يتمنَّى الصالحون من أبناء هذه الأمة دائمًا أن يشاهدوا أمتهم في مقدمة الأمم، وأن يسعدوا -وتسعد الدنيا معهم- بعزِّتها وقوّتها ومجدها.. لكن مع أنَّ الأمنية واحدة، إلا أن الكثير يختلف في طريق الوصول إليها. إن التغيير والإصلاح والنهوض كلُّها غايات كبرى تحتاج إلى وسائل محددة، ومعايير ثابتة، ولقد رأينا في صفحات القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يضع أيدينا -بوضوح- على مفاتيح التغيير وآليَّات الإصلاح، ورأينا كذلك في صفحات التاريخ وقصة أمتنا ما يوضح لنا بدايات الطريق وعلاماته وطبيعته.
إن التغيير دومًا يأتي من القلة المؤمنة!
إن الحديث عن الكثرة في القرآن الكريم غالبًا ما يأتي ليصف الحالة السيئة والمتردية التي تكون عليها الكثرة، مثل قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، ومثل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}[غافر: 61]، ومثل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]، وهكذا.
بينما الحديث عن المؤمنين والمصلحين يأتي دومًا بصيغة التقليل، مثل قوله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40]، ومثل قوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، ومثل قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص: 24].
إن معظم الناس لا يقبلون بالتضحية والبذل وفقدان كل شيء عزيز في سبيل إعلاء كلمة دينهم وأمتهم، قد يكونون صالحين يريدون أن يحيوا حياة آمنة دون مصاعب ولا مشاكل، ولكنهم غير مستعدين لأَنْ يفقدوا مالهم أو ديارهم أو أولادهم أو حياتهم من أجل خطوات للأمام.. إن هذه التضحيات الكبرى تحتاج إلى رجال ونساء من طراز خاص، وهو طراز قليل عزيز، ولكنه مع قِلَّتِه مُؤَثِّرٌ للغاية، ولو وُجِد هذا القليل في شعبٍ فإنَّ التغيير يحدث، والإصلاح يتم، حتى ولو كان معظم الشعب غير عابئٍ بحمل قضايا الأمة وهمومها!!
وصفات هذه القلة المؤمنة واضحة ومعروفة في كتاب الله عز وجل، وفي سُنَّة الرسول صل الله عليه وسلم، وفي تاريخ الإصلاح في أمتنا الحبيبة.
إنهم مُخْلصون تمام الإخلاص في عقيدتهم، يُحبُّون الله ويُحبّهم الله، يتوجَّهون إليه سبحانه وتعالى بكل أعمالهم وأقوالهم. إنهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بشرع ربهم، لا يقبلون بتبديل أو تحريف، ولا يتنازلون عن كبيرة ولا صغيرة، وهم مُعَظِّمُون للقرآن والسُّنة تمام التعظيم، ولا يحتكمون في حياتهم إلا إليها.
إنهم مُستعدون للبذل والتضحية من أجل عقيدتهم ومبادئهم، دينهم عندهم أغلى من كل شيء، وهم يعلمون تمام العلم أن الطريق شاق، وأن المصاعب كثيرة، وأن التضحيات هائلة، ومع ذلك فهم يستهينون بكل هذه التحدِّيات؛ لأنَّ عيونهم على الأجر العظيم الذي يعطيه الله عز وجل لهذه القلة المؤمنة. الدكتور راغب السرجاني