مضت عشر سنوات من حكم الملك محمد السادس. تغيرت أشياء، وظلت أشياء أخرى على حالها. أرخى الماضي والملك الراحل ظلاله على واقعنا الحالي، وحملت الكثير من أوجه الممارسة طعم الأعراف الحسنية الثقيلة، وتحررت بعض مساحات وجودنا من أسر المناهج التقليدية للعقود الماضية. الرابح الأكبر في العهد الجديد هو المرأة، والخاسر الأكبر في العهد الجديد هو مشروع أو فكرة الانتقال الديمقراطي الذي لاح في الأفق ما يشبه طيفه، ثم تراءى للجميع أن الاستمرارية في طبيعة نظام الحكم وعمل مؤسساته انتصرت على التغيير. لم يتصور أحد منا أن الملك الشاب سيقدم إلى المرأة المغربية هدية في قيمة مدونة الأسرة، وسيشفع ذلك بإجراءات ترفع عن المرأة أكثر الأصفاد التي كانت تغل عطاءها وتلجم فعلها وتحد من مجال حركتها. وتمتعت قضية الثقافة الأمازيغية بوافر الرعاية والحدب، وتحقق لها من المكاسب اليوم ما لم يتحقق خلال كل المرحلة التي أعقبت تاريخ إحراز المغرب على استقلاله. وتقدم الملك بمشروع خطة متعلقة بالحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية بشكل موغل في الجرأة والشجاعة السياسية، ومتجاوز لكل ما سبق أن أبدعه العقل الحزبي المغربي. ففي هذه المجالات الثلاثة تخطى الملك سقف ما كانت تطالب به الأحزاب وحتى المجتمع المدني، وأظهر قدرة فائقة على الإبداع والمبادرة. يُضاف إلى كل ذلك حرص شخصي للملك على الدفع بإيقاع عدد من الأوراش المتعلقة بالبنية التحتية والتجهيزات الأساسية، وظهر أن بعض المشاريع التي كان إنجازها في الماضي يتطلب زمنا معينا أصبحت ترى النور مكتملة الهيئة، في نصف ذلك الزمن أو أقل من ذلك. إلا أن العهد الجديد ظل خاضعا لدستور قديم، وظلت دائرة القرار ممركزة، واستمر التحكم الملكي في إدارة السياسة العامة للبلاد وفق برنامج الدولة القار، وتم تهميش الفرقاء الآخرين والمؤسسات الأخرى، وفشل التناوب، وضعفت الأحزاب الوطنية الديمقراطية، وظلت الملكية متشبثة بكل امتيازاتها ومناهضة لفكرة ربط القرار بصناديق الاقتراع وربط ممارسة الحكم بالمحاسبة، ولم تُفتح الطريق أمام تحويل نظام الحكم في المغرب من ملكية مخزنية رئاسية إلى ملكية برلمانية حداثية، رغم رفع شعار المشروع الديمقراطي الحداثي، وهو المشروع الذي حكم على الحداثة بأن تظل حبيسة المجال الاجتماعي والإنتاج الفني وبعض مناحي الحياة، دون أن تطال العلاقات المؤسسية وآلية اتخاذ القرار. كما أن المغرب لم يتحرر من أكبر خطر ظل يحدق به، وهو المآل المأساوي الذي يمكن أن يفضي إليه واقع التفاوتات الاجتماعية الرهيبة. لقد فشلنا في تقليص الهوة بين أبناء المغرب، وازدادت تبعا لذلك تعبيرات العنف والاحتقان والتوتر، وتشبعت الكثير من الفئات بثقافة اللاتسامح والانغلاق والتعصب، ورفض بعض مظاهر الحياة العصرية، وتزعزعت القيم، وتعمقت التناقضات وأشكال التطرف، وأصبح بلدنا يحتل صدارة البلدان المصدرة للانتحاريين والمخدرات والدعارة. وكل ما تَحَصَّل نتيجة مسلسل الانفتاح -من خلال عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، وتغيير القوانين، وتكثيف أدوات ووسائل الفعل الإعلامي السمعي والبصري والمكتوب- تم العصف به وضاع أو كاد يضيع، نتيجة ممارسات الأجهزة الأمنية، ونتيجة اختبار طرق جديدة لقمع الصحافة، ونتيجة استغلال قضية مواجهة التهديدات الإرهابية لمباشرة مسلسل رهيب من الاعتقالات والمحاكمات والمتابعات وتكميم الأفواه والاعتداء على الحق في التنظيم والتعبير والاختلاف. وعُرضت على المحاكم حالات تطرح حولها أكثر من علامة استفهام، وظهرت أشكال جديدة للتضييق على عمل المحامين والمدونين وحتى البرلمانيين، ووُوجهت الاحتجاجات الاجتماعية في الكثير من الحالات بحملات من التنكيل والانتقام والعقاب الجماعي. ولم نتقدم على المستوى الانتخابي، بسبب افتضاح لعبة الضبط، وعدم انفتاح اللعبة على كل الفاعلين الرئيسيين ورسوخ ظاهرة العزوف، وإحساس الكثيرين بلا جدوى الانتخابات طالما أنها لا تمنح المنتخبين سلطة القرارات الحاسمة والحيوية، ولا تتيح فرصة التعاقد الحقيقي بين المرشحين والناخبين، علاوة على سيادة الوسائل المناهضة للأخلاق والقانون، وسقوط الانتخابات تحت رحمة أعيان ذوي رهانات لا سياسية في الأصل، واستسلام الأحزاب لهذه الرهانات. ولم تُتخذ إجراءات حاسمة للقطع مع اقتصاد الريع ونظم الامتيازات واستمرار ظاهرة جني المنافع الاقتصادية بواسطة القرب من السلطة واستعمال آليات عملها لإثراء بعض المحظوظين. ورغم إعلان نية إعمال الصرامة في مواجهة الذين يخرقون القانون وأسس الحكامة ويختلسون الأموال العامة، وتحريك عدد من المتابعات، فإن استطلاعات الرأي أفادت بوجود انطباع عام بأن الفساد والرشوة يتسعان، وأن السلطات الرسمية لم تهتد بعد إلى اعتماد الوسائل الناجعة لقطع دابر الفساد واجتثاث جذوره وتجفيف منابعه. وعلى مستوى الحياة الحزبية، فإن تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة قد أظهر العهد الجديد في صورة من يكرر تجارب الماضي في إنشاء الأحزاب الإدارية. إن انتقال السيد فؤاد عالي الهمة، قبل أسبوعين فقط من التاريخ المقرر لوضع الترشيحات، إلى مرشح في انتخابات تشريعية أشرف على تحضيرها باعتباره وزيرا للداخلية، سجل بداية غير موفقة، من الزاوية الأخلاقية، للمسلسل الذي أفضى إلى ظهور الحزب «الجديد». ثم إن التجاوب السريع لجيش الأعيان الذي تحلّق حول هذا الحزب وغادر أحزابه الأصلية، واعتراف الوزير الأول بحصول «ترضية» قضائية لمطالب الحزب، وتملك السيد الهمة لامتيازات بروتوكولية جلية، وحرص ممثلي السلطات العمومية حتى الآن على الاستجابة الفورية لمطالبه، على غير العادة، وعدم وضع الخطاب الملكي بشكل حاسم لمسافة مع الحزب وعدم الالتزام الرسمي بواجب تقديم التطمينات الكافية إلى الفرقاء الآخرين، كل هذا يضعنا مباشرة أمام إشكالية حقيقية تتعلق بمدى وجود تكافؤ في الفرص بين كل الأحزاب السياسية، ويحيلنا على الصورة القديمة للصراع السياسي الذي كان يجري عمليا في الماضي بين طرفين أساسيين: الدولة من جهة، والقوى الديمقراطية، وأساساً الاتحاد الاشتراكي، من جهة أخرى. لقد اعتبرت الدولة أنها توجد أمام مشكلتين: أولاً، تنامي خطر الاكتساح الانتخابي الأصولي؛ وثانياً، عجز وضعف الأحزاب. فاتجهت ربما إلى معالجة المشكل الأول بتركيز أصولية سياسية مخزنية حتى تتفادى دفع الرسم المطلوب لتحقيق رهان التنوير الشامل والإصلاح وتغيير البنيات. وعالجت مشكلة ضعف الأحزاب بسياسة تؤدي عمليا إلى المزيد من إضعافها. وعلى المستوى الدولي، عشنا خلال العشر سنوات الأخيرة ضموراً وانكماشاً لوضع المغرب كفاعل، وبروزاً لوضعه ك«مفعول به»، وذلك عبر مسايرة الكثير من الإملاءات، بدون القدر الكافي من التحفظ. وعلى العموم، عشنا مخاضا عسيرا، لم تتخذ الدولة شكل نظام حكم ديكتاتوري، من النوع الذي يباشر الخنق المطلق لأي هامش للحيوية النقدية، فظل جزء من المجتمع المدني والتيارات اليسارية والأقلام المستقلة يغذي تلك الحيوية، ولكننا لم نعش بعد في المغرب ربيع الديمقراطية الحقة. لقد بدأت العشرية الماضية بإشارات ملكية إيجابية، ونأمل أن تنطلق العشرية المقبلة بمجموعة من القرارات والإجراءات القادرة على استيفاء مقومات الانتقال الديمقراطي. وإذا كان هذا الانتقال يفرض بداهة تقليصا لصلاحيات المؤسسة الملكية، فإن الملك محمد السادس يمكن أن يباشر نوعاً من الصلاحيات التي تخدم وجهة الانتقال، وبعبارة أخرى يلعب دور «ملك الانتقال»، وذلك مثلا ب: 1 -الإعلان عن مشروع دستور جديد ينص على أن نظام الحكم نظام ملكية برلمانية ديمقراطية واجتماعية، وعلى أن مجلس الحكومة ورث اختصاصات مجلس الوزراء في صيغته الحالية، وتحول المجلس الأخير إلى مؤسسة استثنائية تختص في البت، مثلاً، في إعلان حالة الحصار، أو إشهار الحرب، أو حالة الاستثناء، أو تعديل الدستور، أو مضمون الخطاب الملكي. كما يتعين أن ينص الدستور الجديد على أن الحكومة هي التي تدير السياسة العامة للبلاد، وتشرف على سير الأجهزة الأمنية وتتولى تعيين الموظفين السامين. يجب -في نظرنا- أن يتقيد الملك دستورياً ب«المنهجية الديمقراطية»، مع احتفاظه بحق إعفاء الحكومة، وحل البرلمان، ومخاطبة الأمة، وإصدار الأمر بتنفيذ القانون، والقيادة العليا للجيش، كما يحتفظ -وفق شروط معينة- بحق إعلان حالة الاستثناء وإشهار الحرب وعرض مشروع تعديل دستوري. ويمثل الملك سلطة إشراف معنوية على ممارسة الشؤون الدينية للمغاربة المسلمين، دون مساس، طبعاً، بقواعد سير المؤسسات والقوانين. كما أن الدستور الجديد يتعين -في نظرنا- أن يقضي بتوسيع صلاحيات مجلس النواب، وحذف الغرفة الثانية، ومراجعة هيكلة واختصاصات المجلس الدستوري، وتوسيع الجهوية.. إلخ. 2 - الإعلان عن خطة وطنية لمحاربة اقتصاد الريع، تقوم، مثلاً، على إلغاء نظام الرخص الخاصة بالنقل والصيد البحري وأسواق الجملة والمقالع.. إلخ. 3 - التخلي عن مجموعة من القصور الملكية، ووضعها رهن إشارة وزارة الثقافة لاستخدامها كمركبات ثقافية ومتاحف وقاعات للعروض والمؤتمرات. 4 - التبرع بجزء من الثروة الملكية، وتحويل ذلك الجزء إلى دعم صندوق اجتماعي دائم لمحاربة بطالة الشباب، على غرار قرار ملكي سابق برصد الاعتمادات الخاصة باحتفالات عيد العرش للأعمال الاجتماعية. 5 - مراجعة الخطط التي تمكن بواسطتها بعض المسيرين للثروة الملكية أو المقربين من القصر من عقد عمليات اقتصادية، ربما تكون قد مست شروط التنافسية في بعض القطاعات، كالأبناك والعقار والسكر والزيت والحليب.. إلخ، ومنح مجلس التنافسية صلاحيات تقريرية تمكنه من التدخل في مثل هذه الحالات، ووقف العمل بقرار تمديد الإعفاء الضريبي في القطاع الفلاحي، حتى تُناقش من جديد مدى نجاعته اقتصادياً، وحتى لا يبدو هناك ربط بين مصدر القرار وطبيعة المستفيدين الأوائل منه. 6 - تخفيض ميزانية القصور الملكية، وتخفيض أجور الوزراء والبرلمانيين والعمال والولاة والمدراء العامين للمؤسسات العمومية، وإعادة تقنين أسفار المسؤولين الكبار إلى الخارج. 7 - سن قانون جديد للأحزاب ينص على حقها في التداول على السلطة، ويسمح بالتمويل العمومي بمجرد الحصول على 1 % من المقاعد أو الأصوات، ويراجع سلم الجزاءات المترتبة عن مخالفته، ويلغي إمكانية التوقيف أو الحل الإداريين للأحزاب، ويجعل القضاء المستقل وحده رقيباً على شرعية تأسيسها ونشاطها. 8 - إطلاق سراح المعتقلين السياسيين الستة في ملف بليرج، ورفع الحظر عن حزب البديل الحضاري، وفتح تحقيق رسمي لاستجلاء كل الملابسات المرتبطة بهذا الملف وظروف الاعتقال والتعذيب وتحرير المحاضر، وما أفرزه التعاون القضائي الدولي من معطيات. 9 - فتح تحقيق وطني لتحديد المسؤوليات بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان، المقترفة في إطار حملة مكافحة الإرهاب بعد تفجيرات 16 ماي، وإطلاق سراح كل من ثبت عدم تورطه في تنفيذ أعمال قتل والتزم بنبذ العنف، في إطار حوار مع ما يسمى بمعتقلي السلفية الجهادية، يمكن أن يجري بإشراف شخصيات من طينة مدير دار الحديث الحسنية أو رئيس الرابطة المحمدية للعلماء.. 10 - تدشين حوار رسمي مع جماعة العدل والإحسان برعاية منظمات حقوقية أو شخصيات مستقلة لتأمين انتقال الجماعة إلى حزب سياسي، إذا قبلت دفتر التحملات الذي تحدده الأوساط الحقوقية، ووقف كل أشكال القمع الموجه ضد الجماعة. 11 - وضع قانون جديد للصحافة يستجيب لمطالب المهنيين، والسماح بانفتاح إعلامي يزيح الخطوط الحمراء المصطنعة، ويسمح للمغاربة، مثلاً، بمشاهدة مساجلة تلفزيونية بين الشيخ عبد السلام ياسين والمفكر عبد الله العروي. 12 - توجيه رسالة ملكية إلى القضاة، تمنحهم كل الضمانات المطلوبة لاستقلالهم، وتؤمن لهم حماية ملكية كاملة أياً كانت أحكامهم. 13 - إسناد مهمة الإشراف على الانتخابات إلى هيئة دستورية مستقلة.