اختلفت آراء المحللين ورجال السياسة والاعلاميين في روسيا بشأن معاهدة ستارت الجديدة الموقعة بين موسكو وواشنطن لتقليص الأسلحة الهجومية الأستراتيجية، التي دخلت حيز التنفيذ رسميا السبت الماضي، بين من يراها طريقا فعليا أمام المزيد من التعاون الروسي الأمريكي السياسي والامني، وبين من يرى أنها فقط مجرد وثيقة تحمل بعدا رمزيا أكثر منه عمليا. ويحمل أصحاب مختلف الاراء مواقف متباينة من البعد الرمزي للوثيقة وكذلك من إطارها الأمني والسياسي ومدى قدرتها على تقريب وجهات نظر البلدين في العديد من القضايا السياسية والأمنية الدولية والإقليمية، منها على الخصوص ما يتعلق بمجال الدفاع الصاروخي في أوروبا أو بمجالات أخرى شائكة مثل الملفين النوويين لإيران وكوريا الشمالية وقضايا الشرق الأوسط والعراق وأفغانستان وغيرها. ويرى أصحاب الرأي المؤيد لأهمية توقيع المعاهدة أن التوقيع في حد ذاته يعد خطوة هامة في اتجاه تقريب وجهات نظر مسؤولي البلدين وزرع بذرة الثقة بين موسكو وواشنطن، وإزالة الحاجز النفسي الذي يعترض التوافق في شأن العديد من القضايا الدولية والإقليمية الملحة، كما أنه يعطي دفعا جديدا لارادة وعزيمة البلدين من أجل مواجهة تحديات كبرى يجتازها العالم ذات طبيعة اقتصادية وسياسية وامنية، ويجنب العالم الاختلاف بين روسيا وأمريكا الذي غالبا ما ينعكس بظلاله السلبية على مختلف البقاع لما للبلدين من تأثيرعلى مجريات الأحداث. وقال قسطنطين كوساتشوف، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الدوما في هذا السياق أن المصادقة على المعاهدة الجديدة بين روسياوالولاياتالمتحدة لتقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية ليست مجرد إجراء تقني بل تأكيد على الإرادة السياسية التي أبداها الرئيسان الروسي دميتري مدفيديف والأمريكي باراك أوباما عند توقيعهما المعاهدة في 8 أبريل 2010 في براغ وفلسفتهما في تدبير التعاون الدولي. وأبرز السياسي الروسي أن وجود تقديرات متناقضة لهذه المعاهدة في المجتمعين الروسي والأمريكي لا يقلل من أهمية الوثيقة التي تفتح، طريقا أمام المزيد من التعاون الروسي الأمريكي ليس فقط في مجال الدفاع الصاروخي بل أيضا في ملفات شائكة أخرى ينقسم حولها العالم والتي تضع العصا في عجلة الاستقرار والسلام والتنمية في العديد من مناطق العالم منها شبه الجزيرة الكورية والشرق الأوسط وافريقيا واوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. وأضاف أن التعاون في كل هذه القضايا وقضايا أخرى سياسية وأمنية حساسة كان موجودا من قبل من حيث الشكل ولكن مضمونه كان محدودا، وأن المعاهدة الجديدة بصفتها وثيقة تهدف إلى تعزيز الثقة المتبادلة ستؤثر إيجابيا على مجريات الاحداث العالمية والاقليمية وتحد من بؤر التوتر في العالم. ورأى رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي ميخائيل مارغيلوف ان عملية تبادل وثيقتي المصادقة على معاهدة ستارت الجديدة سبقتها محادثات روسية أمريكية حول عدد من الملفات المهمة مثل التعاون في مجال الدفاع الصاروخي وحل الأزمات في مناطق القرن الأفريقي والسودان والشرق الأوسط، مشددا على أن موسكو وواشنطن ستتمسكان بالتزاماتهما في إطار المعاهدة الجديدة، وهو ما سيعزز التوازن الأمني الدولي. ورأى المحلل السياسي يوري روغوليف أنه سيكون من الصعب منطقيا مواصلة التعاون الروسي الأمريكي في مجال الأمن إذا لم تبرم معاهدة ستارت الجديدة، وأن دخولها حيز التنفيذ يفتح آفاقا واسعة لتطوير هذا التعاون في المستقبل ويخفف من حدة التوتر الذي تشهده العديد من جهات العالم، وهو أمر يقوض الامن والاستقرار وامكانية التركيز على اليات التنمية التي يحتاجها العالم الان بوتائر أسرع . ومن جهته اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن المعاهدة تستجيب لمصالح الدولتين، وذلك انطلاقا من مسؤولية البلدين عن الأمن في العالم وتفتح الطريق كذلك لمواصلة السير في طريق تعزيز الأمن الذي أصبحت الحاجة ماسة اليه أمام الصراعات والمواجهات التي يعاني منها العالم. وفي نفس السياق، اعتبر نائب رئيس الحكومة الروسية سيرغي ايفانوف أن معاهدة تقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية "ستارت" هي خطوة أخرى نحو النزع الكامل للسلاح النووي، مشددا على انه "لا يمكن تحقيق إزالة كاملة للسلاح النووي، كهدف نهائي إلا في حال وجود استقرار استراتيجي والالتزام الصارم بمبادئ الأمن المتساوي وغير المجزأ بين الدولتين الذي يعكسه مضمون المعاهدة". وانسجاما مع الاراء الروسية التي تشكك نسبيا في البعد الايجابي للمعاهدة، قال الباحث الروسي في معهد دراسات القضايا الدولية ألكسي فينينكو إن دخول المعاهدة الجديدة لتقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية حيز التنفيذ "لا يعني فتح مرحلة جديدة في العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة، وإنما تؤكد فقط موقف الطرفين المؤيد للحد من انتشار الأسلحة في العالم"، مشيرا الى وجود عدد من الخلافات بين موسكو وواشنطن في ما يخص مسألة الدفاع الصاروخي التي تعد مسألة مبدئية بالنسبة لموسكو، وعدم الوصول الى حل توافقي بشأنها سيحتم على البلدين القيام بخطوة الى الوراء في تقاربهما الاستراتيجي الامني. وقال ألكسي فينينكو إنه إذا مارس الجانب الغربي، ويقصد الولاياتالمتحدة والناتو، سياسة فرض الأمر الواقع إزاء روسيا بخصوص الدفاع الصاروخي، فقد يؤدي ذلك إلى انسحاب موسكو من المعاهدة وتفاقم المزيد من التناقضات بين الجانبين، وهو أمر لا محالة سيكون له تأثير سلبي على ملفات سياسية وامنية تهم مختلف بقاع العالم. وأعلنت روسيا رسميا في العديد من المناسبات أن الحوار حول النظام الأوروبي للدفاع الصاروخي لا يجب أن يستخدم كوسيلة لابعاد الأنظار عن برنامج الدرع الصاروخية التي يضعها حلف الناتو والولاياتالمتحدةالأمريكية، مشددة على أن العمل المشترك يبدأ من التعاون بشأن الدرع الصاروخية بشكل "نزيه" ،منطلقا من الهدف المنشود وهو الوصول إلى مستوى التعاون الاستراتيجي. وفي حال استخدم الحوار مع روسيا كوسيلة لابعاد الأنظار عن برنامج الدرع الصاروخية التي يضعها حلف الناتو والولاياتالمتحدةالأمريكية، فسيكون هناك "خطر أن تضيع الفرصة الفريدة خاصة وان الحفاظ على التوازن الاستراتيجي ينطلق اساسا من سياق معالجة قضية الدفاع الصاروخي". ويؤكد اصحاب الرأي المشكك في الابعاد الايجابية للمعاهدة انه إذا أحبطت محاولات تنظيم عمل مشترك على قدم المساواة في شأن الدرع الصاروخية سيعاد سيناريو الماضي في المواجهات بين البلدين، الأمر الذي حذرت منه فعاليات سياسية روسية كثيرة ، التي اعتبرت أن مثل هذا الفشل سيقلص بشكل ملحوظ ليس فقط إمكانيات التعاون في مجال الرد على الأخطار الصاروخية ولكن في جميع الميادين المتعلقة بالتهديدات والتحديات الكبرى كالارهاب والقرصنة وانتشار الاسلحة النووية.