أصبحت عبارة "المشروع الديمقراطي الحداثي"، إحدى مفاتيح الخطاب الرسمي في المجال التداولي المغربي خلال العقد الأخير، وقد ارتبطت عموما بأداء ومشروع الملك محمد السادس في تدبير شؤون الدولة، وتجسّدت بعض معالمها على أرض الواقع في عدة قطاعات مجتمعية، من قبيل ولادة "مدونة الأسرة"، مشروع "الإنصاف والمصالحة"، تأسيس "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"، الدعوة إلى الاستفادة من بعض الدروس الصادمة لتقرير الخمسينية الشهير، وغيرها من المبادرات. على أن المتتبع المغربي لما يُنشر أكاديميا بالدرجة الأولى، أو بحثيا عموما، عن أداء صناع القرار المغربي في مختلف القطاعات الحيوية، (الشأن الديني على الخصوص، بحكم ثقله ومركزيته في النظام السياسي المغربي منذ قرون مضت، وليس منذ رحيل الملك الحسن الثاني؛ الشأن الأمني؛ الشأن الثقافي، وفوقه الشأن "العلمي/المعرفي"، أداء الأحزاب السياسية..)، يلاحظ صمتا بحثيا مريبا عن تفكيك مفردات مقتضيات الحديث عن "المشروع الديمقراطي الحداثي"، على الأقل، التوقف عند معالم القطاعات الحيوية سالفة الذكر في حسابات ومعالم هذا المشروع، من قبيل الاستفسار مثلا، عن مكانة الدين، ومعالم الهوية المغربية المرجوة في "المشروع الديمقراطي الحداثي" المغربي، أو رؤى أصحاب هذا المشروع في التعامل مع الواقع الثقافي والعلمي والمعرفي... إلخ. وتزداد إلحاحية طرح مثل هذه الأسئلة عندما نصطدم بين الفينة والأخرى، بحالات مؤرقة تجعلنا نستفسر عن علاقة هذه الحالات المجتمعية الصادمة بمقتضيات المشروع الديمقراطي الحداثي المروج له رسميا، ومن قبل كل المطبلين من أهل العمل السياسي على الخصوص، ومعلوم أنه لا يُعتد برأي و"اجتهادات" هؤلاء، فأغلبهم من أهل الأهواء، وجُلّهم مستعد لتغيير قناعاته، لمجرد تحقيق بعض الأغراض الشخصية. (يتذكّر المتتبع المغربي، صدمة الانقلاب في لهجة خطاب قيادي من الاتحاد الاشتراكي، بين ليلة (كان ينتقد فيها مشروع "الوافد الجديد"، ويدعو إلى حتمية إصلاحات سياسية ودستورية، ويهدد بالتحالف مع حزب العدالة والتنمية)، وضحاها (أصبح خطابه خلالها يركز أكثر على دور الوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان!)، وتأسيسا على ما يُشبه "التطرف البراغماتي" لأداء أحزاب الساعة، (حيث الانتصار لشعار "أنا ومن بعدي الطوفان")، نتفهم مثلا، غياب أي إسم حزبي في اللجنة الملكية الاستشارية التي أعلن ملك البلاد من أجل إعداد مسودة خاصة بمشروع الجهوية الموسعة. على غلاف العدد الأخير لأسبوعية "نيشان" مثلا، نطلع على صورة مدير اتصالات مغربية، إلى جانب طائرة خاصة يتنقل بها كلما احتاج إليها، ويتقاضى الرجل مبلغا يكاد يكون فلكيا، إضافة طبعا إلى لائحة من الامتيازات التي يحظى بها، كغيره من كبار علية القوم في البلد الذي يرفع فيه صناع القرار عبارة "المشروع الديمقراطي الحداثي". وواضح، أن مدير الشركة إياها، لا يقوم بالذي يقوم به العبقري الأمريكي، بيل غيت، ولكنه، مع ذلك، يحظى بكل هذه الحظوة وهذا شأن خاص بصناع القرار، ماداموا مرتاحين لأداءه من جهة، كما أن البعض يرتاح ويصر على استدعاء "مطربات" المشرق، من اللواتي التصقت أسماؤهن بالدلع والعري وما جاورهما (!)، من أجل التغني، لبضع دقائق بالعامية المغربية، وارتداء العلم الوطني، في تمييع أخلاقي ومنطقي لمفهوم الوطنية والوطن في آن.. هذا شأنهم الخاص. رُبّ متصفح للعدد إياه، عندما يتساءل عن علاقة الامتيازات التي يحظى بها الرجل، في ظل الوضع الاقتصادي المغربي (وفوقه العالمي) بأبسط مقتضيات "المشروع الديمقراطي الحداثي"، في ظرفية زمنية، لا يسمع فيها الموطن المغربي في النشرات الإخبارية الرسمية، عن اتخاذ أغلب الدول الأوروبية خلال الأسابيع الأخيرة الماضية (ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا، فرنسا..)، قرارات اقتصادية صارمة تروم ترجمة سياسة التقشف حتى لدى المسؤولين الكبار في الدولة، تماشيا مع أبسط مقتضيات مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية. وحتى تزداد الصورة تعقيدا، وجَبَ التذكير بأن المنبر الإعلامي الذي نشر هذا الملف الاحتفالي/الإشهاري بالمدير المعني، يتحاشى، منذ تأسيسه، توجيه أي انتقادات إلى الرجل، مقابل جرأته على توجيه النقد لملك البلد، لاعتبارات مادية براغماتية أولا وأخيرا، ولا علاقة لها بذلك الكلام الكبير عن "الحق في التعبير" و"الحق في الاختلاف مع صناع القرار"، والأدهى بيت القصيد في الحديث عن مقتضيات "المشروع الديمقراطي الحداثي" أن مدير المشروع الإعلامي، في نسختيه العربية والفرنسية، يرفع شعار "المشروع الديمقراطي الحداثي" في اشتباك مع باقي المشاريع المجتمعية التي تعجّ بها الساحة المغربية، وأغلبها، للتذكير، ذات طابع إيديولوجي شبه متشدد، سواء كانت إسلامية حركية، أو علمانية/حداثية. وحتى لا يكون ختامه مسكا، وفي عزّ شن دعاة وأقلام حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية بعض "الحروب" الإعلامية والسياسية ضد مهرجانات الساحة، (والتي قد تجعل المغرب يحطم الرقم القياسي العالمي في عدد المهرجانات، بما يساءل صناع القرار، عن مكانة هذه المهرجانات في مقتضيات ذلك "المشروع الديمقراطي الحداثي")، يخرج أحد علماء المؤسسة، من المجلس العلمي المحلي بالدار البيضاء، ليُدلي بآراء فقهية نقدية ضد ذات المهرجانات، تقاطعا مع الخطاب النقدي لأغلب الحركات الإسلامية، المعنية، بشكل أو بآخر، بأحد أهم أهداف المشروع الديمقراطي الحداثي"، لولا أن الرجل هذه المرة، محسوب على المجلس العلمي الأعلى، وبالتالي على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وبالنتيجة، وزارة وصية تابعة بشكل مباشر للمشرفين على ترجمة معالم "المشروع الديمقراطي الحداثي" إياه! ثمة أشياء كثيرة غير سوية في هذه البقعة المغربية المباركة، ومنها، في الظرفية الراهنة، الصمت عن تفكيك معاني ومعالم ومقتتضيات حديث صناع القرار عن دخول المغرب مرحلة "المشروع الديمقراطي الحداثي". نقول البقعة المغربية المباركة، لأن بعض المتأملين في تدبير العديد من الشؤون الاستراتيجية في هذه البقعة، يجمعون على أن مفهوم ومصطلح "البركة"، بكل إيحاءاته الغيبية، أو الميتافيزيقية، تفسر استمرار العديد من رجال العهد الجديد في مناصبهم الحساسة، واستمرار مثير، لنتائج مقلقة في تدبير القطاعات التي يشرفون عليها. هذه ليست مقالة في "تفكيك" معالم "المشروع الديمقراطي الحداثي"، وإنما دعوة وتحفيز للقيام بهذه المهمة، بمرجعية تفكيكية تنتصر لمعالم الهوية القطرية والإنسانية في آن. والله أعلم.