-تمهيد: كانت المسألة الإعلامية وما تزال نقطة تجاذب وصراع بين الطبقة الحاكمة من جهة وعموم الشعب المغربي وقواه الديمقراطية الحية من جهة ثانية . ولم تستطع الكتلة الديمقراطية باعتبارها قاطرة حكومة التناوب التوافقي تصحيح الوضع ولا حتى تطبيق توصيات المناظرة الوطنية حول الإعلام المتراضى حولها كحد أدنى منذ 1994 ، ليبقى الإعلام العمومي ببلادنا إعلاما للسيادة بامتياز وبالتالي بمناى عن الدمقرطة والتحديث . 2- ا لسمات الكبرى للإعلام العمومي بالمغرب ليس بمخطيء من يعتبر عصرنا الحالي عصر الإعلام حيث التد فق الهائل والمتسارع للمعلومات والأخبار ، كما أن تدخله في خضم الحياة المعاصرة أصبح مشهودا لدرجة لم يعد معها مقتصرا على تشكيل المواقف وتكييف الأذواق وتوجيه السلوكات الآدمية بل يتعدى ذلك إلى تغيير أنظمة سياسية برمتها ولو بشكل غير مباشر . وقد برهنت التجارب أنه بقدر ما تتطور وسائل الإعلام والإتصال بقدر ما يزداد تهافت الناس في كل بقاع الأرض على احتضانها والإستفادة من خدماتها .وقد تساوق ذلك مع انتقال البشرية من طور المستوى البيولوجي لحفظ النوع تفكيرا وممارسة إلى طور استدعاءات المدنية وما يتصل بها بالضرورة من تفنن في الميل نحو إشباع العمق الثقافي لدى الإنسان حيث لم تعد المطالبة بتوسيع آفاق المعرفة والإطلاع والترفيه مجردإرضاء لفضول متوثب أو تغذية لنزوات إرادية عابرة بل حقا من حقوق الإنتماء إلى عهد الثورة الرابعة من تاريخ التقدم البشري . ترى إلى أي مدى ينخرط إعلامنا السمعي البصري في هذا المناخ المنعش ؟ وهل يسمح بتمتع المواطنين بهذا الحق علما أنهم هم قاعدته المادية الإستهلاكية والتموينية في آن ؟ من البدايات الأولى للتلفزيون بالمغرب إلى اليوم ، مسافة زمنية لابأس بها تغيرت خلالهاأشياء كثيرة : قيم وأنماط عيش وأفكار وتصورات لم تجد بدا من الإستسلام لناموس التطور، وحده التلفزيون المغربي ظل وفيا لثوابته التي على أساسها تم تنضيد وتركيب رسالته بله وظيفته إزاء مجتمع تنخره الأمية وتنهشه الخرافة المغلفة بالأصالة المغربية العتيدة ! وعوضا من أن يتخذ ذلك الصندوق العجيب وسيلة ضمن وسائل أخرى للإسهام في تحقيق ثورة ثقافية على قاعدة تصور وطني تنموي ، رسمت له أدوار للأسف أقل ما يمكن أن نقول عنها أنها تدجينية ضاعف من حدتها طابعه الأحادي – الديكتاتوري أمام غياب بدائل تسمح بكسر طوق تلك الأحادية النمطية أو لنقل الموديل المهتريء لذلك الجهاز حيث الشحن والتلقي هي الوجه الأوحد لعلاقة تبدت كما لوكانت هي القضاء والقدر. ولهذا لم يكن غريبا أن يكون مالك المذياع مرحلتها أوفى حظا من مالك التلفازرغم ماكان يمثله هذا الأخير من رمز للحظوة الإجتماعية . ولأن الأحادية والنمطية تغري بشغف التصرف المطلق في جمهور المشاهدين" الكرام" على طريقة تعامل القراصنة مع مخطوفيهم فإن الضجر والكبت بما هما أعراض بل أمراض ناتجة عن تينك الأحادية والنمطية سرعان ما يستحيلان إلى ضغط يبحث عن تفريج وتنفيس بكل الطرق الممكنة وهو ما وجده المغاربة أخيرا وبعد سنين من القهر في القنوات الفضائية التي لم تكن انعتاقا وحسب بل قاعدة للمقارنة والقياس سوف يتمكن من خلالها المواطنون / الأسرى من اكتشاف حجم الغبن الذي ظلوا تحت وطأته طوال هذه السنين العجاف. لذلك فالشعب المغربي في نظري أولى من سواه من الشعوب الأخرى بتقديم آيات الشكر والإمتنان لهذا المبتكر الفذ في العشي والآصال واستمطار شآبيب الرحمة عليه مابقي الليل والنهار. إن هذا الإقبال المتهافت من قبل المغاربة على هذا المبتكر الغربي علاوة على أنه جعلهم ولو ظاهريا على الأقل يشعرون بتقلص في الهوة الطبقية بين أفراد المجتمع أمام رخص المنتوج ووفرته ، فإنه من ناحية أخرى يقدم دليلا على النفور العام من ارتباط إعلام"نا" العمومي بحبل سري فولاذي بمؤسسة الدولة أو المخزن أو السلطة بصفة عامة لأنه شكل بحق بوقها الذي ظل يتقمص على امتداد العقود الماضية دور المسمع في صلوات الجمعة والجماعة . لهذا كان ولا بد أن ينتظم في علاقة تناقض حد ية مع ما نصطلح عليه هنا بسلطة الإعلام الذي لايستحق هذه التسمية إلا إذا استبدل الوظيفة بالرسالة واستعاض عن التدجين والتحشيد بالتوعية الهادفة كمحتوى واستند إلى الحيادية والموضوعية كمنهج ..وما دمنا إزاءالنموذج الأول بما يمثله من أداة للتطبيع والتضبيع في صلب انشغاله العميق بهواجس الإجماع والإتباع فمن المؤكد أن الهجرة المشار إليها أعلاه تصبح موقفا أكثر منه تقليدا أو سلوكا عفويا . ومن حيث هو كذلك فإنه يستحق كل التعاطف لقناعتنا الراسخة بأن هذا النموذج لم يوجد ليخدم الشعب بل ليخدعه وهذا ما يؤكده : * اعتماد منظور رسمي واحد مع تغييب الآراء والحساسيات المغايرة التي تحفل بها الساحة السياسية والإجتماعية والثقافية. * التعتيم والتضليل من خلال استغفال الجماهير وعدم تنويرهابكل الحقائق المتعلقة بمحيطه ويوميات انشغالاته * التخدير والإلهاء بتعمد طمس البعد العقلاني والتنويري للمشاهد وحشو ذهنه بسقط من متاع أيديولوجية التغريب واللآمعنى . 3 - الإعلام الرسمي من منظور نقدي بعد هذا التمهيد الخاطف نرى من المفيد تسجيل بعض الملاحظات على شكل حواشي نفحص ونختبر من خلالها ما ذهبنا إليه من استنتاجات أوليةتنفي عن الإعلام الرسمي المغربي صفات البراءة والحياد المزعومين والتي غالبا ما تتستر خلف مصطلح "عمومي" البالغ التمويه والتضليل . فعلى صعيد الأخبار عصب وظيفة الإعلام السمعي البصري في الوقت الراهن ما زلنا نلمس إصرارهذا الأخير على السير في الإتجاه المعاكس لشعار " الخبر مقدس والتعليق حر " الذي يشكل قاعدة اشتغال منهجي تؤطر الممارسة الإعلامية الحقيقية .يقول الأستاذ والباحث يحيى اليحياوي :" ما نلاحظه خلال هذه المرحلة- مرحلة التناوب التوافقي –أن العمل الإعلامي بالتلفزة لم يبق فقط مشدودا بقوة إلى نفس الإرهاصات والتصورات والمحددات التي سادت طيلة المرحلة الأولى – مرحلة البناء الوطني والديمقراطية المؤجلة – بل بقي شبه مستقل بالمعنى السلبي احتكاما إلى حركية الحقل السياسي أو ما يبدو أنه حركية " إن الفكرة الأساسية لهذه الشهادة الصادرة عن باحث متخصص في علوم الإعلام أن الإعلام الرسمي على عهد حكومة التناوب ظل وفيا للثابت علىحساب المتغير ومن ثم لم يكن بوسعه والحالة هذه أن يواكب ما تبدى على أنه دينامية وتحول سياسي ناشيء بما يعنيه هذا الأمر من انفتاح ومهنية وسجال سياسي ومصالحة مع المواطن .لم يحدث ذلك وما كان ليحدث لأن الإعلام في منطق الحاكمين مسألة أمن حيوي واستراتيجي شأنه شأن التعليم وكل ما له صلة بالتأثير والتأطير الجماهيري البعيد المدى ..فقد رأينا كيف تمت المحافظة على نفس الطقوس السالفة سواء على مستوى الوجوه أو المضامين أو طرق التناول من رقابة وانتقائية وتركيز على ماهو خارجي. كما أن الحرية المشار إليها في متن الشعار أعلاه تتنازل عن موقعها لا راضية ولا مرضية لصالح ترانيم إنشائية منفلوطية تتأرجح بين الوصفية الباردة وبين التطبيل والتمجيد على إيقاع سمفونية " العام زين " الأثيرة . هذا النهج الموضب بعناية والمرسم بإصرار بلغ ذروته على سبيل المثال خلال تغطية تلفزتنا العتيدة للهجوم الأطلسي الثلاثيني على شعب وحضارة الرافدين غداة حرب الخليج الثانية حيث لم يجد المواطنون من حيلة لإشباع فضولهم سوى الإستنجاد بالمذياع وبعض الإذاعات الأجنبية . أما على صعيد الشأن الداخلي فالطامة أعظم بدليل استمرار عقلية الجحود بالواقع على نحو يسمح بملاحظة نوع من الإنحياز السافر للسلطة ومؤسساتها ومجتمعها المدني الخاص. بالمقابل يتم غض الطرف عنوة وعنادا- لأن مجال الإعلام لامجال فيه للصدفة أو الإعتباط – عن أحداث لها أهميتها في دائرة الإهتمام الشعبي كأحداث الجامعات واعتصامات المعطلين وغزوات قوات القمع في غير ما مكان ومختلف أنواع التحركات المناهضة للغلاء والفساد والعطش والتهميش ومقاطعة بعض الأحزاب والتيارات للإستحقاقات الإنتخابية وما صاحبها من قمع واعتقالات ومحاكمات بالجملة والتقسيط كل ذلك وغيره كثير لا نجد له صدى يذ كر في إعلام دار البريهي . أما ما يتعلق بالبرامج الترفيهية أ والفنية فعدا عن كونها قليلة وباهتة ، فإن دورها لايتعدى في أحسن الأحوال تأمين قدر من التوازن المطلوب داخل نفس النسق والثوابت من أجل توفير شروط دوام اشتغال هذا الجهاز الإيديولوجي في تناغم مع غاياته وأهدافه المحددة .لهذا السبب لم تضع نصب أعينها أي أفق للمغايرة بل لم تفكر فيه على الإطلاق طالما برهنت المنهجية إياها على موفور النتائج المشجعة ! والمحصلة ارتهانها للضحالة والبؤس المشفق سواء تعلق الأمر بالرؤية الجمالية أو الخلفية الثقافية ناهيك عن التكلف الواضح والتكرار الممل والإقتباس المكشوف مثلما هو حال برنامج "استوديو 5" الذي رغم كل الرتوشات التنميقية لم يفلح في انتزاع بطاقة الشرف داخل ساحة الرضا والنجاح خاصة إذا ما قيس بأمثاله من البرامج التنشيطية في بعض الفضائيات الأجنبية عربيها وغربيهامثل "اسئلة لبطل" الفرنسي و"بنك المعلومات " الأردني ، و "المميزون " اللبناني حاصدا بذلك نقطة مرسبة هي انعكاس جلي لواقع الإنتاج التلفزيوني ككل . وليت حظ المسرح والسينما كان أفضل من حظ الأخبار والترفيه إذ باستثناء بعض الإشراقات الإستثنائية التي تجسدها بعض الإنتاجات المشرقية أو الغربية بين الفينة ولأخرى يتدثر ما تبقى وخاصة المحلي منه بالرداءة حينا وبالتواضع الشديد في معظم الأحيان ولا سيما الخردة الفكاهية الرمضانية وحتى غير الرمضانية التي أقل ما يمكن أن نقول بصددها أنها قمة في التسطيح والسماجة وغاية في الإبتذال السوقي فبدلا من أن يرتقي الناس إلى مدارج الفن السامي قرر فنانونا النزول به إلى حضيض المتداول والدارج من خلال استلهام المهمشين التحتيين كنموذج إن على مستوى الملفوظ الخطابي او على مستوى السلوك الممارس باسم واقعية مفترى عليها أو باسم خصوصيةسيئة الفهم والتمثل . قاسمها المشترك توسل ا لعزف على الأوتار الرنانة لكسب عطف المشاهدين العزل من أي سلاح ثقافي منيع. فإذا أضفنا لما سبق التعاقد مع/ والوله ب المسلسلات المكسيكية المدبلجة ذات الحلقات المئوية تبين إلى أي حد ساءت أوضاع إعلامنا العمومي و إلى أي حد بات معه من الضروري فتح نقاش وطني حول وظيفته الآنية والمستقبلية بما يؤدي إلى الخروج به من حالة التردد والتخلف وجعله منخرطا بقوة في صميم مستلزمات ومقدمات التحول الديمقراطي المنشود بدلا من إبقائه مجرد متفرج أوأسير إملاءات الدوائر الرسمية العليا التي لاتقبل في الوقت الراهن بأكثر من إعلام يدور في فلك سلم اجتماعي مغشوش إطاره المقدس وغايته المزيد من تلميع الصورة للإستهلاك الداخلي والخارجي. وإذا كان حدث صعودالكتلة إلى السلطة قد أنعش آمال بعض السذج في احتمال تحريك عجلة الإعلام المغربي المعطلة منذ زمان ولو من باب تغطية المادي بالرمزي ، فإن غلبة الإستمرار على ما سواه من الشعارات وأحلام اليقظة سرعان ما خيب آمال غلاة المتفائلين وأفقدهم واحدا من عناصر الإستدلال على ما يستحقه عهد حكومة التناوب من التبجيل والإجلال ! أما القوى الممانعة واليسارالجذري الديمقراطي تحديدا فلم يحصد من الحلفاء الموضوعيين إلا مزيدا من التعتيم والتغييب القسري لأعتبارات سياسوية صرفة تتجوهر حول ثنائية الولاء أو البلاء وهو ما يتضح من خلال طبيعة البرامج الحوارية بالقناتين وأساسا منع الحكومة بث حلقة من برنامج "الإتجاه المعاكس " من داخل دار المقري عفوا دار البريهي مما يقوم دليلا على العشائرية السياسية وغياب الديمقراطية ولو في شقها الليبرالي البسيط . يقول الأخ أحمد بنجلون مفسرا دواعي هذا المنع : أعتقدأنهم ينظرون لحزب الطليعة نظرة خاصة لكونه قاطع المسلسل الإنتخابي وليس له ممثلون داخل المؤسسات التي نعتبرها مغشوشة ومزورة الشيء الذي يمس مسا خطيرا مبدأ حرية التعبير والصحافةلأن وسائل الإعلام العمومية يضيف بنجلون: "ما تزال تعمل تحت وطأة الفكر الوحيد." فهل بعد هذه المعطيات الدامغة يستحق إعلامنا أن يوصف [بأنه عمومي عدا عن الجانب التمويلي؟ وهل هذا ماكان ينتظره المغاربة من حكومة الإشتراكيين والوطنيين ؟ كيفما كان الحال فالمغاربة وقواهم التقدمية الجذرية لم يعانوا في يوم من الأيام و في حدود علمنا من أي خصاصة في في المنع والقمع 4- خاتمة نصل من هذه الملاحظات النقدية إلى أن الرداءة عموما وفي الإعلام المسموع والمرئي خصوصا وإذا ما كانت مشوبة بالتحكم والتضليل بشكل أخص تكون منفرة وقاتلة بالمعنى الرمزي وأن احتكار الإعلام العمومي تحت أي مسوغ عملية غير مشروعة لا بنطق السياسة ولا بمنطق الأخلاق ولا بهما معا. ذلك أن رحابة أفق الحرية الإعلامية في المدى المنظور سوف تكون أقوى من أي تحكم من أي نوع حتى وإن تستر خلف إعلام السلطة أما سلطة الإعلام بمحتواها المعرفي ومحمولاتها التربوية والديمقراطية والتنموية فستبقى مؤثثة يافطات مطالبتنا الملحة بديمقراطية حقيقية وشاملة ./. ملحوظة: مقال منشور بجريدة الطريق سنة 1999- عدد ماي 394 – بتصرف-