في الشوارع الكبيرة والأزقة الضيقة، أمام أبواب المساجد ومواقف السيارات، في الحدائق العمومية والمقاهي والأسواق وفي حافلات النقل الحضري والعمومي.. وفي الملاعب الرياضية ودور السينما، بل وحتى في أبواب المقابر، يستوقفك متسولون من مختلف الأجناس والفئات العمرية، بعضهم يلجأ إلى الدعاء وقراءة القرآن، والبعض يتخذ القصة المؤثرة وسيلة لكسب دريهمات، في حين تلجأ فئة إلى إظهار أماكن إصابتها بمرض أو ورقة شراء الأدوية التي عجزت عن توفير ثمنها، فيما تلجأ فئة أخرى إلى التسول بالكتابة، وذلك بتوزيع أوراق على ركاب الحافلات تحكي الوضع الاجتماعي الضعيف لاستعطاف الناس... في حين وضع عدد كبير منهم الصغار لتأثيث فضاء «السعاية» بحكم معرفته المسبقة بالتأثير الكبير الذي تمارسه مشاهدتهم على المواطن. الساعة السابعة صباحا. عايشة تطرق باب براكة في كريان القدميري في مديونة الفقير والموزع على شكل تجمعات صفيحية تحيل على واقع هش وفقير. يفتح باب البراكة في هدوء تام. بعد التحية العادية، وحديث لايستغرق أكثر من ثوان، تتسلم عايشة طفلا لم يتجاوز السادسة من العمر، ثم تغادر. على بعد أمتار من باب البراكة، تشرع عايشة في تلقين الصغير مبادئ تطلب منه أن يلتزم بها في مسيرة يوم طويل، إن هو أراد الحصول على عدة أشياء «زوينة» في نهايته. الصغير لايجيب، لكن صمته يمنح عايشة الأمان بأن رفيقها طفل طيع سيسهل من مهمتها في استعماله لابتزاز المواطنين في المدينة الكبيرة. بعد وقفة صغيرة عند «مول البيسري» القريب من محطة «الطوبيس» يتناول فيها الصغير فطورا سريعا يتكون من «رايبي وكاليطة». يصعد الاثنان إلى الحافلة رقم 120 التي تربط مديونة بوسط العاصمة الاقتصادية... يوم طويل من السعاية يبتدئ. يوم حافل مابين السابعة صباحا والسادسة مساء يمتد يوم السعاية الذي تقوده عايشة وينشط فيه الصغير، تارة بالتلفظ بتعابير الاستعطاف اللفظية وتارة بتعابير الوجه، تماما مثل كومبارس الأفلام. من محطة وصول الحافلة رقم 120 بساحة ماريشال بين شارعي بوردو والجيش الملكي، تكون البداية، والهدف كل المارة والمحلات التجارية والمقاهي والبارات التي يصادفهما الثنائي في طريقه، وفق خط سير محدد تحفظه عايشة عن ظهر قلب. في مقابل التكفل به طيلة اليوم، بالغذاء أولا ثم الحصول على بعض الامتيازات، كالمرور في بعض الملاهي للعب، ثم تسليم والدته مبلغ 50 درهما واجب كرائه، لا يصح للصغير أن يتذمر أو يعبر عن التعب أو الإحساس بالملل، من تكرار العبارات التي يرددها على مسامع الناس على امتداد اليوم. بعد الانتهاء من مسيرة الصباح التي تستمر إلى حدود منتصف اليوم، تتحول عايشة إلى استراتيجية الاستقرار أمام المطاعم في مرحلتين، أولاهما بشارع لالا الياقوت وثانيهما بملتقى الطرق مرس السلطان، الذي يتحول إلى محج رئيسي للموظفين الراغبين في تناول الغذاء. هنا يتوقف الصبي عن الكلام، ويتحول للتعبير عن الإحساس بأقصى درجات الجوع عبر ملامح وجهه الصغير المتعبة. يفترش الأرض عن يمين أو يسار مدخل أحد المطاعم إلى جانبها، ويشرع في استدرار عطف القادمين للمكان. مع ارتفاع عدد القادمين تدفع عايشة الصغير إلى بذل أقصى المجهود، على أمل الحصول على أعلى الإيرادات. في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال تجمع عايشة فراشتها وتعود للسعاية المتنقلة وهي تدفع الصغير أمامها في خطوات متثاقلة. لا يتناول الثنائي طعام الغذاء إلا قبل العودة إلى مديونة بدقائق معدودة. استراتيجية تعرف عايشة جيدا أنها مثمرة، لأن شكل وجه الصغير المتعب يوقع تأثيرا أكبر عند رؤيته. بين الساعة الثالثة والسادسة موعد نهاية اليوم، تقسم عايشة رحلة السعاية بين أبواب المصحات والأبناك وفضاءات التسوق الراقية حيث توجد كثافة نسائية. من خلال خبرتها الطويلة، تعلمت عايشة أن النساء أكثر سخاء من الرجال، حين يتعلق الأمر بحملهن على الإشفاق على ولد صغير جائع وبائس. إلى محطة العودة إلى مديونة، يسير الاثنان على قدميهما لمسافة تقترب من ال10 كيلومترات. من وسط المدينة أو حي المعاريف إلى طاكسيات ال81 في أعلى شارع محمد السادس، تستغل عايشة الجزء الأول من رحلة العود في السعاية. مثل المنشار... لا تترك شيئا إلا والتهمته لتأمين أكبر عدد من الدراهم. عندما يكون الصيد وفيرا، قد تتحصل على مبلغ مالي مهم يتراوح بين ال 600 و 800 درهم. عندئذ تبدو كلفة أجرة الصغير أمرا غير ذي أهمية. تعيد الصبي لوالدته وتسلمها ال 50 درهما المتفق عليها بصورة جزافية... ثم تقصد براكتها غير بعيدة عن براكة الصغير... لتستريح من مسيرة يوم حافل. صغار يعيلون أسرهم بالرغم من أن تقديم إحصائيات عن التسول يبدو من الصعب بما كان، نظرا لعدم استقرار المتسول في مكان قار، فقد كشفت دراسة حديثة أجرتها الرابطة المغربية لحماية الطفولة أن نحو 500 ألف شخص من أصل 30 مليون شخص يمتهنون حرفة التسول في المغرب بصفة دائمة أو مؤقتة. وتشير إحصائيات نشرتها المندوبية السامية للتخطيط أن أكثر من 16 مليون مغربي يعيشون تحت خط الفقر بأقل من دولارين في اليوم، ويتركز أغلب فقراء المغرب في المناطق الريفية من البلاد، غير أن ارتفاع الهجرة نحو المدن بسبب تردي الأحوال المعيشية والجفاف جعل المدن بدورها تعيش كثافة كبيرة في عدد الفقراء والمشردين. إحصائيات لم تسمع عنها ثريا بنت كريان الحفرة أو ما يعرف رسميا بدرب السباعي بمقاطعة سيدي عثمان في الدارالبيضاء، لكنها تعيش تداعياتها يوميا. هذه الأم العازبة في سن مبكرة جدا - 15 سنة – وجدت أن كراء صغيريها، رضيع وطفلة في سنتها الخامسة قد يمكنها من الحصول على مابين 100 و200 درهم يوميا. بالإضافة إلى عملها في قطاع النسيج في إحدى الوحدات الصناعية غير المهيكلة في حي الإدريسية بالدارالبيضاء، تتمكن ثريا من توفير ثمن كراء الغرفة التي تكتريها ب 750 درهما شهريا، ومصارعة ضروريات الحياة. ثريا تؤكد أنها ستتوقف عن كراء ولديها إلى السعاية مباشرة بعد وصلوهما إلى سن التمدرس، حيث تعمل من الآن على جمع الأموال الكفيلة بمنحهما ظروف تمدرس طبيعية إسوة بأقرانهما في الأسر العادية. غير أنها تجد مبررات لا تبدو مقنعة جدا لوضعهما الحالي. ثريا التي تقضي طيلة اليوم غائبة عن الغرفة، ترى أنه من الأنسب أن تكتري ابنيها إلى السعاية، فبذلك تضمن على أنهما بين أيدي نساء تعرفهن جيدا بحكم التعامل المتوالي بينهن، ثم تعرف أن صغيريها لن يكونا بحاجة إليها في ما يتعلق بالمأكل والمشرب وقضاء الحاجة، مادام الاتفاق الساري بين الطرفين، يقضي بتكفل المكتري بحاجيات الصغير من الألف إلى الياء، طيلة مدة الإعارة... «ومادام الأمر مفيد للطرفين، فما الداعي لتغيير وضع يصب في النهاية في مصلحة الجميع» تختم ثريا حديثها في واقعية مؤلمة جدا. الرضيع و«باردة لكتاف»كراء الأطفال والرضع للتسول بهم نجية متسولة محترفة على طول العام وعاملة جنس موسمية حين تكون الفرصة مواتية، ترى أنها تستطيع تدبر مبلغ محترم يوميا في حدود 200 - 250 درهما دون أن تبذل أدنى جهد، في حين أنها لو ذهبت وقامت بأشغال منزلية لدى الأسر فإن ذلك سيتطلب منها مجهودا بدنيا قويا، ومقابلا ماديا ضعيفا لا يتجاوز 60 درهما في أحسن الأحوال. منذ طلاقها، احترفت نجية القادمة من بني ملال الدعارة قبل أن تكتشف أن السعاية يمكن أن تعفيها من قهر حياة المتعة والليل، وتمنحها فرصا للكسب بأقل مجهود. «النهار اللي تتكون فيه الحركة عيانة ما تنطيحش على 150 درهما» تلخص نجية وضعها الحالي في سوق السعاية. بلباس شرعي يخفي كل جسدها ويمكنها من التمويه، تحسبا لأي موقف قد تصادف فيه أحدا من معارفها أو معارف زوجها السابق. منذ فترة غير بعيدة قررت أن تؤثث رحلاتها التسولية برضيع تحمله في اليدين، بعدما لاحظت أن زميلاتها في «الطلبة» ممن يرافقهن الرضع أو الأطفال في سنوات مبكرة جدا، يحصلن على أضعاف ما يتوفر لديها في اليوم الواحد. لكن من أين تأتي بالرضيع؟ كان لا بد من الاقتراب من زميلات المهنة. بعد محاولات متعددة، تكلل بحثها بالنجاح. فقد دلتها إحدى السعايات على عنوان سيدة بالبرنوصي، يمكن أن تتوسط لها لدى إحدى الأمهات العازبات ممن احترفن كراء فلذات أكبادهن ب 100 درهم لليوم الواحد فقط. ولما كانت التجربة مثمرة قررت نجية الالتزام بها. مع الرضيع صارت قادرة على توفير مبلغ يتراوح بين 400 و 500 درهم يوميا... ولا ترى في نفسها أي رغبة تلوح في الأفق للاستغناء عن هذا الامتياز. في دراسة حگومية:الطلاق والإهمال وراء سعاية الأطفال يمثل الطلاق والإهمال والمرض كابوسا ثلاثي الأبعاد يجثم على الأفراد المتسولين الصغار، فقد أوضحت دراسة أجرتها وزارة الأسرة والتضامن والتنمية الاجتماعية السنة الماضية، أن الأسباب الرئيسية التي تدفع هؤلاء إلى التسول تتمثل في المشاكل الاجتماعية المترتبة على الطلاق، أو تخلي الوالدين والإهمال، أو غياب أو وفاة الوالدين، وسوء المعاملة والتحرش الجنسي بالإضافة إلى عوامل ثقافية تتمثل في التعود على التسول أو الانتماء إلى عائلة تحترف التسول. ويشكل الذكور منهم 56 في المئة، والإناث 44 في المئة تربطهم بالمرافقين في الغالب علاقة عائلية وأغلبهم من نساء غير متعلمات، فيما قال 15 في المئة من المرافقين إنهم يستأجرون الأطفال لمزاولة نشاطهم مقابل ما يتراوح بين 50 درهما و100 درهم في اليوم الواحد. وأفادت الدراسة أن ثلثي الأطفال يعانون من أمراض مزمنة كالسكري وضغط الدم والحساسية والربو وداء السل وفقر الدم وأن 27 في المئة من بين المصابين قاموا باستشارة طبية وأن الخمس منهم فقط تمكنوا من متابعة العلاج. وأشارت الدراسة إلى أن 77.1 في المئة من الأطفال الذي شملهم البحث يعتبرون أن التسول يساعد على امتلاك النقود. واعترف 4.10 في المئة بأن التسول يولد لديهم شعورا بالكآبة بينما قال 8.7 في المئة إنهم يشعرون بالتعب، مقابل 2.6 في المئة قالوا إنه يشعرهم بالابتهاج. وأضافت الدراسة أن ثلثي الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 11 و12 سنة ولم يسبق لنسبة 25 في المئة منهم الالتحاق بالمدرسة. وأبرز التقرير أن الدخل اليومي الفردي للمتسول يتراوح ما بين 500 و700 درهم، أي ما يعادل 15 ألف درهم إلى 20 ألف درهم في الشهر، ما يجعل جلهم يرفض الاستقرار في مؤسسة الرعاية الاجتماعية دار الخير بتيط مليل، في أفق الإدماج، في إطار استراتيجية محاربة التسول