لعل من المتتبعين لهذه السلسلة يعتقد أن موضوعها رشيد في حد شخصه، لكننا في الحقيقة من خلال الكتابة عن رشيد نيني ومن وراءها نريد أن نغوص في عقل ووجدان العقل المغربي أو جزء منه بما أن رشيد نيني سلب وأثر في هذا العقل وهذا الوجدان أيما تأثير.. ومن خلال رصد تقنيات وأدوات اشتغال الكتابة والبلاغة النينيية قد نفهم بعض آليات اشتغال الوجدان والعقل لدى المغاربة... الزئبق المنفلت: ونود اليوم أن نقف عند احتراز نيني في كتابته من السقوط في خندق يضيق مجال حركته تمديدا لصدقيته وتنزيها لذاته عن كل شبهة... إن من الميزات التي اشتغل بها رشيد نيني من خلال عموده المثير للجدل هو ابتعاده عن أي شبهة انتماء سياسي أو حزبي أو مؤسسي.. فلقد هاجم الكاتب مختلف أطياف الساحة السياسية دون تمييز وتجنب في غالب الأحيان الظهور كمشتغل لحساب هذا الطرف أو ذاك، فقد كان للاستقلاليين والاشتراكيين والشيوعيين وأصحاب اليمين الإداري والوطنيين والانفصاليين نصيب من نقده وسخريته المرة، وإن بدرجات متفاوتة كان للاستقلاليين والاشتراكيين النصيب الأكبر من لسانه السليط وللإسلاميين النصيب اليسير... لقد حاول الكاتب أن يبقى على نفسه إيديولوجيا ضمن الفكرة المغربية العامة المحافظة عموما، من حيث احترامه للثوابت الدينية والمجتمعية، لكنه مع ذلك استطاع أن يحافظ على مسافة مع الجماعات الحزبية المتبنية للفكرة الإسلامية المحافظة... كما حصل مع أحد مقالاته ذات النفس الأخلاقي المحافظ ضمن جدال وطني الذي قامت جريدة التجديد المقربة من حزب العدالة والتنمية بإعادة نشره استقواءا به في مواجهة خصومها، فما أن كان من الكاتب في يوم لاحق إلا أن خصص عمودا هاجم فيه جريدة التجديد ومحاولة خندقته ضمن أنصار الحزب أو المتعاطفين معه.. وعى الكاتب أن موقعه أوسع من حزب وأكبر من أن يستغل في معركة سياسية عابرة.. ولعل الكاتب يبرز ذلك في أحد مقالاته الشهيرة والذي نشره أكثر من مرة بعنوان "معلومات خطيرةعني" يفتتحه بذكر تساؤل الناس عن موقعه الفكري قائلا: "كثير من القراء يريدون أن يعرفوا إلى أي تيار أنتمي. هل أنا شيوعي لأنني أنادي باقتسام الثروة بين الفقراء والأغنياء، أم إنني اشتراكي لأنني أدافع عن الطبقات العاملة، أم إنني إسلامي لأنني أطالب بحق المحجبات في الشغل، أم إنني ثوري لأنني أتمرد بالكتابة على الوضع السائد، أم إنني رأسمالي لأنني بدأت من الأسفل وأصبحت على رأس شركة يتعدى عدد مستخدميها المائة والخمسين." ويبدو الكاتب من خلال هذه المقدمة وكأنه يريد رفع اللبس عن الناس وتحديد هويته أمامهم لكن المقال يسرد مجموعة عناصر يقدم من خلالها نفسه، لكنه في نهاية المطاف لا يوضح الصورة عن ذاته ولا يحدد من يكون، فكل ما يصف به شخصه ينتهي إلى السؤال الأولي، وإلى الصورة المنفلتة التي يستعصي القبض عليها... هوية نيني التي أرادها لنفسه في الكتابة زئبقية تستعصي على القبض وهي بالتالي ضمنت له ذلك استمرار الناس في قراءته بحثا عن فك لغز الكاتب المنفلت والمقترب من مختلف هويات المغاربة... فمثلا يصف نفسه في المقال إنه "الأمازيغي بلا حاجة إلى كونغرس عالمي" ويقول في مقال آخر إنه "أمازيغي بدون تعصب"؛ وهو بذلك يؤكد نوعا من الاعتزار بأصوله الأمازيغية كما يسجل ابتعاده عن الحركات السياسية والثقافية الأمازيغية التي تثير الجدل والرفض من قبل قطاع عريض من الشعب ومن النخب المحافظة والقومية والوطنية... قدرة نيني على الاقتراب من كل القيم المتداولة مجتمعيا وسياسيا على صعيد واسع وعلى الإنفلات من كل تصنيف حزبي وسياسي وفكري جعلته يكون كاتبا مقروءا ومحبوبا من مختلف أنواع الطيف السياسي والاجتماعي المغربي، وجلبت له في نفس الآن عداوات مختلف اتجاهات المجتمع؛ استجلب نيني عطف وتضامن جل المجتمع واستعدى عليه أيضا جل المجتمع.. نتيجة طبيعية لهوية زئبقية تجعل الكاتب مع الجميع وضد الجميع في آن... ضربات قاضية وفرجة ممتعة: رشيد نيني استعدى عليه كثير من الناس –بسبب أفكاره ومواقفه، وبسبب نجاحه الباهر أيضا- وكان ذلك وراء مبارزات سياسية وكتابية بينه وبين خصومه ومعارضيه... وتعد تلك المبارزات إحدى أهم نقاط قوة الكاتب رشيد نيني في استجلاب عقلية مغربية لها تعلق بمتابعة المبارزة – فمعلوم في المغرب أن الناس في المغرب تتحلق حول صراع بين شخصين في الشارع العام بينما في مناطق أخرى من العالم تخلي الناس مكان الصراع لتخبر الشرطة للتدخل- : يظهر نيني من خلال هذه الصراعات ملاكما قاسيا يضرب بالضربة القاضية و"لا يترفع" عن الاستمرار في لكم خصمه المطروح أرضا.. رشيد نيني متطرف في صراعه، لا يغفر لمن أقترب من حماه أو لمزه أو لسعه.. وهو لا يتواني في الضرب فوق الحزام وتحت الحزام... الاقتراب من رشيد يتطلب التفكير ألف مرة.. ففي صراعه مع زميلة اللدود بنشمسي على سبيل المثال، لم يلتزم بحدود النقاش الفكري والثقافي بل ذهب إلى حد ما يشبه التحريض على الرجل من خلال نعته بمفطر رمضان، ولم يجنب في بحثه عن القضاء على خصمه أكثر الأمور حساسية وخصوصية كأن يذكر أم بنشمسي وقصة قضائها في حادث مؤلم رفقة "صديق"؛ وفي معرض رده على اتهام الجامعي له بأنه يدافع عن المخزن، كتب نيني مقالا بعنوان "نكبة آل الجامعي" سرد فيها أخبارا من التاريخ العائلي ومن علاقات الجامعي الأب ( خالد) والجامعي الإبن (بو بكر) بالمخزن وبدواليبه وبطريقة لا تدع مجالا للشك في أن هذه العائلة جزء من صميم "أولاد المخزن" وحماته... لنتأمل هذه المقاطع ونفهم كيف يضرب نيني خصومه بعنف وقوة: "وأنا أقرأ لائحة الاتهامات الجديدة في حق «المساء» التي ساقها بوبكر الجامعي في مقاله الأخير بمجلة «لوجورنال»، والتي يستخلص منها أن «المساء» تشتغل لحساب المخزن. ولو أن أحدا آخر غير بوبكر الجامعي اتهمنا بالعمالة للمخزن لاعتبرنا ذلك رأيا يحترم، وربما دفعنا ذلك إلى الشك في أنفسنا ومراجعة خطنا التحريري. لكن أن يصدر هذا الاتهام من شخص ينحدر من عائلة عريقة في خدمة المخزن، فهذا هو العجب بعينه. فعائلة الجامعي عاشت طيلة تاريخها تحت معطف المخزن، وتقلبت في دواوينه ووزاراته وبلاطاته. وإذا كان بوبكر يجهل تاريخ عائلته المخزني، فما عليه سوى أن يقصد أول مكتبة لكي يشتري كتاب «لوي أرنو» الذي يحمل عنوان «زمن المحلات السلطانية» ويقرأ عن المناصب المخزنية التي شغلها أجداده. وأول منصب مخزني شغله آل الجامعي هو منصب الصدر الأعظم والخارجية في القرن ال19. وكانت نهاية الصدر الأعظم الجامعي وشقيقه في الخارجية هي موت أحدهما في السجن بعد أن فهم السلطان عبد العزيز أن الجامعي يريد أن يكون خليفة مكان الخليفة. أما جد بوبكر، الشيخ بوشتى الجامعي، فقد عاش طيلة حياته داخل حزب الاستقلال الذي كان حليفا مخلصا للمخزن، والمدرسة الحرة التي كان يديرها لم يكن يعلم فيها التلاميذ مبادئ الثورة على الملكية، وإنما كان يعلم فيها الولاء للعرش العلوي ومبادئ حزب الاستقلال المدافعة عن المخزن... السي بوبكر الذي يتهمنا بخدمة المخزن نسي أن والده السي خالد الجامعي كان صديقا حميما للعشعاشي، أحد جلادي سنوات الرصاص. وفي الوقت الذي كان فيه المناضلون اليساريون يعذبون في المعتقلات السرية كان هو يسهر مع أحد زبانية المخزن بدون إحساس بالذنب؛ والسي بوبكر الذي يتهمنا بالعمالة للمخزن نسي أن والده السي خالد الجامعي، الذي ينتقد اليوم أوفقير ويقدم نفسه كضحية من ضحايا سنوات الرصاص، اشتغل مع أوفقير في حكومته عندما عينه محمد الفاسي، وزير الثقافة الاستقلالي، رئيسا لديوانه؛ والسي بوبكر الذي يتهمنا بالعمالة للمخزن نسي أن والده السي خالد الجامعي، الذي يشتم ويسب في كل مقالاته فؤاد عالي الهمة، سبق له أن شغل وظيفة مستشار إعلامي في ديوان فؤاد عالي الهمة عندما كان هذا الأخير وزيرا منتدبا في الداخلية" ولا يفوت نيني الفرصة ليغرق صور خصومه في الوحل كما فعل مع خصومه من الصحفيين عندما ذكر الأموال التي تلقوها من الامير هشام في ما يشبه تمويلا لأهداف مشبوهة.. وكما فعل مع توفيق بوعشرين –زميله الذي تخلى في لحظة حرجة وسط مركب المساء الذي كان يتخبط وسط أمواج عاتية كادت تغرقه- في قضية الفيلا التي اشتراها فلم يترك الفرصة ليثير الموضوع في مقالاته وجريدته باستمرار، في ما يشبه الحك على الجرح المؤلم .. رشيد نيني يخلق للقراء المغاربة الفرجة الممتعة على ملاكم يمرغ وجه خصومه في التراب بتطرف وبلا رحمة.. لا تأخذ نيني بأعدائه وخصومه الرحمة ولا الرأفة.. إنه المتطرف الذي يجعل الناس يستمتعون بضرباته القاضية المتتالية التي تصيب في مقتل ولا تترك لمن يترنحون مجالا لاسترجاع أنفاسهم؛ إنهم يستمتعون بكاتب لا يلزم حدودا في صراعه ويضرب بشتى الوسائل والطرق المشروع منها وغير المشروع والغاية واحدة: إسقاط المستهدف صريحا لا يحرك ساكنا ولعل من الملاحظ أن القليل ممن تجرأ على شخص نيني حاول إعادة الكرة خوفا من أن يكرر تمريغ وجوههم في الوحل... حتى أن مقربين من المجتمع الصحفي ذكروا أن بنشمسي طلب مؤخرا من صحافييه ترك نيني وشأنه قائلا لهم "قيلوه راه الناس كيقراوه بزاف"... ومن خصومه من حاول الاستقواء بالناس في محاولة للتخفيف من ضربات نيني القاتلة كما فعل نور الدين الصايل في قصة العريضة التضامنية معه ضد المساء ومديرها رشيد.. فما كان من أمر العريضة إلا أن كانت مصيدة أسقطت بعض الموقعين في حلبة نيني فأذاقهم مر العلقم كما فعل مع نعيم كمال وماحي بنبين وباكريم... في أعمدة بعضها يعبر عن رغبته في جلدهم ، كما يمكن فهمه من عنوان مثل "سوط الحق" نيني زئبق منفلت الهوية ومتحرر من كل تصنيق، يمتع جمهوره بالسوط الذي يجلد به خصومه المبعدين عن كل صورة يفضلها المجتمع... [email protected]