رغم ما يتمتع به المجتمع المغربي من تنوع على صعيد بنيته الثقافية، لغويا ودينيا وفكريا، إلا أن هذا التنوع لا زال محاصرا ومقموعا من حيث التعبير والإفصاح عنه، فلا زال المجتمع يرسم صورا للسلوك السوي والسلوك الشاذ، فالدين هو الإسلام واللغة هي العربية والأغنية هي أغنية الرواد واللباس هو الحجاب .. إلخ، فهذه الأشكال الثقافية بالنسبة للمجتمع هي الأشكال السوية بسبب السلطة التي اكتسبتها عن طريق السيطرة على وسائل ترويج هذا النوع من الثقافة من تربية وتعليم وإعلام وتناقل الأجيال لشكل محدد من التاريخ ولنمط معين من الفهم، فاللغة الأمازيغية مثلارغم حضورها العددي ( أكثر من 60 بالمائة من الشعب ) إلا أن سلطتها محدودة لمحدودية حضورها في الوسائل الآنفة الذكر، مما جعلها تظهر مثل لغة شاذة وهامشية ولغة أقلية وتحظى بنصيب من السخرية والاستهزاء والنظرة العدائية، كما أن الأشكال الدينية الأخرى تكشف عن علاقة انفصامية معها، فاليهودية مثلا رغم حضورها التاريخي في المغرب، ورغم أنها ديانة أقلية ورغم أنها تحظى باحترام رسمي من الدولة تاريخيا بسبب قوة اللوبي اليهودي من الناحية السياسية والاقتصادية في إطار من تبادل للمصالح، إلا أنها لا تحظى بنفس الاحترام شعبيا، فلا زال هناك نمط سائد من الوعي يحقر اليهودية ويربطها بالنجاسة ويتعامل معها بعدوانية واحتقار، كما أن هذا الانفصام يتجلى في طريقة التعامل مع المسيحية وخصوصا مع الحركات التبشيرية التي تجرمها الدولة بتهمة زعزعة عقيدة مسلم، فإقناع المسيحيينبالدخول إلى الإسلام يعتبرونه هداية وفتحا من الله بينما إقناع المسلمين باعتناق المسيحية يعتبرونه ضلالا ومروقا وزعزعة لعقيدة مسلم.. وهذا كله يكشف عن مراكز القوة والسلطة التي يتمتع بها كل شكل ثقافي، فهذه الأشكال الثقافية تعبر عن نفسها وتعلن عن صوتها لأنها تمتلك سلطة وقوة على مستوى الوعي والتمثل المعززين بوسائل وقنوات التعبير من إعلام وتعليم وتربية وتنشئة اجتماعية، كما أن الأشكال الثقافية الأخرى تعلن عن هامشيتها وصمتها لأنها تفتقر إلى الآليات السابقة، لذلك فهذه الأشكال الثقافية ليست سلطتها في قيمتها الداخلية والذاتية لكن سلطتها في درجة حضورها في الوعي التاريخي وفي تواترها في التنشئة الاجتماعية وامتلاكها لأدوات التعبير ووسائل الترويج و آليات النقل والتبليغ، مما يجعل هويةالأفراد والمجتمعات سابقة على وجودها ودرجة استيعابها للتحول والتغير بطيئة ومرتبطة بالصدام وبالرغبة في الإلغاء والاجتثاث، وهذا يحيلنا إلى ثقافة الاختلاف، فهل نحن شعب يمتلك ثقافة الاختلاف؟ هل يؤمن بها فكرا وسلوكا ؟ باستعراضبسيط لوقائع قريبة من الزمن، نكتشف أن المجتمع المغربي لا زال بعيدا عن ثقافة التسامح والاختلاف، وعن استيعاب عناصر التنوع داخله، وعن وعي حركة التغير، فلا زلنا نتذكر قضية ما يسمى بعبدة الشيطان حيث تم عرض مجموعة من الشباب على المحكمة بتهم لها علاقة بالدين والاعتقاد، وكذلك ما أثير مؤخرا من لغط حول مجموعة من الشباب اتفقوا على الإفطار الجماعي في شهر رمضان وكذلك قضية المثليين الذين انتظموا في إطار جمعية تمثلهم .. فطفو مثل هذه القضايا على السطح يشير إلى أن المجتمع يؤسس لقطائع في الوعي وفي العلاقة بأشكال ثقافية ذات هيمنة وسلطة ويشير كذلك إلى التصادم مع هذه الأشكال وما يخلفه ذلك من قمع واجتثاث ومن انتصار لنموذج أحادي وجاهز، لأن هذه الأشكال الثقافية يصنفها المجتمع في إطار ( المروق ) و(الشذوذ) و(الكفر) مستندا في ذلكإلى سلوكات وتصورات سابقة يعتبرها سوية، فقياس سلوك الآخرين على سلوكنا بمنطق السوي والشاذ لا يمكنه أن ينتج سوى مزيد من الصدام والعنف، كما أن التفكير بمنطق التصنيف والفرز فيه مصادرة كبيرة لحرية الاختلاف وترويج لمشاعر الكراهية و إشاعة لسلوكات الاتهام والتخوين. فالمجتمع في صورته الصغرى ابتداء من الجار أوالصديق أوفرد من الأسرة.. هو من يقوم بوظيفة المراقبة قبل أن تقوم بها الأجهزة الرسمية للدولة، ويحاكم ويصادر مثل هذه الثقافات، إما برفضه الصريح أوإعلانه للقطيعة أوحتى بنظرات التشكيك والحذر واللجوء للهمس، فهو يراقب أجساد الآخرين ويؤطر حركتها ويرسم لباسها ويوجه ميولاتها، كما يراقب المعتقدات والقناعات الدينية ويحاكم النوايا ويؤول العبارة، فسلطة المجتمع هي أقوى وأفدح من سلطة الأجهزة الرسمية للدولة في عملية التوجيه والمراقبة ورسم لسلوك محدد ومعين ومصنف في إطار السلوك السوي، وهو ما يجعل من الإفصاح عن القناعات الدينية خاصة عملية محفوفة بكثير من المخاطرة على صعيد السلامة النفسية والجسدية أيضا، فتربيتنا الدينية محقونة بجرعات كبيرة من العنف، ابتداء من طريقة تمريرها على يد الفقيه والمعلم أوالوالدين، وانتهاء بحمولتها اليقينية والقطعية التي لا تترك مجالا للنقاش والاختلاف والانزياح . طبعا فإلى جانب المجتمع فإن الأجهزة الرسمية للدولة تقوم أيضا بوظيفة المراقبة للأشكال الثقافية لكن في شكلها العام والمكبر خصوصا فيما يتعلق بالتعليم وتحقيق التوازن بين الاتجاهات السياسة والتيارات الفكرية والإيديولوجية للجماعات، فكلنا نعرف كيف قامت الدولة سنوات المد الماركسي بالمغرب باجتثاث شعبة الفلسفة من الكليات وحصرها في كلية أوكليتين وتشجيعها بالمقابل للتعليم الديني وتخصيص كليات كاملة له أوما يسمى بكليات أصول الدين في إطار من فرض للتوازن بين الجماعات الايديولوجيا والاتجاهات الفكرية وإشاعة جو من المراقبة والحصار بين الخطوط والاتجاهات الفكرية الكبرى للتخفيف من حدة التصادم المباشر بينها وبين الأجهزة الرسمية للدولة وجعلها تنوب منابالدولة في القيام بمهمة المراقبة والقمع وصلت إلى درجة القتل المتمثل في الاغتيالات التي عرفتها الساحة السياسية والجامعية لمجموعة من الأطر الفاعلة إن المثقف الحق يجب أن لا يؤطر نفسه في إطار فكري أحادي وفردي منشغل ومهووس بالذات اللغوية والعرقية والدينية، ورافعا لشعاراتها ومروجا لأطروحاتها بمنطق الأعمى والتابع، بل يجب أن ينصت للتنوع ويشجع على الاختلافليس في العالم والمحيط فقط بل في ذاته نفسها، والأهم من كل ذلك أن يحارب من أجل حرية التعبير والإفصاح، والتنديد بما تتعرض له الأشكال الثقافية الأقل سلطة من قمع وحصار واجتثاث، رافعا مبدأ الحرية في التعبير قبل النظرإلى الموضوع المعبر عنه هل يوافق أطروحاته وقناعاته أم يخالفها