تقديم يقوم دين الإسلام على كليتين جامعتين: كلية الإيمان، وكلية الحُكم، تتولى الأولى تهييء المسلم إيمانيا ليصير عبدا لله، مخلصا في عبادته له، بينما تنهض الثانية بتنظيم شأن الأمة لتكون أمة راشدة، وسيلة تحقيق العبودية هي الدعوة إلى الله، وآلة الاستخلاف الراشد هي الحكم بما أنزل الله. وكما لا يمكن أن تؤتي الدعوة ثمرتها إلا إذا قامت على التربية الإيمانية الإحسانية، فكذلك لا يصح أن يكون الحكم راشدا إلا إذا قام على العدل والشورى. فآلة العدل هي الحكم، ولا يتصور عدل بلا حكم عادل. لكن الحكم العادل الراشد مستحيل إلا أن يقوم على الاختيار الحر والشورى الملزمة، لا على الإكراه والاستبداد والوصاية. و لا يمكن للاختيار أن يكون حرا وللشورى أن تكون ملزمة إلا إذا كان الشعب حرا، حاضرا ومسئولا، ولا يمكن أن يكون الشعب كذلك إلا بتعاقد/ميثاق متين يجمع كل طوائفه وأطرافه بوعي وقصدية. فما طبيعة هذا الميثاق؟ وماهي أهميته؟ وماهي شروطه؟ وما العقبات المانعة لقيامه؟ لماذا الميثاق؟ الميثاق تعاهد أو تعاقد أو شراكة بين طرفين أو عدة أطراف تجمعها مقومات مشتركة، بحيث يلتزم كلٌّ من جهته بحفظ بنوده كقاعدة مشتركة يُسلِّم بها الجميع، وتستنبط منها باقي القواعد والقوانين. والميثاق الوطني تعاهد بين المواطنين على التحاكم إلى المشترك الجامع بينهم. قد يتساءل البعض لماذا هذا التعاهد أو التعاقد؟ أَوَ لسنا شَعبا واحدا؟ وكلنا مسلمون؟ ونريد مصلحة الجميع؟ هذا شعور طيب من الناحية النظرية، لكن الممارسة الميدانية لا تقوم على المشاعر الطيبة المجردة، وإنما -بالأساس- على المؤسسات الشرعية القوية، وهذه الأخيرة مستحيلة تماما إلا إذا تعاقد الشعب بكامل حريته ورضاه على ميثاقٍ جماعِيٍ مكتوبٍ، يحدد الأساسيات والأولويات والصلاحيات و الاختيارات والمطالب.... فالميثاق (التعاقد، التعاهد، التحالف...) ضروري ل: 1. جمع شمل الأمة، وتوحيد قدراتها في {كلمة سواء}، بلا تفاضل في العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة... 2. القيام بالواجب الشرعي والتاريخي والأخلاقي لإنقاذ الشعب من الغثائية والاستبداد والانتظار.. 3. البرهان على صدق النوايا في خدمة الشعب، والقضاء على السياسة الاستعمارية: "فَرِّقْ تسُدْ". 4. ترجمة الشعارات الاستهلاكية المُلهية إلى قرارات فعلية ميدانية مُلزِمة. 5. القطع مع إمكانات العودة إلى الاستبداد بأي شكل كان، سواء باسم الدين أو الوطن أو الحداثة ... 6. صناعة النموذج الناجح الذي يحتدى به في التوحد والتعاون والتنافس الشريف، درءا لداء التفرقة. 7. تفويت الفرصة على المتربصين الذين ليست من مصلحتهم وحدة الأمة ورقيها. 8. القدرة على تحمل المسؤولية الكبرى في البناء، والتي لا يستطيع حملها أي طرف بمفرده. 9. استفادة الشعب من كامل طاقاته وكفاآته وتنظيماته ومناضليه، واستيعاب جميع الرؤى المتباينة. 10. تخفيف التناقضات وتذويبها ما أمكن في أوراش ميدانية للعمل البنائي... هذه الشروط مجتمعة هي التي تؤهلنا لتأسيس ميثاق وطني فعلي وعقد اجتماعي حقيقي يكون صمام أمان من السقوط في متاهات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. توضيحات للتفاهم ولتيسير التفاهم أُذكِّر بهذه التوضيحات لعلها تُسهِم في مد الجسور وتقريب وجهات النظر: 1. الميثاق الوطني تعاقد بين أبناء الوطن الواحد لدرء الفتنة وخدمة الصالح العام، وهو واجب على المسلمين قبل غيرهم، سواء أَدُعُوا له أم كانوا هم الدعاة. فالذي له غيرة على وطنه لا يُهمه ما إذا كانت مبادرة الميثاق صادرة منه أو من غيره. قال صلى الله عليه وسلم: {ما كان من حِلفٍ في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة}. هذا في الجاهلية فكيف في الإسلام؟ 2. إرادة الميثاق لا يمكنها أن تتعايش مع إرادة الاستبداد. لأنهما إرادتان متناقضتان تماما، فلسفة الميثاق تستوجب تكافؤا ونِدِّية وشراكة متوازنة بين كل الأطراف، بحيث لا يُهيمن أي طرف أو يستعلي ويتعامل مع الآخرين كخُدَّام أو رعايا أو مساعدين. فإما وطن الميثاق أو وثن الطغيان. 1. ليس الميثاق هُدنة مؤقتة، وإنما هو عقد جماعي تاريخي دائم، يقطع كُلية مع عقلية الانفراد بالحُكم، فهو شرط ضروري للبناء حتى ولو انهار الحكم على يد هيئة معينة وسلَّم لها الخارج بذلك. 2. ليس الميثاق حزبيا، ولا تجوز تسميته كذلك، فهو ليس ميثاق جماعة العدل والإحسان ولا حتى ميثاق الحركة الإسلامية بمختلف طوائفها، وإنما هو ميثاق "جماعة المسلمين"، أي ميثاق الوطن الذي تشارك في صياغته وتتبعه واحترامه مختلف الهيئات الحزبية والنقابية والمهنية وغيرها... وهي كلها مسلمة ولا يجوز لأحد أن يفتش عن إسلام أحد أو يحاسبه في دينه. ميثاق أو استبداد مستقبلنا بين ثلاثة خيارات مُلِحَّة: إما استمرار حُكم المخزن على ما هو عليه وبالتالي استمرار نفس العار، أو الانتقال إلى حُكم الفوضى، وحرب الكل ضد الكل، وهذا لم يعد ممكنا وليست فيه مصلحة لأحد، وإما الانتقال إلى حُكم الشعب الذي يتأسس على قاعدة صلبة هي: ميثاق الوطن. إذن ليس أمامنا سوى التفكير بأحد المنطقين: - منطق المخزن: الذي يقول كما قال فرعون لشعبه العزيز: "لا أُريكم إلا ما أرى" ...أنا الشعب وأفعل به ما أريد وليس له حق الاختيار والمساءلة أو الاعتراض. أي أن الشعب شعب الحاكم، هذا الأخير الذي يستطيع أن يُضَحي بثلثي المواطنين ليعيش هو مع الثلث الباقي!!المهم عنده أن يكون ويبقى هوهو! منطق التعالي والتجبر{ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} القصص 38. - منطق الميثاق: فتكون الأمة (الشعب) هي المستخلفة التي تختار وتقرر، وليس الحاكم إلا خادما/أجيرا عندها ينصاع لاختياراتها، يقودها بالتعاقد المتفق عليه وينقاد لها. و{أولي الأمر منكم} تعني من بينكم، تختارونهم بكل حرية وشفافية وطواعية ممن لهم الأهلية و الدراية والحكمة. ولعل هذا المنطق لا يرفضه عاقل، لا في الشرق ولا في الغرب. ولا أدري كيف يلتف عليه من يعتبرون أنفسهم تلاميذ فولتير وديدرو ورُوسو ومنتسكيو؟ ألم يقل جان جاك روسو في كتابه الشهير التعاقد الاجتماعي: "الاتفاقات هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر" ؟(1) شروط الميثاق لا يكون الميثاق ميثاقا حقا إلا إذا كان يجمعنا ويستوعب اختلافنا، فهو لم يوضع لإزالة الاختلاف ومحوه من الوجود، وإنما لتنظيمه وتوجيهه وتجميع إيجابياته، لكن ذلك لا يمنع من وجود قاسم مشترك أكبر أو قواسم مشتركة كبرى تنتمي إليها جميع الأطراف ولو بتأويل مختلف. ومن بين هذه القواسم الضرورية: 1. الإسلام:فإذا قمنا نلتمس ما يجمع المغاربة ويوحدهم ويَسكن جوانحهم ويؤثر بعمقٍ في تصورهم وطموحهم واختيارهم ولا يرضون لأنفسهم الخروج عنه سنجده هو: الإنتماء للإسلام، ولا يقبل أحدنا أن ينعت بأنه خارج الإسلام ولا أن يقبل من يطعن فيه، وحتى إن وُجد من يقول بأن الإسلام لا يصلح لنا فليقلها أمام الشعب بحرية –إن استطاع- ما دام الشعب حاكما وليست محاكم التفتيش. وشرط الإسلام في الحكم لا يعني نموذجية طالبان والعنف والبدائية، مثلما لا يعني إسلاما استيهاميا ليس له من الحقيقة إلا الإسم. الإسلام يعني: العدل والحرية والشورى. 1. المروءة: لا يصلح لتحمل عبء بناء الوطن من لا مروءة له، والمروءة: العفة والخبرة، والخُلُق الحسن والكفاءة التخصصية، فمن الناس من له خبرة لكنه سيء الخلق (الإلحاد، الدعارة، التزوير...)، وهو"الفاجِر الجَلْد"، ومن الناس من له تدين لكنه عديم الخبرة (الثقة العاجز). كلاهما عبئان لا يُعَول عليهما في البناء. ومن المروءة نبذ العنف والفجور والاحتيال والاستغلال...و"من الجسور التي نمدها بيننا وبين الناس ونعتبرها مروءة ونتعامل على أرضيتها ونتعاون: الغيرة الوطنية.. على أرضية الإخلاص للوطن والوفاء له والاعتزاز بخدمته يمكن أن نمد جسورا للتعامل والتعاون مع ذوي المروآت والكفاءات وأن نتحالف معهم ونتعاهد".(2) ذو المروءة هو النظيف الخبير. 1. الشعب: لا مخرج من حكم الفرد وحكم القومية المستبِديْنِ "إلا إذا كان الشعب قادرا على التعبير عن إرادته" (3) و"كل حديث عن التغيير هَذَر بدون قاعدةٍ يتفق عليها السواد الأعظم" (4) أي حضور الشعب بداية ومسارا وتقريرا. 2. الحوار: إما الحوار العلني والجدي حول القضايا الأساسية والمصيرية وإما الطغيان...لمعالجة مرض الإقصاء والتهميش والرأي الأوحد والعبقري الأول... اثنان لا يقبلان الحوار: الظالم المتكبر والضعيف الماكر. وعالم الشرعية والمشروعية والمعقولية لا مكان فيه لأي منهما. 1. الوضوح: مِن أول يوم يجب أن يموت الغش، ويُدفن الغموض، وتُحَرم "الدَّهلزة" و"الكَولسة"، ينبغي أن تُطرح جميع القضايا للنقاش بلا محاباةٍ ولا مجاملةٍ، مادام الهدف نبيلا والشعب حاكما. 2. التغيير: يجمع جميع الناس في كل الحضارات على أن حكم الاستبداد ليس حكما راشدا، وبالتالي فالهدف المعلن من إقامة الميثاق هو تجاوز الحكم الفاسد إلى الحكم الراشد، أي التغيير إلى الأحسن والأرقى والأنقى "للتأسيس لنظام حكم راشد يحوز رضا الله ورضا الناس ويأمن في ظله الجميع". 3. المصير الجماعي: من معاني الميثاق الجمع والوحدة، فهو ميثاق جامع لتنظيمات متعددة، إسلامية وغير ذلك، في شكل "الجماعة الكبرى"، أو "جماعة المسلمين" التي تضم كل أبناء الوطن ممثلين في جبهات متنوعة. وهذا لا يعني إلغاء حق المعارضة، بل حفظه وضمانه سواء من داخل الميثاق أو من خارجه. 8- الدستور الشعبي: لا جدوى من الميثاق إن لم يقد إلى انتخاب جمعية تأسيسية تُوكل إليها صياغة مشروع دستور موحد ينص على فصل السلط وسمو القانون وضمان الحقوق والحريات ويقر التعددية وحق الاختلاف. في ضوء بنود الميثاق، ثم عرض المشروع على الشعب من جديد للاستفتاء عليه. من الأمة إلى الأمة. وإلا بربك قُلْ لي: هل الدستور الذي وضعه ثلاثة أشخاص يصح أن يقال له "دستور ديمقراطي"؟ وهل يصلح أن يكون دستور دولة عصرية؟ عقبات ولما كان هذا العمل بهذا الحجم فلا نتصوره قائما بلا عقبات وعراقيل تمنع تحيينه أو تدفع في اتجاه شَكْلنتِه أو تَتْفِيهِه وصدِّ الناس عنه. 1. العقبة النواة:عقبة حكام مستعلين على الشعوب، قابضين على كل السلط بآلية تعسفية هي آلية الوراثة، ولا يتعاملون مع المواطنين إلا بمنطق الاستخفاف والتجبر والطغيان. الحكم الجَبري سبب البلاء: قال الله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا}، فالعلو –وهو فقط في الأرض- سبب التفرقة والاستضعاف. لذلك يرفض الحكام أي انتقال حقيقي للبلاد. لا نحو الديمقراطية ولا نحو الإسلام. 2. العقبة النفسية (السيكولوجية): الخوف من عصا المستبد وقمعه أو الطمع في الجزرة التي يحِن بها على خُدامه الأوفياء (امتيازات مُغْرِية). هذه الممارسة أنتجت نفسيات الانهزام والاستقالة والسلبية.{إن فرعون استخف قومه فأطاعوه}. 3. عقبة مفتعلة تابعة:ضعف البنية الحزبية المغربية وتشرذمها وهرولتها الطوعية نحو الارتماء في حضن حامل السيف. بالإضافة إلى فراغ الساحة السياسية من نخبة نظيفة و قوية، حيث حرص المخزن مبكرا على تدجين أغلب الدكاترة والفنانين والرياضيين... 4. عقبة محيطة:وتتمثل في إكراهات الوضع الدولي، المائل المميل، الذي يكيل بميزان التطفيف في العالم، والمسلمون في دورة المغلوب، في العراق وفلسطين والصومال...، في موقع المُتهَم. فكيف يُقبل منهم الاقتراح؟ أم كيف يتحدثون عن دولة وخلافة؟ 5. عقبة ذاتية: ويفضحها الخمول الفكري والسياسي لدى بعض الإسلاميين، القاعدين أو المغفلين، الذين ينتظرون عالما نقيا دون جهد أو إعداد أو يستقيلون فاشلين من أية مهمة في التاريخ. ولدى الذين يظنون أن الحق والتقدم والديمقراطية والحداثة يمكن أن تؤسس على الإستبداد. 6.عقبة الثمن:ما تتعرض له القوى الحية في البلاد من اضطهاد يومي، جراء ملامستها جوهر الفساد في المغرب. (5) وجراء اقتراحها الحقيقي لإخراج البلاد والعباد من كارثة الحُكم الجبري المقيت. عجل الله لأمتنا بالفرََج. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه. 1- جون جاك روسو، التعاقد الاجتماعي، الفصل الرابع. 2- عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص608 3- عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص 592 4- ن.م ص581 5- جماعة العدل والإحسان –صاحبة اقتراح الميثاق الوطني- نموذجا.