الكتاب رمز علو همة الشعوب ورفعة شانها وطريقة التعامل معه عنوان تقدمها أو تخلفها، فتكريمه وتقديسه كمصدر للعلم والمعرفة معيار حقيقي في الحكم على تحضر الأمم في حين أن التنكر له ولقيمه وإنزاله المنزلة التي لا ترقى به كآلية للتقدم والتطور سمة من سمات دول العالم الثالث في عصرنا بما فيها المغرب، الذي شيد خلال عصوره الذهبية صرح الحضارة المغربية بفضل احتفاءه بالكتاب وتكريمه، فمدينة مراكش التي عاصرت أزهى حقبه التاريخية وكانت عاصمة الفكر والسياسة لمجموعة من الدول التي تعاقبت على حكمه، هاهي اليوم تشهد إحدى أحلك وأصعب الفترات التي يمر منها الكتاب، من خلال واقع الكتبيين بباب دكالة الذي أضحى في وضعية يرثى لها تطرح أكثر من علامة استفهام تزامنا مع اليوم العالمي للكتاب. إرث ثقيل وحاضر مخجل الموروث التاريخي للكتبيين بباب دكالة بمراكش ضارب في القدم ويمتد إلى ما قبل قيام الدولة الموحدية )668ه-541ه) حيث تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن تسمية جامع الكتبيين المعروف حاليا ''بمسجد الكتبية'' –الذي بني على أنقاض قصر الحجر وجامع الطوب المرابطيين سنة 1147م/541ه في عهد الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي الكومي – قد اشتقت تسميته من الكتبيين والنساخين والخطاطين الذين كانوا يمارسون أنشطتهم في ساحة قريبة منه، فمعلمة الكتبية بامتدادها التاريخي والحضاري ارتبطت وظيفيا بهذه الفئة من الكتبيين الذين كانوا يؤثثون جناباتها بكم هائل من الكتب والمراجع من مختلف التخصصات والتشعبات المعرفية، ويضفون على مجالها رونقا خاصا بعبق فكري وعلمي يعكس تجليات السمو الحضاري للساكنة المراكشية خلال فترات زمنية سابقة. فأحفاد كتبيي الأمس الموحدي هم اليوم غير مرغوب فيهم داخل أسوار المدينة العتيقة، بعدما استقرت بهم سلسلة الترحيلات العشوائية أمام سور باب دكالة بالقرب من المحطة الطرقية للمسافرين، الذي يعتبر ملاذا للمتشردين واللصوص والمعربدين والعاهرات، وغير بعيد على مكان لتجميع الأزبال والنفايات، تنبعث من جنبات السور رائحة البول النتنة التي تزكم الأنوف مثلما تزكم رائحة الاهمال وسوء التدبير واقع الكتاب والشأن الثقافي بالمدينة ، ورغم صعوبة ظروف الاشتغال هذه مازال سوق الكتبيين يوفر لمرتاديه من الباحثين والأساتذة والطلبة والتلاميذ، كتبا قيمة ومراجع مهمة في البحث والدراسة والتثقيف بأثمنة في متناول الجميع. مسلسل المعاناة الذي لم ينته بعد.. تعود بداية معانات كتبي المدينة الحمراء حسب “محمد قرنيفة” الأمين العام ل”جمعية الوعي للكتبيين” إلى فترة الثمانينات ، حيث تم ترحيلهم من ساحة جامع الفنا سنة 1980، ثم من عرصة البيلك سنة 1983، مرورا بجنبات المقبرة القريبة من مسجد الكتبية – رسالة مشفرة بالرغبة في اقبار الكتاب والكتبيين – وصولا إلى سوق الازدهار سنة 1986، الذي سيتم هدمه فيما بعد بتاريخ 23 ابريل 2004 الذي تزامن مع ذكرى اليوم العالمي للكتاب في مفارقة غريبة من نوعها، ففي الوقت الذي تحتفي به الأمم كرمز لرقي الحضارة العالمية وتمدنها قام أوصياءنا على هذا السوق بهدمه غير مكثرتين بصيحات العديد من الجمعيات التي حذرت من تبعات هذا السلوك وانعكاساته السلبية على ذاكرة الكتاب في المخيال المجتمعي، غير أن هذه الصيحات والتحذيرات ستذهب مع أدراج الرياح ليجد الكتبيون أنفسهم على أرصفة الشوارع لمدة سنتين كاملتين عرضة لمختلف أشكال التهديدات الطبيعية والبشرية، قبل أن يستقر بهم المقام أمام سور باب دكالة قرب المحطة الطرقية للمسافرين في أكشاك صغيرة الحجم لا تتجاوز مساحتها 1.5 متر طولا و1.5متر عرضا، لا تستجيب لمعايير الجمالية و لشروط البيع المنظم، حيث تظهر على شكل براريك عشوائية تعكس حالة الهشاشة والاهمال مسيئة بذلك لرمزية الكتاب ولقيمته العلمية والمعرفية. ويذكر مجموعة من الكتبيين أن سوق الازدهار كان سوقا نموذجيا مخصصا لبيع الكتب غير أن السلطات أدخلت مجموعة من باعة الخضر والفواكه، فقبل التحاقهم بهذا السوق توصلوا بنسخة من قرار جماعي يقضي بإعطائهم محلات كتعويض عن تلك التي كانت لهم بساحة جامع الفنا مع إعفائهم من واجبات الكراء، لكن بعد مرور سنتين فوجؤوا برسالة من المجلس البلدي يخبرهم برفع دعوى ضدهم يطالبهم بمستحقات سنتين من الكراء، مستعملا مختلف أشكال التهديد في حالة الامتناع عن الأداء، هذا القرار أثر بشكل سلبي على نمط عيش أسر الكتبيين لارتفاع قيمة الكراء المالية. قام فريق عمل الجريدة بزيارة لسوق الكتبيين في يوم تزامن مع تساقط الأمطار فكان المشهد صادما، حيث كانت جل الأكشاك مقفلة والبعض منها يعاني من أثار تسرب المياه، فيما كانت توجد أمام بعضها الأخر برك مائية مليئة بالنفايات تعرقل حركة السير وتحول دون وصول الزبناء إلى الكتب، وفي هذا الإطار يؤكد “محمد انوس” عضو “بجمعية الوعي” أن جل الكتبيين لا يشتغلون بشكل مستمر خلال فصل الشتاء خوفا من تعرض الكتب للتلف، كما أن ظروف الاشتغال تزداد صعوبة خلال فصل الصيف نتيجة ارتفاع درجات الحرارة بالأكشاك المصممة من الحديد، وهو ما يؤثر سلبا على سلامة الكتبي الصحية وعلى جودة الكتب، وأضاف نفس المتحدث أن فترة ازدهار البيع خلال العام لا تتجاوز الشهرين الأولين من فترة الدخول المدرسي، مسجلا تراجع الإقبال على اقتناء الكتب خلال العقد الأخير الذي انعكست أثاره بشكل سلبي على دخلهم الشهري الذي لا يغطي في أغلب الأحوال احتياجاتهم الضرورية تزامنا مع الارتفاع الصاروخي للأسعار .
حاولنا الاتصال بالمسؤولين بالمجلس البلدي غير ان كل مرة نصادف على لسان ديوان الرئيسة أو سكرتير الكاتب العام أن أعضاء المجلس في اجتماع، وتنقلنا بين مختلف المصالح التي لها ارتباط بالموضوع فكانت كل جهة تحيلنا على جهة أخرى مسؤولة في تملص واضح من المسؤولية، وهذا ليس بجديد حيث ذكر أعضاء جمعية الوعي للكتبيين أنهم قاموا بمجموعة من المراسلات ورفعوا مجموعة من المطالب و عددا من المشاريع إلا أنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة تذكر، وضلوا رهائن سياسة التسويف والوعود التي لم تتحقق. سؤال التنمية الثقافية... تعيش بلادنا خلال الفترة الأخيرة على ايقاع أدبيات الاصلاح من خلال الدستور الجديد الذي يراهن عليه الجميع لتحقيق المصالحة مع الذات وتدشين مرحلة جديدة بأفاق وتطلعات راهنية ومستقبلية لمواكبة تحديات الألفية الثالثة و تشييد صرح المغرب الحداثي والمتقدم، لكن هذه الأماني والانتظارات ستتحول الى وهم سراب إذا لم تواكبها إرادة حقيقية في بناء مجتمع المعرفة الذي يمكن من خلاله جس نبض إرادة الإصلاح الحقيقي من عدمه، ففي ضل غياب أوراش ومخططات تنموية ثقافية متوسطة وبعيدة المدى وفي ضل واقع يتسم بتهميش ثقافة الكتاب وسلوك القراءة والإطلاع، لا يمكن بأي حال من الأحوال استجلاء معالم الإصلاح الشمولي الذي يقوم في إحدى أبجدياته على فعل القراءة لتأهيل وتكوين الموارد البشرية التي تعتبر الثروة الحقيقية للمغرب. على الرغم من أهمية الأوراش التنموية التي انخرطت فيها البلاد مؤخرا فإنها في غياب مقومات التنمية الثقافية -التي يعتبر الكتاب أحد ركائزها- لا تعدو أن تكون حسب بعض الخبراء والدارسين أوراشا مبتورة باستراتجيات محدودة الأفق لا يمكن ان يتوسم من خلالها بوادر الإقلاع الحضاري. ضرورة تحقيق الإنصاف والمصالحة مع الكتاب والكتبيين إن وضعية الكتاب والكتبيين بمراكش وبالمغرب عموما، تستدعي متابعة قضائية لمساءلة من كانت له اليد فيما ألت إليه أوضاعهم كمطلب أساسي لهذه الفئة المتضررة، ورد الاعتبار إليهم كنسق إنتاجي مساهم في الدورة الاقتصادية، وإنصافهم باعتبارهم رمزا من الرموز الحضارية التي سجل بها الأجداد دخول ثقافتنا المغربية سجل التاريخ والتراث العالميين، فساحة جامع الفنا التي اعتبرتها منظمة اليونسكو تراثا حضاريا إنسانيا عالميا كان الكتبيون أحد أقطابها ، فلماذا تم استبعادهم دون غيرهم وطردهم من مكانهم الأصلي خارج أسوار المدينة العتيقة ؟ هل الكتاب أقل شأنا من (الطعريجة و الدربوكة )؟ أم أن هناك جهات متوارية خلف الكواليس تدير هذا الوضع المتشردم حفاظا على مراكزها ومصالحها الشخصية؟