسم بالكبر والتعالي تجاه هؤلاء، وتؤشر إما إلى نية "للاستعمال" أو الوصاية أو الأبوية. لا ترى إلى ما ينتشر تحت عتبتها، ويظل انتباهها مشدودا دوما إلى "فوق". نحتاج إلى السياسيين والأحزاب، بهذه الشروط والمواصفات، بالمراقبة المواطنة، لا بدونها. ويحضرني هنا تصريح سديد لزعيم سياسي مغربي سابق، حين صرَّح في سياق عمل هيئة الإنصاف والمصالحة: إن الدولة تقوم اليوم بنقدها الذاتي، ولا مهرب للأحزاب من القيام هي الأخرى بمثل هذا العمل. من هذه الزاوية يبدو التحول الجاري داخل حزب الأصالة والمعاصرة تحولا يفتح أفقه على وعي عميق بمتطلبات المرحلة المتمثلة في إعادة الثقة وتجديد النخب والانفتاح على زمن سياسي جديد. وإذا ما كانت هناك أخطاء في هذه التجربة وهي موجودة بالفعل، وجب تقويمها عن طريق قراءتها من زاوية العرض السياسي والتنظيمي والفكري الأصلي. واليوم ونحن بإزاء الاستحقاق المقبل، يمكن القول أن الحزب قد كسب هذه الجولة في إعادة القاطرة إلى سكتها، لكن العمل المتبقي أهمُّ بكثير مما تم إنجازه. أما التحالف من أجل الديمقراطية، فهو سبيل من سبل البحث عن مخرج لأزمة البنية الحزبية التي تنتمي في جزء كبير منها للماضي باعتبارها انعكاسا للوعي والممارسة السياسيين السابقين. غير أن قوة هذا التحالف تكمن أساسا في النموذج وبذرة الوعي المتحقق بدقة المرحلة، أكثر مما تكمن في مكوناته في حد ذاتها، وتكمن في الجرأة على الفعل السياسي المشترك في حقل عانى طويلا من التشتت والبلقنة. وتكمن في تجسيد مقولة تواري الإيديولوجيا ليتحقق الفعل. ولذلك يستشيط خصوم هذه الخطوة غضبا ويخرجون عن طورهم إلى حد ارتكاب زلات اللسان التي تفضحهم وتفضح ولعهم بما تحت أحزمة الشابات. لأنهم يعلمون أن انكسار المنطق العتيق للاصطفافات السياسية يهز منطق وجودهم. التحالف، الذي يظل مفتوحا أمام قوى أخرى وبصيغ متنوعة، يصل اليوم إلى الاقتناع بأن السياسة هي فن الممكن أتعلق الأمر بتقدير الموضوع (قوى المجتمع) أم بتقدير الذات (الأداة أو الأدوات الحزبية). فحين يصبح المرتجى ممكنا بصيغة ما، ولو فاجأتنا هذه الصيغة، يجب تجسيد الممكن ولو كان أقل مما نأمل، وذلك خير من ألا نحقق أي شيء. لقد كان الأمل معلقا على أن تتوسع التكتلات السابقة لتشمل بالتأكيد فاعلين آخرين، وتعطي نموذجا لتجاوز البلقنة، غير أن هذا لم يقع وظل الإحجام عن ذلك غير مفهوم بالمرة. إن القوى المعنية بالزمن السياسي الجديد، التي تضع الوطن فوق كل اعتبار: القوى الديمقراطية، الحداثية، اليسارية المنفتحة، الشبابية، النسائية، المثقفة... معنية بهذا التحول وهذه التحديات. أما الذين يرددون بأن الحل يكمن في حلّ "أحزاب الملك"، فيحسن بهم أن يستثمروا مجهوداتهم لا لنقد الآخرين من موقع الأستاذية المتعالية، بل من أجل بناء "أحزاب الشعب" التي لم تجد فيهم، حسب ما يبدو، ما يكفي من الإرادات ومن ينفق من وقته عليها بصبرٍ حتى يشتد عودها. مرحبا آنئذ، ولتهمِّش آنذاك "أحزابَ الملك". وفي انتظار ذلك رجاءً ألا يتم تعليق العجز على "العقل المدبر" الذي يُفشل كل طموحات المناضلين، فهو يُبَوَّأُ بذلك مكانة كبرى، لا تضاهيها إلا إرادة التاريخ ...
إن التحدي الأكبر أمام القوى المعنية بالزمن السياسي الجديد تتمثل في جعل الولاية المقبلة ولاية استعادة الثقة في مبدأ تدبير الشأن العام في عين المواطن وتحمل كامل المسؤولية في ذلك، أوُجدت تلك القوى في الأغلبية أم المعارضة. ذلك أن التركة السياسية المبنية على رمي المسؤولية على الآخر والتهرب من تحمل نتائج تدبير الشأن العام بمبرر أن القرار ليس في يدنا، قد فات أوانه. وكل الطبقة السياسية اليوم أمام امتحان الوقوف والسير على قدميها لا على أقدام الآخرين، وعليها أن تتحلى بفضيلة الإقرار بالعجز حين تعجز وفضيلة الاعتراف للآخرين، عند اختيارهم من طرف الشعب، بأحقيتهم في تدبير الشأن العام، طبقا للدستور ولا شيء غير الدستور. هكذا يمكن ترسيخ الثقة في الفاعل السياسي أينما وضعته صناديق الاقتراع. نطمح إلى تحمل مسؤولية الشأن العام من أجل تطبيق برنامجنا وإعطاء دفعة قوية لإنجاح محطات جديدة في البناء الديمقراطي التنموي، هذا شيء بديهي. لكن الأهم منه هو التالي: من أجل ترسيخ البيداغوجيا الديمقراطية لا يهم في المقام الأول من هي القوى السياسية التي ستصل إلى سدة الحكم. ما يهمني حقيقة اليوم هو الاحتكام للدستور الذي يضمن صلاحيات الأغلبية وحقوق المعارضة. هذا هو الامتحان الحقيقي. إن تجاوز التربية السياسية القديمة مسألة لا تهمُّ التزام الفاعلين، بل تهم استقرار المغرب ومستقبله. ولأوضح أكثر: لقد مضى الزمن الذي كان يتيح للسياسيين بأن يحكوا للشعب أي شيء ويبرروا أي شيء، وأصبح المواطن أكثر يقظة بما لا يقاس. المغاربة طيبون ولا يطلبون أكثر من الثقة بالآخر، لكنهم يغضبون - وهم في ذلك على حق - عندما يشعرون بغياب "المعقول"، ومن هنا مسئولية الطبقة السياسية، فإما أن تتخلى عن عتاقتها وإما سوف يتجاوزها الزمن القريب الآتي. وآمل آنذاك ألا يكون الثمن باهظا.