في طريق عودتي لم تفارقني ملامح أمي المسكينة , حين كانت تسرف في حماية أشيائي الصغيرة .. فتساقطت الدموع .. و بللت مني الملابس.. صغيرتك اليوم أمي.. صارت عاهرة.. حين دلفت إلى الغرفة الصغيرة مثقلة الخطى.. تََعِبة.. صدم ناظري وجه أمي النائمة في هدوء تعس مستسلم. تفقدت ملامحها بشوق طفلة.. واستنشقت أنفاسها العطرة علها تطيب ما نتن مني وتجلي ما بصدري من ضيق.. آه ... لكم وشمت الأيام خطوطها على وجهها الطيب النقي.. لكنى للمرة الأولى ألحظ جمالها المستتر، و التي حاولت المصائب محوه... فعجبت من اكتشافي هذا و كيف لم ألحظه و أنا من التصقت بها كل هذه السنين.. تأملتها برهة بدمع منساب، وكأني أستجدي من شقوق تجاعيدها غفرانا، ومن هدوء ملامحها بعض سكينة.. أشحت بوجهي خجلا من نور يتوهج، وجلت بناظري غرفتنا الصغيرة.. فتراقصت أمام عيني، شامتة، صورة غرفة أخرى كنت بها.. هما غرفتان حقا، إحداهما ساحرة ملونة بزهو العبث و الخطيئة.. و هذه حزينة موحشة.. لكنها الآن ..... حين احتوتني أحسست كيف هو الدفء و الأمان.. و كيف تكون ضمتها الحانية.... هي تماما كصدر أمي الحنون.. و نظرت ثانية لأمي .. فأجهشت بالبكاء.. آه أمي... أصبحت فجأة كبيرة.. و مثلي يلعبن في الحدائق .. ترقبهن أعين حريصة، و تمسك بأيديهن عند العودة في المساء.. يا طيب الجروح وبلسمها يا أمي.. ضميني عل التفاف ذراعيك يلم شعتي وما فت مني... باكية.. فثر ثغري، مرغما، عن ابتسامة بطعم المرارة، حين طغى على ذهني أن الماضي، بالرغم من كل ما حوى من آلام، هو حتما أهون مما سألاقيه في قادم الأيام... كفكفت دمعي في استسلام، ودسست أجرة عهري تحت وسادتي، و أخذتنى نومة عميقة، ليلتها كنت في رقاد هو أشبه بالموات.. وعجبت صباحا كيف صالحني النوم ليلتها وقد بت عاهرة؟؟؟ بطل عجبي حين قرأت ذات يوم في بعض كتب علم النفس، أن ما حصل لي ليلتها هو نوع من التحويل النفسي تعبيرا عن تنصل الضمير والتبرؤ من واقع أليم مرفوض نشعر بالعجز تجاهه.. و كما يحدث غالبا للذين يقتلون بشراسة و يمثلون بالجثث ثم يغرقون بعد ذلك في سبات عميق.. هو نوع من الإغماء المطلوب إذن، سقطت فيه روحي مرغمة ... أو لا مرغمة.. أو ربما أكون أنا قد قتلت نفسي يومها ... و مثلت بجثتي.. ذلك الصباح، بدا لي وجه أمي، وهي تعد لي طعام الإفطار، أكثر إشراقا وطيبة.. وشفافية.. دهشت هي حين رأتني أسرع إلى يدها الممسكة بالطعام أقبلها و دمعة تطوف على خدي جلسنا صامتتين و هي تنظر إلي، و في داخلها ألف سؤال لا تسأله، أو ربما قد ظننت أنا ذلك ساعتها، فعقلي الصغير المثخن بالهواجس كانت تعصف به أنواء من أسئلة حيرى.. أختي.... كانت قابعة في ركن الغرفة، واضعة رأسها بين يديها و ركبتيها.. تنظر، واجمة، للفراش المهترئ تحتها وكأنها تقرأ خطوطه وألوانه الذابلة.. بدت كإحدى اللوحات القديمة وقد علاها غبار الإهمال.. رأيتها يومها، على حالها ذاك، مرضا و رثاثة، أفضل منى و أحسن.. وقد لفها نور الطهر والبراءة.. كان الصمت يشمل غرفتنا, كأنه رفيق و شاهد.. شاهد يرسم خطوطا دقيقة لحالنا.. اغتصبت قبلا من شيخ "لمسيد"، و خذلني حبيب متوهم.. وكنت أنا من دفع الثمن حينها، دفعت غاليا.. واليوم آن لي أن أقبض.. أو هذا ما اعتقدته تلك الليلة.. لكني وجدتني أدفع كل مرة جسدي لتنهشه الأيادي العابثة بوحشية لا تعوضها كل أموال الدنيا.. العاهرة تدفع أكثر مما تقبض، وفي عرف التجارة العهر إذن تجارة خاسرة.. وكأي عاهرة، أفرطت في زينتي ذلك الصباح وشددت تنورتي لترسم الخصر بإغواء، وخرجت صوب العمل، وأنا أعد، في غباء طفولي، أني صاحبة مقهى السي عثمان ولست غاسلة الصحون صاحبة فراشه.. وأدرك شهرزاد المساء....... [email protected]