هذا السؤال يطرح نفسه بإلحاح بمناسبة استعداد المجلس الأعلى للحسابات لنشر تقريره المرتقب، بحيث أن التقرير لم ولن يؤدي الى أي متابعة قضائية في حق كل من ورد اسمه في اختلاس أو نهب أموال أو غيرها من الجرائم المالية والاقتصادية التي يُعدم مرتكبوها برصاصة مع تحميل أسرة المتهم مصاريف عملية الاعدام. يحدث هذا في الصين بالطبع. أما في المغرب، فلا يتحرج كل من ورد اسمه في تقرير المجلس بادعاء أنه عرضة لتصفية حسابات أو ضحية مؤامرة. هذا إن لم يذهب بعيداً ويعتبر نفسه باني المغرب ورائد نهضته وغيرها من الانجازات الوهمية التي لا يتردد في نسبها لنفسه بوقاحة نادرة ندرة الماء في الصحراء وأنه يستحق التكريم عوض الاتهام باختلاس أموال. حجم الأموال المختلسة بالمليارات، أي ما لو تم صرفه بطرق سليمة لكان المغرب دولة متقدمة وعصرية بكل ما للكلمة من معنى وليس مجرد شعار كما تردد أبواق الاعلام الرسمي. فلا غرابة أن يحتل المغرب الرتبة الثالثة افريقياً في تهريب الأموال الى الخارج حسب تقرير منظمة السلامة المالية العالمية. ويشير نفس التقرير الى تزايد وتيرة تهريب الأموال بنسبة تفوق 11% سنوياً. لم يعقب "النظام المغربي" على التقرير بفتح تحقيق مستقل ونزيه في الواقعة وإنما صدرت تصريحات من مسؤولين مشككة كالعادة. ويعتبر التشكيك بمثابة أسطوانة مشروخة يرددها المسؤولون عند مناسبة صدور أي تقرير يعري واقع الفساد أو يضع المغرب في رتب مخجلة. وكل ما يرد في أي تقرير يعكس الواقع بكل تجلياته وأي مسؤول يعرف ذلك، لكنه لا يريد أن ينظر إليه. فالمغرب تحول بفضلهم الى جهنم يصعب العيش فيه. فهناك غياب كلي للدولة في تحمل مسؤولياتها عدا مسؤولية القمع التي لا تتورع في استخدامه لأتفه الأسباب واطلاق النار على متظاهرين سلميين. ناهيك عما ينجم عن هذا التدهور من انتشار واسع للجريمة واستهلاك للمخدرات والكحول جهارا نهاراً والتسول والدعارة الى درجة الى أن المغرب تحول الى ثاني وجهة عالمية للسياحة الجنسية وارتفاع نسبة عدد المصابين بالأمراض العقلية وفقدان الأمل في العيش الى غير ذلك من الآفات التي تعكس مدى استفحال مرض النظام المغربي. وعليه نطرح السؤال لماذا يتم اصدار تقارير لتظل حبيسة الرفوف؟ جميل أن يقوم "جهاز رقابي" بتدقيق كافة حسابات المؤسسات العمومية والشبه عمومية وانجاز تقرير بهذا الخصوص. لكن ماذا بعد؟ مع العلم بأن التقرير لا يغير شيئاً في الواقع المتعفن فساداً بل بالعكس يفتح شهية الفاسدين والمفسدين على مزيد من نهب المال العام لطالما أن القانون لا يطالهم. إذن اصدار كذا تقرير موجه بالأساس للاستهلاك الخارجي وليس للضرب بيد من حديد على يد لصوص المال العام. ما يهم النظام هو إعطاء اشارة للخارج بأنه بلد مؤسسات وأن هناك رقابة مالية في المغرب الى غير ذلك من الشعارات التي يشنف بها الاعلام الرسمي أسماع الشعب صباح مساء. في أحسن الأحوال تتم أحياناً إقالة متورط في أعمال نهب مال الشعب وهو اجراء مخجل بالنظر الى حجم الجريمة المقترفة أو التضحية ببعض أكباش الفداء من الموظفين البسطاء الذين لا يقومون في الواقع إلا بتنفيذ أوامر رؤسائهم. ما هو مطلوب من "النظام" ليس إقالة ناهبي المال العام المعروفين لدى القاصي والداني وإنما استرجاع أموال الشعب أولاً وردها إليه ثانياً اذا كان النظام عاجز عن استثمارها في مشاريع لخلق فرص عمل لملايين العاطلين وإنزال أقصى العقوبات بهم. هذا اذ كان يعتبر نفسه يدير دولة ذات قانون ومؤسسات وليس ضيعة خاصة تتعرض لكافة أشكال النهب والاستغلال غير الشرعي. إن عدم تفعيل القانون لملاحقة كل من يثبت تورطه في اختلاس أموال الشعب يطرح علامة استفهام حول شعارات تخليق الحياة العامة وانخراط المغرب في محاربة الفساد لأن ما يحصل على أرض الواقع يناقض كلياً ما يتفوه به المسؤولون ربما لذر الرماد في العيون. إن الطريقة المتعامل بها مع كذا تقرير هي احتقار للنظام نفسه ودليل على ضعفه بعجزه عن تحريك المتابعة القانونية في حق أناس يعتبرون أنفسهم دولة قائمة بذاتها. ومعلوم أن الملك يتمتع بصلاحيات واسعة بموجب الدستور على علته فلماذا لا يوظفها في متابعة هؤلاء اللصوص؟ بالنسبة لنا تعني عدم متابعتهم أنهم أقوى منه. فهل عباس الفاسي مثلا أقوى من الملك؟ السؤال الثاني الذي يطرح نفسه أي مصلحة يخدم اصدار كذا تقرير؟ من الصعب الاجابة على هذا السؤال. لكن الأكيد أن ابقاء ما صدر حبرا عل ورق رغم ما يكلف من أموال تُقتطع من جيوب دافعي الضرائب لا يخدم في شيء مصلحة النظام ويذكي نار الحقد في نفوس أغلبية الشعب التي تعيش جحيماً حقيقياً في وطنها. سيكون أحسن لصورة المغرب أن يتم وقف إصدار أي تقرير مستقبلا ويُعفى قضاة المجلس الأعلى للحسابات الموقرة من هذا العبء. إن امتناع النظام عن متابعة هاته القطط السمان التي اغتنت على حساب غالبية الفقراء والبؤساء من الشعب يدل على غياب الرغبة السياسية في إنشاء دولة قانون فعلية ويعطي الدليل بالملموس بأن لا فرق بين النظام ولصوص المال العام. فمفروض في نظام وطني وديمقراطي كما يدعي بهتاناً أن يحمي أموال الشعب من جشع هؤلاء وليس التستر عليهم وترقيتهم. عندما كنت طالبا في الجامعة كنت أقرأ دائما بيانات الطلبة القاعديين وقتها تلفت انتباهي عبارة قوية هي : النظام اللاديمقراطي واللاشعبي واللاوطني. عبارة كنت دائما أرددها في نفسي خوفا من آلة القمع التي تتربص بالمناضلين والأحرار النزهاء وليس مناضلي الأحزاب المغربية الانتهازيين بدون استثناء، بعدها استوعبت جيداً أنها تنطبق على "النظام المغربي" الذي يدير ما يسمى ب " شبه دولة" لأني ما يديرونه يشبه الغنيمة التي يتلاكب عليها المسؤولون للفوز بحصتهم. من المفروض في الدولة بموجب العقد الاجتماعي المبرم شفاهياً بين الحكام والمحكومين أن تُوفر لمن يعيشون تحت سقفها الحد الأدنى من مقومات العيش. وصف الدولة العصري كما هو معروف لدى الدول الغربية وكما يعرفها الفقهاء لا ينطبق على "النظام المغربي". فالنظام المغربي عبارة عن شبكة من المصالح المافيوزية تحتكر السلطة والثروة. أما الشعب عرضة لكافة صنوف التحقير والتنكيل والتجهيل والتجويع والتفقير والتعذيب اليومي ماديا أو رمزياً. إذن ليس من مصلحة هذه الشبكة تحريك المتابعة القانونية في حق لصوص أموال الشعب لأنها تعلم علم اليقين أن أي إجراء في هذا الاتجاه سيرتد عليها، بمعنى أن الكل بدون استثناء سيتعرض للعقاب. بالتالي من المستحيل أن تُقدم على كذا خطوة لأنها سترى فيها محاولة لاضعافها رغم أنها ضعيفة أصلاً. فالنظام المغربي يتنفس الفساد وبالتالي ليس من مصلحته محاربته. هكذا يجب ادراك أن ما يتردد في وسائل إعلام هذه الشبكة بشأن محاربة الفساد وحتى الاجهزة التي تُنشأ باسم مكافحة الرشوة ما هو إلا دعاية للخارج ولا تعكس أي نوايا حقيقية بمحاربة الظاهرة. تجاهلت الاشارة الى القضاء لكونه المخول قانوناً بتحريك المتابعة القضائية، لكن هذا يبقى نظرياً. فالقضاء يتواري الى الخلف عندما يتعلق الأمر بقضايا سياسية. هذا التواري يكون بغية عدم إحراج النظام. بينما المفارقة تتجلى في كون نفس القضاء يُسخر عندما يتعلق الأمر بتصفية آخر ما تبقى من الصحافة المستقلة والتي حملت مشعل المعارضة والدفاع عن مصالح الشعب بعدما النجاح "النظام" في احتواء جميع معارضيه سواء بتدجينهم ومنحهم مناصب ورشهم من فتات موائده. حالة الاتحاد الاشتراكي كمثال. أو رميهم في السجون كما فعل مع الكثيرين من المناضلين سواء بفبركة تهم حالة الحقوقي شكيب الخياري وبالعريج أو حملة الاعتقالات الواسعة التي أعقبت أحداث 16 مايو 2003. تجدر بالمناسبة الاشارة الى أن عدد المعتقلين في تفجيرات مدريد لم يتجوز خمس عشر. نفس الشيء بالنسبة لتفجيرات لندن. والسبب هو أنه هناك قضاء مستقل ونزيه في كل من مدريدولندن. فلماذا لا يُوظف القضاء في متابعة القطط السمان؟ إن سياسة الكيل بمكيالين لا تخدم مصلحة النظام في شيء وتحتقر الشعب إنما تقوض ما بقي من أسس تسنده. يبقى علينا فقط التنبؤ بمدة صمود هذه الأسس. معروف أن العدالة عمياء وأن ما يهمها هو تطبيق القانون لا غير. بيد أنه في المغرب يعتبر تطبيق القانون عرقلة لمسيرة "النظام" الى "الأمام" بالاجهاز على فقرائه وتسمين طغمته حتى التخمة دون أن تشعر بالشبع. وعليه سيظل تطبيق القانون مؤجلاً حتى إشعار آخر وستبقى العدالة حلما جميلاً يرواد الأحرار والشرفاء ونظيفي الذمم من نهب أموال الشعب الى أن تستيقظ الضمائر. وما على تقارير المجلس الأعلى للحسابات الا أن تنتظر كما ينتظر كل المغاربة ماعدا محتكري السلطة والثروة بزوغ فجر جديد. وحتى ذلك الحين انتظروا الموت أو استعجلوه من أجل حياة كريمة. [email protected]