في الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات من داخل الأقطار المغاربية أو حتى من خارجها منبّهة إلى التكلفة الكبيرة التي يفرزها الجمود الذي أصاب مسار إستكمال بناء الصرح المغاربي، تسعى بعض هذه الأقطار إلى وضع المزيد من العقبات مدفوعة بنزعات حمائية قطرية لا تعكس في واقع الأمر إفرازا لمعطيات تثبتها قراءات واقعية لما يجري على الأرض بقدر ما هي إنكفاءات قطرية ضيقة تغذيها الشعارات السياسية. و ما ضعف المبادلات البينية بين أقطار المغرب العربي إلا تفصيل قد يبدو بسيطا أمام حالة الهشاشة التي يعانيها الإتحاد منذ تأسيسه. إن تكلفة اللاّمغرب، هذا المصطلح الذي وجد له طريقا إلى الأدبيات الاقتصادية، ترجمة دقيقة لحالة تبدو شاذة إذا ما قيست بوفرة العوامل المساعدة على تسريع عملية البناء و نعني بها المشتركات اللغوية و التاريخية و الجغراسياسية. غير أنه من الواضح أن الإتكال فقط على النوايا الطيبة هو بمثابة الوهم الذي لا يمنح حلولا. هو تمهيد رأيناه ضرورياّ لتناول القرار الجزائري الأخير والمتعلق بتحديد قائمة ب1141 منتوجا تمنع من الاستيراد بمزايا خاصة، أي من الإعفاء من الرسوم والتعريفات الجمركية، وهي أساسا المواد والمنتجات التي تنتج أو متوفرة في الجزائر. وإن كان القرار يشمل جميع البلدان العربية الموقعة على إتفاقية إنشاء المنطقة العربية الكبرى للتبادل الحر، فإنّ تونس ومصر معنيتان أكثر بالإجراء الجديد الخاص بالقائمة الخاصة بالمواقع الجمركية غير المعفية من الإعفاء، لكونهما أكبر مصدرين باتجاه الجزائر. القرار في حد ذاته يبقى أمرا سياديا، له ظروفه و ملابساته، و لكن الطريقة التي تم بها فيها العديد من المآخذ، خاصة و أن الجزائر و تونس مرتبطتان بإتفاقية تجارية تفاضلية تم توقيعها في 4 ديسمبر 2008، أي بالتوازي مع دخول الجزائر إلى المنطقة العربية الكبرى للتبادل الحر. و هو ما يلقي بظلاله على مستقبل العلاقات التجارية بين البلدين، في ظل التناقض الصارخ بين بنود الأتفاقية التفاضلية الموقعة بين البلدين و الإجراء الذي وقع إتخاذه مؤخرا. كما أن القرار قد تكون إستتباعاته جد كارثية على مستقبل العمل العربي المشترك من جهة، و على مسار بناء الصرح المغاربي من جهة أخرى، إذا ما سارعت البلدان العربية المعنية بإعادة "الهدية" إلى الجزائر و فرض القيود على الصادرات الجزائرية في إتجاهها. حماية الإقتصاد الوطني..أولوّية جزائرية الإجراء الجزائري الأخير لا يمكن بأيّة حال اعتباره سابقة بل يأتي في سياق جملة من القرارات التي عجز عن تشفيرها الشركاء التقليديون للجزائر. فمنذ الإعلان عن قانون المالية التكميلي في منتصف سنة 2009 و القاضي بتنظيم انتصاب المستثمرين الأجانب في الجزائر بفرض شريك جزائري بما نسبته 30% بالنسبة للشركات ذات الصبغة التجارية و 50% للشركات ذات الصبغة الصناعية، حتى سارع شركاء الجزائر إلى التعبير صراحة عن مخاوفهم مما إعتبر في حينه نزعة "عدائية" صريحة تجاه المستثمرين الأجانب و إرساء لتقاليد جديدة تسعى إلى إعتماد سياسة تأميم مقنعة. للتذكير فقط العديد من البنوك التونسية التي أعلنت عن مشاريع انتصاب في الشقيقة الجزائر سارعت بتعليق مشاريعها بعد صدور القرار. الجزائر دشّنت سنة 2010 بدخول إجراء آخر حيز التنفيذ، دائما في إتجاه تعزيز سياسة حماية الإقتصاد الوطني و الذي إتّخذ هذه المرة بعدا مجاليا مستهدفا البلدان العربية الموقعة إتفاقية إنشاء المنطقة العربية الكبرى للتبادل الحر. حيث أكدت عديد المصادر الإعلامية الجزائرية أن غرفة التجارة و الصناعة في الجزائر حددت ثلاث قوائم رئيسية تضمنت 1141 موقع جمركي تمنع من الاستيراد بمزايا خاصة، أي إعفاء من الرسوم والتعريفات الجمركية، وهي أساسا المواد والمنتجات التي تنتج أو متوفرة محليا، ويمكن أن تشكل خطرا على الإنتاج المحلي وتنافسها بصورة غير متكافئة. وتتضمن القائمة عدة منتجات غذائية وزراعية مثل اللحوم والسمك بأنواعها. الإجراء، الذي دخل حيز التنفيذ ابتداء من الأول من جانفي الجاري، يشمل تعليق واردات الجزائر من هذه المنتوجات من جميع البلدان العربية الأعضاء في المنطقة العربية الكبرى للتبادل الحر من دون إستثناء لمدة تترواح من ثلاث إلى أربع سنوات. عديد المصادر المطلعة في العاصمة الجزائرية أكدت في سياق التبرير لهذا الإجراء المفاجئ و الصادم، بأن الجزائر منذ توقيعها على الاتفاقية المذكورة مع البلدان العربية ، لم تجن سوى تدهور أطراف التبادل الخارجي. فحسب الإحصائيات التي نشرتها الوكالة الجزائرية للنهوض بالتجارة الخارجية، ارتفعت واردات الجزائر ب 28% مقابل تراجع صادراتها (دون احتساب المحروقات) نحو بلدان المنطقة ب63% . فالأشهر العشرة الأولى من سنة 2009 ، أفرزت ارتفاعا في قيمة الواردات التي بلغت 1,37 مليار دولار، في حين لم تتجاوز1,05 مليار دولار بالنسبة لكامل سنة 2008. علما و أن 90 % من الواردات الجزائرية تؤمنها خمس بلدان عربية هي تونس، مصر، المغرب، المملكة العربية السعودية و الأردن. أما صادرات الجزائر في اتجاه بلدان المنطقة فلقد شهدت خلال نفس الفترة انخفاضا هاما حيث بلغت ما قيمته 1,04 مليار دولار مقابل 2,18 مليار دولار لكامل سنة 2008. أما أكبر حرفاء الجزائر داخل بلدان المنطقة فهي تونس، المغرب، ليبيا، الكويت، سوريا و الإمارات العربية المتحدة. علما و أن تونس تأتي في رأس القائمة بحصة تقدر ب,5 تليها المغرب ب ,4 ثم ليبيا ب . هذه الإحصائيات إضافة إلى تصريحات المسؤولين الجزائريين غذت الخطاب السائد الداعي إلى وقف النزيف و اعتماد إجراءات مشددة حماية للاقتصاد الجزائري ووقف المخصصات الموجهة للتوريد نحو إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني و حماية المنتوجات الوطنية من منافسة البضائع العربية. و هو ما أفرز بالنهاية الإجراء الجديد الذي تعتبره عديد الأوساط المسئولة إيجابيا في حد ذاته ويأتي تلبية لمطالب المتعاملين الاقتصاديين لحماية الإنتاج الوطني. تونس و مصر تدفعان فاتورة "القومية الإقتصادية الجديدة " إذا كان القرار الجزائرية يشمل البلدان العربية دون إستثناء، فإن تونس و مصر تبقيان أهم دولتين معنيتين بالإجراء المطبق من قبل الجزائر والمتعلق بتحديد قائمة 1141 موقع جمركي غير معنية بالإعفاء والمرشحتين لدفع فاتورة تنامي موجة "القومية الإقتصادية الجديدة " في الجزائر. و بدرجة أقل تأتي المغرب و المملكة العربية السعودية. وإستنادا إلى ما أوردته الصحف الجزائرية مؤخرا، فإن تونس ستجد نفسها مجبرة للخضوع إلى الإجراء الجزائري في أكثر من صنف خاصة السمك و زيت الصويا والمارغارين والمياه المعدنية والمشروبات والأسمنت والعجائن والورق فضلا عن كافة أنواع النسيج والقطن والألبسة والأحذية وضمت أكثر من 50 موقعا جمركيا بهدف حماية قطاع النسيج والجلود، إضافة إلى الزجاج والمعادن جانب المنتجات الكهربائية والكهرومنزلية. و بالمثل ستكون مصر معنية بصادرات الزيوت و الخضر و السكر إضافة إلى الزجاج والمعادن و المنتجات الكهربائية والكهرومنزلية. أما المغرب فسيشمل القرار منتجاتها من الأسماك ومادة الكاولان المستخدم في صناعة الخزف والصناعة التقليدية و المارغارين إضافة إلى الزجاج والمعادن. أما بقية الدول العربية فلن يشملها الإجراء إلا في عدد محدود من المنتجات كالمياه المعدنية والمشروبات و العجائن (المملكة العربية السعودية)، السكر (والإمارات العربية المتحدة) و منتجات الورق و النسيج (ليبيا). الإشكال التونسي؟ يرتقب أن يسري القرار في مدة تتراوح ما بين ثلاث إلى أربع سنوات. و إستنادا إلى صحيفة الخبرالجزائرية فإن الجزائر فضلت تطبيقه آليا دون انتظار النظر فيه أو طرحه على المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة العربية الأمر الذي يرشح إلى أن اخذ المسألة حجما كبيرا في قادم الأيام ذي يرشح إلى أن اخذ المسألة حجما كبيرا في قادم الأيام إعتبارا إلى أن الدول العربية المعنية ستسارع إلى معاملتها بالمثل. غير أن الإشكال الحقيقي يبقى مع تونس التي ترتبط مع الجزائر باتفاقية تمنح البلدين مزايا جمركية خاصة. و إذا ما سارعت الجزائر إلى الإحتماء ببند الإنقاذ، ضمن إتفاقية المنطقة العربية الكبرى للتبادل الحر، أي ضرورة حماية جزء من الإنتاج المحلي، لتطبيق القرار، فإنها تضع مستقبل علاقاتها الثنائية "المتميزة" مع تونس على المحك ناهيك وأن أقطارا مغاربية أخرى معنية بهذا الإجراء. وهنا مرة أخرى يتعين التساؤل حول مصير العلاقات المغاربية التي ترفع جهرا النوايا الطيبة و شعارات الوحدة الفضفاضة و تمارس سرا تغريباتها الإقتصادية بعيدا عن أية رغبة حقيقية للإندماج. هذا التساؤل ينسحب قطعا على مصير العمل العربي المشترك، خاصة وأن الإجراء الجزائري، قد يكون السابقة التي تعجل بانهيار أحجار "الدومينو" ووأد التجربة التجارية العربية و هي مازالت بعد في بداياتها.