يُحمّل المعاصرون وزر القدماء ، ويحاكم المشايخ الذين يستعيدون بعض موضوعات الفقه القديم بهدف الشهرة والصدارة الإعلامية وإثارة المعارك الجانبية تعويضا عن العجز في مواجهة المعارك الرئيسية. والأجدي إعادة كتابة الفقه القديم والتخلص من أبوابه التي تجاوزها التاريخ مثل الغنائم والسبايا والرق والصيد وإدخال موضوعات أخري تقاعس عنها الفقه الحديث مثل العولمة ، والعالم ذي القطب الواحد، وثروات النفط ، والأزمة الاقتصادية العالمية ، والصراعات الدولية ، ورد الموضوعات القديمة إلي سياقها الاجتماعي وظروفها التاريخية . فالفقه في عصر واحد ليس فقها لكل العصور ، لكل عصر تشريعاته الفقهية . وتظل مقاصد الشريعة باقية في الحفاظ علي الحياة والعقل والدين والعرض والمال مع توسيع معانيها ضد المخاطر التي تواجهها. الحياة ضد التلوث والأمراض المستوطنة وسوء التغذية ، والعقل ضد الجهل والأمية والتخلف ، والدين ضد الزيف والبهتان وقلب الباطل حقا والحق باطلا ، والعرض كرامة الإنسان وحقوقه ضد التعذيب والسجن والاعتقال ، والمال ضد استنزاف الثروة وتبديدها والتلاعب باه والنزعات الاستهلاكية ضد استعمالها للتنمية واستثمار الموارد الطبيعية . لقد نشأت بعض موضوعات الفقه القديم الخاصة بالمرأة في ظروف الفتوحات والانتصارات والحروب القديمة شرقا ضد الفرس ، وغربا ضد الروم . وكانت المرأة مثل الفَرَس والرمح والدرع والسيف جزءا من الأسلاب ، " من قتل قتيلا فله سلبه " . ولم يكن ذلك خاصا بالفقه القديم وحده بل أيضا بالقوانين الفارسية والرومانية . والآن تغيرت أوضاع المرأة ، ولم تعد جزءا من الأسلاب والغنائم ، سبايا وما ملكت الأيمان. أصبحت مثل الرجل إنسانا لها حقوق ترعاها المواثيق الوطنية والدولية. ومع ذلك تظل في الفقه المعاصر الذي يعبر عن العجز والحرمان والهزائم موضوعا للحجاب والنقاب ، والخلع والزواج العرفي وزواج المسيار. وكلها تعني أن المرأة مازالت موضوعا جنسيا. ثار المحدثون عندما استرجع شيخ من المؤسسة الدينية أحد موضوعات الفقه القديم وهو " إرضاع الكبير" . وحُوكم وأُدين وفُصل من منصبه. وكل ما فعله هو أنه أخرج إلي العلن ما هو مطوي في كتب الفقه والأحاديث القديمة لدرجة تحديد الكم " مصة أو مصتان " . ولم يسترجع مواضيع أخري مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين، والشورى والبيعة ، والعدل ، ورعاية الفقراء من بيت المال ، وقتال البغاة. والآن يثير أحد المشايخ، وزعيم كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة والتي كان لها دور في حركات التحرر الوطني في بلد تمزقه الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب ، وبين تنظيم القاعدة والدولة بمساعدات خارجية ضد نية الدولة في سن قانون للحد الأدنى للزواج ، ستة عشر عاما كما هو الحال في مصر، اعتمادا عن التراث القديم وحياة الرسول. وعبّر عن نيته أيضا لقيادة مظاهرة المليون ضد هذا القانون المزمع سنه. ولم يفعل ذلك دفاعا عن الفقراء ، أو من أجل المصالحة الوطنية أو من أجل الحوار الوطني مع المتشددين أو من أجل الحوار مع دول الجوار في النزاع على الحدود أو من أجل مرور القطع الحربية الإسرائيلية عبر البحر الأحمر إلي باب المندب بعد أن تعلمت إسرائيل من غلقه أثناء حرب أكتوبر 1973. لم يعلن ذلك دفاعا عن الحريات العامة، ومن أجل الإفراج عن الصحفيين المعتقلين، ومن أجل تعددية سياسية وحكم ديمقراطي شعبي يكون أكبر سند لنظام الحكم في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية. لم يعلن ذلك دفاعا عن القدس ضد التهويد والاستيطان، والرسول يمني ، والحكمة يمانية. لم ينظم مظاهرة المليون ويقودها دفاعا عن العراق وأفغانستان ضد العدوان الأمريكي، ودفاعا عما تبقي من فلسطين ضد استمرار الاستيطان أو من أجل المصالحة الفلسطينية أو من أجل رفع الحصار عن غزة أو من أجل تنظيم أسطول جديد للحرية أسوة بتركيا ولبنان وإيران والغرب. لم يفعل ذلك من أجل المصالحة في السودان بين الشمال والجنوب أو بين نظام الحكم ودارفور أو من أجل نزيف الدم في الصومال . لقد انقلب فقه الأولويات ، وأصبح الفرعي هو الرئيسي ، والرئيسي لا يكاد يتذكره أحد كمؤشر علي العجز، والدخول في معارك وهمية بغية الانتصار. والإسلام أوسع من حجرات النوم الضيقة ، والمخادع المحدود ، وعلاقة الرجل بالمرأة ، والحرمان من الإشباع الجنسي . يتحقق الإسلام في العالم الفسيح وفي الفضاء الرحب ، في الضوء وليس في الظلام ، في العلن وليس في السر ، الإسلام يواجه القضايا الكبرى اليوم ، العولمة ، والعالم ذي القطب الواحد ، والنظام العالمي الجديد ، والاستعمار الجديد ، ومخططات التجزئة والتفتيت العرقي والطائفي للأمة كما يحدث الآن في العراق وفي السودان وفي الصومال ، وما يتربص باليمن ومصر والمغرب العربي كله . نشوه الإسلام بأيدينا ثم نشكو الآخرين بتشويهه علينا وعلى غيرنا حقدا وكراهية منهم ضدنا ، ونحن الذين نعطي الأسباب ، نواجه العالم بصدور مكشوفة عارية يسمح للآخرين بالتصويب عليها . وقد انجررنا إلي معارك يفتح الغرب جبهاتها مثل النقاب. فعشرات المجلات الأوربية تصدر وعلي غلافها وجه منقب لا تُرى منه إلا العيون وتحتها " الإسلام ". وقد كان الإسلام قديما إسلام ابن الهيثم الرياضي ، والرازي الطبيب ، وأولوغ بك الفلكي ، والخوارزمي مؤسس الجبر وواضع جداول " اللوغاريتمات ". وقامت المظاهرات بالآلاف في مشرق العالم الإسلامي ومغربه ضد الرسوم الدانماركية الساخرة من الرسول ، وحجة الغرب حرية التعبير مكفولة للجميع. ولم تقم نفس المظاهرات ضد تهويد القدس ، واستمرار الاستيطان ، وضد العدوان المستمر علي أفغانستان ، وثارت ثائرة المسلمين ضد محاولة منع المآذن في المساجد في سويسرا ولم تثر ضد معاملة المهاجرين المسلمين والمد اليميني العنصري في الغرب. لم يظهر الإسلام العلمي العقلاني المدني الذي كان أحد عناصر النهضة الأوربية الحديثة كما بيّن محمد عبده في حواره مع فرح أنطون في " الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية ". عيبنا أننا نعيش العصور الحديثة وثقافتنا ووجداننا ووعينا مازال في العصر القديم . لم نضع أنفسنا بعد في التاريخ لنعرف في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش ؟ مازلنا نتكلم عن الصحابة والتابعين وكأنهم جيراننا وأقاربنا . ونستعيد المذاهب الفقهية الأربعة التي أنشأها القدماء منذ أكثر من ألف عام علي أنها أنماط معاصرة للسلوك ، تعبيرا عن عجز المحدثين عن إنشاء أنساق فقهية جديدة، تعبر عن ظروف العصر وحاجاته ، وتجعلنا أقل عرضة للنقد من الخارج ، وأكثر قدرة علي التكيف مع الداخل . ومهما حاولنا الإصلاح والتجديد والتحديث فإنه سرعان ما يكبو لأنه لم يتعرض للجذور ، واكتفي بالقراءة والتأويل والفهم والتفسير دون وضع للبدائل الأكثر قدرة علي مواجهة تحديات الواقع ، مازلنا نخشى فقه الأولويات بالرغم من حديثنا عنه في أجهزة الإعلام وقنوات الفضاء. نحن في حاجة إلي نقل أمة بأكملها من عصر إلي عصر. فالقديم ما هو إلا اجتهاد واحد قام به القدماء. يكرره المحدثون لعجزهم عن إبداع جديد يعبر عن عصرهم الحديث. * مفكر وأكاديمي مصري