في الصورة ادريس اليزمي رئيس المجلس الاعلى للمغاربة المقيمين بالخارج لماذا كل هذا اللغط حول تمثيلية مغاربة العالم بالمجلس الأعلى للمهاجرين؟ و حتى لو تم انتقاء ممثلي هذا الشتات الكبير وفق أحدث الأساليب الديموقراطية ما هي يا ترى القيمة المضافة التي سيأتي بها هذا المجلس؟ و هل هناك ما يوحي بأنه يتوفر على عصا سحرية ستمكنه من حل المشاكل العويصة التي يتخبط فيها مهاجرونا و التي تختلف باختلاف خصوصيات بلدان استقرارهم؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه. و هذا النوع من الهيئات لا أظن بأنه يجيد شيئا آخر غير إقامة المهرجانات "العكاظية"، فتراه تارة يعقد ندوة هنا بهذه الضفة حول الهوية أو الإعلام أو الإسلام المتسامح و تراه تارة أخرى ينظم أياما دراسية هناك بالضفة الأخرى حول المرأة أو حقوق الأقليات أو الإبداع خارج الحدود، و من حين لآخر تتفتق عبقريته عن مشاريع لن تزيد إلا في تكريس العلاقة "الافتراضية" التي تجمع بين المهاجرين ووطنهم و خاصة منهم أبناء الجيلين الثاني و الثالث و ذلك من قبيل إحداث شبكة للتعارف و التواصل عبر الإنترنيت أو إنشاء منتدى عنكبوتي للتعريف بالكفاءات المهاجرة ... ليبقى حال مهاجرينا هو هو و لتستمر حياة كل واحد منهم وفق ثوابت و خصوصيات بلدان الاستقبال. المهاجرون ليسوا في الواقع في حاجة إلى مجلس تمثيلي أو ممثلين عنهم بالبرلمان المغربي بقدر ما هم في حاجة إلى مؤسسات دستورية حقيقية بهياكل فعالة قادرة على التعاطي مع مشاكلهم الإدارية و القضائية و الاجتماعية التي يعتبر المغرب طرفا مباشرا فيها إضافة إلى تسهيل عبورهم إلى الوطن الأم و مواكبة استثماراتهم على أرضه، و أعتقد بأن ما تقوم به اليوم كل من كتابة الدولة المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج و مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج و مؤسسة محمد الخامس للتضامن يسير في هذا الاتجاه رغم محدودية الإمكانيات المادية و البشرية. و طبعا من البديهي الإقرار بأنه لا يمكن للدولة المغربية أن تكون حاضرة بكل النقاط التي يتواجد بها مغتربونا، و حتى إذا أمكنها التواجد بنقطة معينة فإن صلاحياتها و وسائلها لا تسمح لها بالوقوف عند مشاكل الجميع و الانكباب على حلها و ما تستطيع فعله فإنها تفعله عبر سفاراتنا و قنصلياتنا و باقي الهيئات ذات الصلة. أما أن نطلب منها مثلا التدخل لإلغاء إجراءات اتخذتها دول أخرى ذات سيادة أو لتجميد قوانين سنتها مجتمعات أخرى أو لوقف الميز العنصري ببعض الأصقاع فهذه مطالب غير واقعية لأن من اختار الهجرة عليه أن يقتنع بأنه طلق أرضا و احتضنته أخرى و بأنه لم يعد خاضعا لمنظومته الحضارية الأصلية و أصبح مطالبا بتبني منظومة أخرى بكل ما ينطوي عليه هذا الاختيار من إيجابيات و سلبيات و هذا ما يصطلح عليه بالاندماج. و من بين المطالب التي ترد إلى مسامعي من حين لآخر تلك الرغبة في إشراك مغاربة العالم في صنع القرار داخل المملكة، و هذا لعمري مطلب غريب خاصة عندما يصدر من مثقفين و مفكرين وأطر عليا اختاروا التجنس بجنسيات أخرى و يلحون على الاستمرار في العيش خارج الحدود و مع ذلك لا يخجلون من تنصيب أنفسهم كقوة اقتراحية. المغرب هو بلد من يمشي على أرضه و يستنشق هواءه و يستفيد مباشرة من خيراته و يكتوي مباشرة كذلك بنار مشاكله و يكد و يجتهد من أجل واقع مغربي أفضل، أما المهاجرون فمنطق الأشياء يقتضي بأن يندمجوا بمجتمعات الاستقبال و أن يناضلوا من أجل انتزاع الاعتراف بهم على كل المستويات و أن تكون لهم أصوات تدافع عنهم بالمؤسسات التشريعية لتلك المجتمعات و أن ينظموا أنفسهم محليا وفقا لما تمليه الظرفية و السياق العام بما أن مشاكل مغاربة المدينةالمنورة مثلا ليست هي مشاكل مغاربة أمستردام و ظروف إقامة مغاربة كوناكري ليست هي ظروف إقامة مغاربة موسكو. هذا و جدير ذكره بأنه من الطبيعي أن تظل جذور مهاجرينا ثابتة و حاضرة بدمائهم و أذهانهم، و من الطبيعي أن يظل حنينهم لوطنهم الأصلي قائما، و من الطبيعي كذلك أن ينشغلوا بقضاياه و أن تتولد لدى معظمهم الرغبة في اقتناء بيت على ترابه و التوفر في النهاية على قبر بأرضه أيضا لكن التجارب أثبتت بأن الوشائج التي تجمع المغترب بوطنه الأول تتلاشى مع توالي السنين و تصل حتما إلى مرحلة القطيعة التامة بعد ثلاثة أو أربعة أجيال. الإحصاءات أثبتت هي الأخرى بأن عددا كبيرا ممن يقررون العودة إلى أوطانهم الأصلية في صفوف الفئة العمرية المنتجة بالدرجة الأولى سرعان ما يحزمون حقائبهم من جديد و يقفلون عائدين إلى أوطان الاستقبال. فهل تعتقد عزيزي القارئ بأنه سيأتي يوم سيقرر فيه الرئيس الأرجنتيني الأسبق كارلوس منعم الاستقرار هو و عائلته بشكل نهائي بأرض أجداده سوريا على مرمى حجر من فوهات المدافع الإسرائيلية؟ و هل تظن بأن ابنة رشيدة داتي قد تفكر في المستقبل في إقامة مشروع محلبة أو مصبنة بأحد أحياء الدارالبيضاء أو الفقيه بن صالح أو بوجدور مع الإشراف شخصيا على إدارته؟ و من منا يعرف أو سمع عن أحفاد سعيد بن حدو ابن مدينة آزمور الذي يعتبر أول عربي حط الرحال بالقارة الجديدة و حكم فلوريدا إلى أن وافاه الأجل المحتوم في منتصف القرن السادس عشر؟ هناك بكل تأكيد فرق شاسع بين العلاقة العاطفية و العلاقة الفعلية، و علاقة المهاجر مع وطنه الأول من البديهي أن تتحول مع توالي السنين إلى علاقة افتراضية إذ لا فرق بين من يفكر في وطنه و هو يأكل خبزه في ربع ما من اسكندنافيا مثلا و بين من يدردش مع حبيبته و هو منزو بمقصورة بأحد "السيبيرات". و هذه المقارنة كثيرا ما تخطر ببالي عندما أتذكر صديقا إيطاليا ولد و ترعرع خارج شبه الجزيرة الإيطالية إلا أن من يستمع إليه و هو يتحدث عن جذوره أو يخاطب والديه بلغة روما يخال بأنه حديث العهد بوطنه الأصلي إلى أن يكتشف بأن رجلي صاحبنا لم يسبق لهما أبدا أن وطأتا التراب الإيطالي على الرغم من قرب تدشينه لعقده السادس. أما ابنه الوحيد فلم يحتفظ من خصوصيات الأجداد إلا بالإسم الذي يقوم بتحويره أحيانا ليتماشى و الأسماء الإنجليزية المتداولة بالوسط الأنغلوفوني الذي لم يعرف سواه. و هكذا، فإن الجسور التي تجعل ذهن المغترب بعالم و تجعل رجليه بعالم آخر جسور مهترئة لابد أن تنهار في يوم من الأيام تحت ضغط الزمان و منطق السوسيولوجيا و قوة الجغرافيا مهما انخفضت تكلفة المكالمات الهاتفية الدولية و الرحلات الجوية العابرة للقارات و مهما تشعبت الشبكة العنكبوتية و توسعت مسالكها و ازداد حجم صبيبها ... و مهما صغرت القرية العالمية.