خرجت إلى الوجود بعد مخاض عسير حكومة السيد عبد الإله بنكيران، لتؤشّر على ميلاد أول حكومة في ظلّ الدستور الجديد، وأول حكومة فرضها حراك الشارع، وأول حكومة تحمل طابع الانقلاب المتحكّم في خيوطه، بعد أن قاربت نسبة أصحاب المصباح نسب الإسلاميين في تونس ومصر، وأول حكومة تابع تشكيلها وسيتعقّب خطاها المواطنات والمواطنون على اختلاف أعمارهم وسحناتهم وتطلّعاتهم. وهي بذلك ودون أيّ شكّ أول حكومة تؤشّر على العهد الجديد وتقطع مع فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، ومع مفاهيم ومصطلحات سياسية، غدت اليوم في حكم التاريخ، مثل: “الوطنية” و”التاريخية”... وسيكون على العدّاد التاريخي أن ينطلق من الصفر، لتيسير ميلاد أجيال جديدة من السياسيين والفاعلين ومن المقاربات والمسلكيات الاعتبارية التي ستحكم انخراط المغرب الحديث في منطق التحولات العربية والإقليمية والدولية، وميلاد فصل تاريخي ذي مرجعيات غير تلك التي سادت وبادت مع الألفية الثالثة. لا يمكننا في هذا الوقت الوجيز، الذي تلا الإعلان عن هذه الحكومة، أن نحاكم النوايا وأن نرجم بالغيب فيما يخصّ مصيرها ومستقبلها ومدى استجابتها لتطلّعات الشعب المغربي وقدرتها على ذلك. وإنّما سيكون بإمكاننا قراءة بعض السّمات الدّالة التي رافقت تشكيها وبرزت من خلال طبيعة مكوناتها البشرية والسياسية. وهي في نظرنا مؤشرات دالّة على صدقية النوايا المتقدّمة التي عبّر عنها الدستور الجديد، وامتحان عسير لتأكيد ذلك. بالإضافة إلى الاستدلال على المنهج العملي والفلسفي الذي حكم مبادرات الملك محمد السادس وتصوّره الفعلي لتحديث الحياة السياسية الوطنية، وامتحان التوجّهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي ينبغي أن تنبثق من مكوّنات النخب الوطنية، وتسم بذلك المسار السياسي المقبل. إن ما يمكننا تسجيله بعجالة كبيرة هو البصم على أربع سمات بارزة، يمكن أن تغدو عناوين بارزة لمرحلة العهد الجديد، بالفعل والمنهج والطريقة. تشكيل حكومة ظلّ وازنة، ضمّت أغلب الأسماء التي وسمت طبيعة توجّه الملك ومركز ثقته. وهو أمر يدفع بالمراقب إلى اليقين من أنّ فترة الملك الذي يسود ويحكم ما تزال مستمرّة إلى حين، وهي الآن أكثر وضوحا من ذي قبل من حيث أسماؤها وطبيعة المسؤولية التي سيتحمّلونها داخل دائرة الملك وفي محيطه، كما أنها تحمل دون أيّ ميل إلى التمويه أوالسرّية كل ألوان الحكومة الحقيقية التي ستتحمّل أعباء الحكم المصاحب أو الموازي لحكومة الاقتراع والبرلمان، أو لنقل حكومة الخبراء الذين يشتغلون على مصلحة الدولة، بعيدا عن رهبة الانتقام الانتخابي والعقاب السياسي. إنّنا ونحن نقرّ مبدئيا ببعدنا النسبي عن المنطق الديمقراطي لنعتبر أن مبرّر هذا الاحتراز غير المسبوق لا يمكن إلاّ أن يدلّ على حرص الملك ومحيطه على عبور هذه المرحلة التاريخية الشعواء بأقلّ الخسائر الممكنة، وعدم فسح أيّ إمكانية للفشل، وشحذ كل الإمكانات الدستورية وغيرها لمعالجة الحاجات الملحّة للمواطنين وتلبية الحدّ الأمكن من تطلّعات المغرب الوطنية والدولية. لأن فشل الحكومة أي حكومة في مثل مجرى الهواء الأعمى الذي تعبره منطقتنا، لن تؤدّي فاتورته حكومة أو قوة سياسية بعينها، وإنما سيأتي لا قدّر الله على الأخضر واليابس. اقتصار هذه الحكومة على استوزار امرأة واحدة فقط، وكأنها تمتثل للقول الصادق: “وإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة”. وذلك تراجع كبير عن منهج متقدّم ومنصف دأب الملك محمد السادس على جعله لا يقلّ في كلّ الحكومات السابقة عن عشرين في المائة. إذ كان بالإمكان الالتزام على الأقل بنسبة الكوطا التي توافقت عليها القوى السياسية الوطنية في التمثيلية النسائية داخل البرلمان والجماعات المحلية. وسيكون لذلك ما بعده، وكبير الأثر على الوضعية النسائية الوطنية، ومن المنتظر أن يشهد الوضع نهوضا نسائيا مشروعا ضدّ التهميش التاريخي الذي عانين منه منذ حقب ودهور، وضدّ حكومة محافظة أو أُريد لها أن تكون كذلك حلّت تطلّعات النافذين فيها على حساب كفاءات نسائية، موجودة بالفعل داخل العدالة والتنمية والاستقلال والتقدّم والاشتراكية... الإصرار على بقاء التوجه الملكي في تصريف الشّأن الديني، في يد الأستاذ أحمد التوفيق، من داخل حكومة بنكيران، وليس خارجها، ومن غير تكليف مستشار يدبّر شؤونها في حكومة الظّل. إذ، ليس من مصلحة القصر والناس أجمعين، أن توضع مسألة مرجعية إسلام الأمة وإمارة المؤمنين ووحدة المذهب في يد فصيل بعينه، قابل أن يطوّره إلى أداة انتخابية أو تعبوية أو طائفية في أيّ وقت وحين. سيادة التحكّم القبلي والبعدي في تعيين وزراء الحكومة. عنوان ذلك إقصاء عدد كبير من الأسماء التي اقترحتها أحزابها، وإنزال أسماء أخرى كانت إلى وقت قريب مسؤولة سياسية وحكومية باسم أحزاب غدت اليوم في المعارضة. فهل يمكن إرجاع ذلك إلى حرص القصر على توفّر سحنات ومقدرات في وزرائه لا تعتبرها الأحزاب السياسية. أم أن مسلكيات أحزابنا ما يزال يحكمها مبدأ الترضيات الذاتية والمصلحية، ولا تسيرها مبادئ صنع وانتقاء رجال ونساء الدولة. يمكن أن نستبشر خيرا على الرغم من كل ما قيل وما يمكن أن يقال. لكن علينا أن نتيقّن من أن العهد الجديد قد بدأ بالفعل، وأن ما ينقصنا هي أحزابه ورجاله ونساؤه. مامون المريني